كوليرا القطيف 1970.. الرحمة سبقت العذاب

سالم الأصيل

 الأمراض والأوبئة تروح وتجيء؛ كلما عادت أسبابها، أو توافرت البيئة الخصبة لانتشارها وتفشّيها، عادت معها، فالضيف إنّما يحلّ بتوافر المضيف.!

في نهاية يوم عمل اعتيادي من العام 1970 ميلادية من القرن المنصرم، رجلٌ عاملٌ يقصد عمله غدوة وروحة كلّ يوم بين بيته ومطار الظهران، حيث مقرّ عمله. بينما كان يستعدّ لركوب الحافلة عائدًا، أُخبر أنه لن يكون بوسعه العودة لبيته في القطيف اليوم! والسبب؟

حجرٌ صحيّ على واحة القطيف، لا دخول إليها ولا خروج منها. وسيكون عليه البقاء في الـ “بَرَكْس”، والبَرَكْس هو موقع الإيواء، وهذه التسمية هي تعريب مأخوذ عن الاصطلاح الإنجليزي ” “Barracks Area، النُزُل المُعدّ له ولزملائه من عمّال المطار في مدينة الظهران.

بعد مضيّ ليلتين، لم تلائم شاهدنا العامل في المطار الظروف الإنسانية المهيأة للعمّال في الـ”بَرَكْس”، فقرّر على إثرها الانتقال إلى سكن عمّال وموظفين من القطيف كانوا يستأجرون شقة في الظهران، اتفق وإيّاهم على مشاركتهم النزل بقية الأيام التي اتصلت إلى عشرين يومًا وليلة قضاها في الظهران بعيدًا عن بيته وأهله، مقابل مشاركته رفقاء طلب لقمة العيش، و”الغربة” على حين غرّة، في “العزبة” من أجرة الطعام والسكن. حتى ينتهي أمر الحجر هذا.

تناقل الأهالي الخبر، ووصل خبر عدم تمكن العمّال القطيفيين إلى داخلها عائدين من مقارّ أعمالهم؛ وصل إلى والد هذا العامل، فصبر على ذلك، حتى تصرّمت عشرة أيام من فترة الحجر الذي فُرض على المنطقة ومُنع الابن من الوصول إلى خدمته؛ فما كان من الأب إلا أن طلب إلى ابنه ترك عمله، بالاستقالة والعودة إلى بيته. “إلى متى وأنت هناك؟!” لكن الابن لم يستجب، مفضّلاً الحفاظ على عمله.

يخبرنا شاهد آخر رحل عن هذه الدنيا، أنّ ثمة من حاول الدخول إلى القطيف، واحدٌ منهم لمّا وصل إلى الخيام المنصوبة عند مداخل القطيف الرئيسة على الطريق المُعبّدة بالإسفلت؛ أُرجع من حيث أتى.

يقول هذا الشاهد إنّ الحجر الصحي على القطيف استمر ثلاثة أشهر تقريبًا، ذقنا خلالها “المُرّ”، خصوصًا المزارعين الذين كانت مصالحهم وأرزاقهم في تصدير منتوجات مزارعهم ونخيلهم إلى سوق الدمام، حتى اضطر بعضهم إلى تجاوز القانون بإخراجها تهريبًا على ظهور الحمير عبر الطرق الزراعية السرّيّة نحو الدمام، ليبيعها ويحصل على أجرته التي اعتادها من بيعها.

شاهدٌ أخير، استهجن الحديث عن “سنة الكوليرا”، يقول: “وِشْ هي سنة الكوليرا؟ ولا شي! ما جت كارثة زي كورونا أبدًا.. هذي ما في دولة إلا دخلها.. لا طيران إلا توقّف.. حتى المساجد تسكّرت!” أما سنة الكوليرا، يستأنف حديثه: فالناس كانت تروح وتجيء، وحتى الحجر لم يكن شديدًا كما هو في كورونا المستجد!

نار الكوليرا!

القصة الشفاهية الشائعة على لسانِ غير شاهد، جاءت عيادة متنقلة من مستشفى القطيف العام إلى بقعة من بقاع جمع التمر المشتركة بين عوائل  المزارعين ويُطلق عليها “فَدَا”، بإشارة من الدكتور عبد الحكيم، وهو طبيب مصريّ الجنسية، كان يعمل مديرًا لمستشفى القطيف العام بالشويكة، وبعد الكشف عبر عيادته المتنقلة؛ أُمر أن يُحرق التمر في تلك المزرعة باعتباره ملوّثًا بــ “الكوليرا”. يقول الشاهد: بعدها صدر التعميم بالحجر الصحي على القطيف!

وإذا كانت العرب تشعل نار القِرى، فهذه النار التي أشعلها عبدالحكيم ما كانت إلا لطرد الضيف الثقيل، الكوليرا!

أُشعلت النيران في محصول التمر لبعضهم، ورفض ذلك آخرون!

 

صديق الكوليرا!

الكوليرا – بحسب مايو كلينك – مرضٌ بكتيريّ ينتشر عادة عن طريق الماء الملوَّث، تتسبَّب الكوليرا في الإصابة بإسهال وجفاف شديد. وإذا لم يتم علاجها، فإنّها يمكن أن تكون قاتلة خلال ساعات.

قُضي على المرض في البلدان الصناعية عبر الصرف الصحي الحديث ومعالجة المياه، إلا أنّها ما زالت باقية في البلدان التي ترزح تحت وطأة الفقر والحرب أو الكوارث الطبيعية التي ترغم الأشخاص على العيش في الظروف المزدحمة دون وجود مرافق الصرف الصحي الملائمة.

أما أبرز أعراض الكوليرا، فهي: الإسهال، الغثيان والقيء، الجفاف الشديد.

وإن لم تتسبّب بكتيريا الكوليرا في مرض الأشخاص أحيانًا، إلا أنّها قد تتسبّب في تلوث الطعام، وموارد المياه. وبحسب مايو كلينك أيضًا، قد توجد بكتيريا الكوليرا في: سطح التربة، أو مياه الآبار، وهذه مورد انتشارٍ واسعٍ لبكتيريا الكوليرا، أو تتواجد في المأكولات البحرية، الفواكه أو الخضراوات النيئة، أو في الحبوب كالأرز أو الدُّخن الملوثة.

أحياء يرزقون!

لا يذكر شهودنا أنّ أحدًا مات من أقربائهم أو معارفهم بهذا المرض في نوبته تلك، ونعني الأخيرة التي كانت قبل خمسين عامًا، في العام 1970م، أما قبلها، فقد كان الوباء نفسه ضيف المنطقة مرات عديدة، وحصد معه الأرواح.

كان من بينها، بحسب مادة منشورة في 23/4/2004م في موقع واحة القطيف، تنقل عمّا ورد في سجلات المعتمديّة البريطانيّة في البحرين الإحصاءات التالية:

–      انتشر وباء الكوليرا في القطيف، واستمرّ مدّة شهر (بين يوليو وأغسطس 1893م). معدّل الوفيات خلالها كان بين 10- 15 شخصًا يوميًّا، كما وصل في بعض الأحيان من 50 – 60 شخصًا يوميًا. كان ذلك فيما يوافقه من العام 1311 هجرية تقريبًا.

ثم ما لبث أن عاد مصاحبًا وباء الطاعون في عامٍ واحدة، ضيفًا ثقيلاً على البحرين والبصرة وموانئ أخرى تركية عثمانية آنذاك كالقطيف ودارين، ومات بسببه من مات.

كما عادت الكوليرا من جديد إلى البحرين بين عامي 1909 و1910 ميلادية، قبل أن تعود عودتها الأخيرة إلى واحة القطيف، في العام 1970 ميلادية.

بالبنط العريض!

 في الخامس عشر من شهر رمضان من العام الهجري 1390 هجرية، الموافق للثالث عشر من شهر نوفمبر من العام الميلادي 1970، أعلنت وزارة الصحة بالبنط الأحمر العريض عبر الصحف: “خلوّ المنطقة الشرقية من الكوليرا!”.

اقرأ أيضاً

الناجون المحظوظون من جدري القطيف خسروا نصف بصرهم.. وبشرتهم

[1] سنوات الملاريا.. “الأنثى الشرّيرة” تغزو القطيف في موجتين

[2] سنوات الملاريا.. شهادات عاملين في المكافحة

من تداعيات الجائحة

تعليق واحد

  1. لم تكن كوليرا ولم ينوم اي احد مصاب بالكوليرا. وكنا نذهب يوميا للاختبار في الدمام اختبار نهاية العام الدراسي للمرحلة المتوسطة.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×