من تداعيات الجائحة
سالم الأصيل
أن يتحوّل الخروج من البيت من فعاليّة يوميّة عاديّة أو طلبًا للنزهة إلى مغامرة أو مخاطرة تفرضها الضرورة والحاجة، أن يتحوّل “شمّ الهواء” إلى حبس الأنفاس توجسًّا مما قد يكون علق على الأسطح أو تطاير في ذرّات الهواء وتحمله الريح – كما يتوهّمه موسوس- من أنفاس المرضى، أو سعال الموبوئين.
من خروج المطمئن المزهو بنفسه وملكه إلى خروج الطريد الملاحق الخائف على نفسه من كائن متناهي الصغر.
أن تتحوّل مظاهر الحياة إلى مكامن العدوى والبلوى.
أن تبلُغ سُلطة الوباء تقاليد المجتمع وتعاليم الشريعة ولغتهما.
أن تتبدّل “في الحركة بركة” إلى “الزم بيتك”.
وتمتد سطوته لتحرّر نون النسوة من وحدتها لتصبح حكمًا عامًّا شاملاً الناس جميعًا، ذكرهم وأنثاهم، صغيرهم وكبيرهم، أن تستحيل النون إلى واو جماعةٍ يجب أن تتفرّق في منازلها؛ واو كبيرة مختومة بألف تسدّ الطريق وتحظر على الجميع حرية التجوّل تقول لهم: قرّوا في بيوتكم!
أمّا المُصافحة التي “تَتحَاتّ بها الذنوب والخطايا” فتُصبح فعلاً محظورًا بصفته ناقلاً الوباء يُنكره الشرع والعقل والناس؛ تأنف منه النفس التي لا تهون على صاحبها خشية احتمال تحاتّ الفيروسات في أكفّ الآخرين.
حوّل الوباء بقدرة قادر تشميت العاطس في الملأ والدعاء له بالرحمة إلى ما يقرب من شتمه ولعنه. من النظر إليه نظرة لطفٍ وحنوٍّ وتعاطف إلى نظرة توجسّ واتقاء ونفور.
من الدعاء للساعل بصحة موفورة إلى الفرار منه فرار السليم من المجذوم.
أن تتحول “حَيّ على الصلاة” في المسجد يا حبّذا، إلى “صلّوا في بيوتكم”، وهلمّ جرًّا ينقل الشرع من الأولي إلى الثانوي من أحكامه.
الوباء يجعل المحمود من زيارة الأهل والأصدقاء بل والأولياء وسائر صِلات ومتعلقات الحياة والأحياء ومعائشهم إلى أعمال مرذولة أو في صفة أدنى غير مسؤولة.
حوّلت المندوبات من الأمور، الطقوس والفعاليّات الجماعيّة بمختلف ألوانها الثقافيّة والدينيّة والاجتماعيّة إلى محرمات ومحظورات إلى حين.
وبعد أن كانت “اللمَّة عيد” صارت منذرًا بخطر أكيد!
*الخضّار ولمس الخضراوات*
– ارتدِ القفاز! قال زبون للبائع في محلّ الخضراوات بلهجة زجرٍ نفخها الخوف.
– نزعته الآن بعد شعور بحكّة في باطن كفّي. ثم إنّي لا أستطيع الحكم بجودة الفواكه دون أن ألمسها بأصابعي وأديرها في باطن كفيّ وأتحسّسها بجلدي.!
ردّ البائع منزعجًا ومبرّرًا.
وكأنه يقول رافضًا شبهة أن يكون ناقلاً للوباء: كفى أيّها الموسوس!
– حسنًا. اغسل يديك الآن قبل أن تلمس الفاكهة.
– غسلت يدي جيّدًا بالماء والصابون من هذا العام منذ بدايته.
غسلت يدي منه جيّدًا. ولست مستعدًّا أن أخاف أكثر. فالخوف هو الوباء الأخطر.
– يا لك من مستهتر!
الناس تخشى من الأعماق، من المحتجب اللامرئي.
تغيرّت تلك التي تكاد تكون مسلّمة باعثة على الطمأنينة، فالناس تعتبر العين المجرّدة شاهدًا أمينًا على ما يُتلقّى ومنه يُتّقى.
أما في وقت الوباء فمسّ الأسطح الظاهرة للعين مغامرة قد تكون غير محسوبة.
“تعتيب الأبواب” قد تفتح باب المرض، ومسّ مقابضها هي الأخرى قد تُحكِم قبضة العدوى التي باتت كامنة خلف الأبواب وماكثة في المقابض. و”الباب اللي يجيك منه ريح سدّه واستريح”.
الشارع الذي كان ممرًّا ومحطة عبور صار الخارج إليه شبيه المفقود والعائد منه بسلامة مولود.
يحرص المرء قبل خروجه إلى منطقة مُهدَّدة بعد أن كان يضبط حسن هندامه متمثّلاً في عقالٍ أو قُبّعة؛ أمّا في زمان الأوبئة فيتحسّس تاجه المُهدَّد غير المرئيّ (الصحّة) يتأكد مما يُبقي ذلك التاج على رأسه ثابتًا لا يهتزّ ولا يرتعش.
زعم البعض أنّ “الإنسان اجتماعيّ بطبعه” يجتمع إلى جمعه؛ يُصافح هؤلاء ويحتضن هذا ويُقبّل ذاك، فيجيء الوباء يغيّر من تلك الطبيعة، ويجعل من الاستثناء أصلاً إلى حين.
إنّها الطبيعة حين تهدم ما بناه البشر من سلوك حضاريّ زُرع في أرضها مدى الأعصر واتساع البقاع، فعادت تلفظه كما لو كان شرًّا.
في الزمان الذي يُباهى فيه ويُدعى إلى “التواصل” و”الاتصال” بمختلف أشكاله وألوانه؛ صار يُبشَّر بالتباعدُ طلبًا للسلامة.
أن تُقهَر رغبة الجماعات المحمومة في الاجتماع، ويحملهم على “حجرٍ قسريّ” لا مناص منه.
زمانٍ القابض منهم فيه على صحّته كالقابض على جمرة، و”يا روح ما بعدك روح”!
كفانا الله وإيّاكم شرّ الأوبئة والأسقام، وأزاح الغمّة عن كلّ الأنام.