الناجون المحظوظون من جدري القطيف خسروا نصف بصرهم.. وبشرتهم "سنوات قَشْرَهْ" هجمت على الناس وحصدت الأرواح بلا هوادة
سالم الأصيل
الجدري؟! ذاك “أخسّ وألعن” من هذا الذي نعانيه اليوم.
بهذا التعبير أفصح شاهدنا المعاصر لوباء الجدري في الأربعينيّات الميلاديّة من القرن المنصرم، مُقايسًا بين الجدري وجائحة كورونا المستجد.
كان مثله يحتمّ علينا ألّا نخرج ولا نخالط الناس، ولكن فقط في حال وجود الإصابة التي ستبدو ظاهرة على جسم المريض، بعكس هذا المتخفي كورونا.
زمان قمطرير!
في ذلك الزمان أيضًا، بذلت الأمهات جهدهن الجهيد لمنع أطفالهن من الخروج إلى الشارع. فلو أنشب الجدري أظفاره في بدن طفل، فإنه لا ينفك منه حتى يعود (الجدري) مبطاناً. فإن كان محظوظًا أكل من قدمه أو يده، وإن كان أقلّ حظًّا فسيأكل من وجهه ولن يبرحه إلا بعد أن يُغيّر معالمه، وأسوأ حظًّا منهما من سيلتقم عينيه حتى يطفئ نور بصره، والأسوأ منهم نصيبًا الذي يستوفي أكُلَهُ من الدنيا متأثرًا من أعراضه وآثاره.
يؤيد قول هذا الشاهد الأمين ما تقوله الإحصاءات من أنّ الجدري قتل 30% ممن أصيبوا به حول العالم*، كما أنه كان سريع الانتشار إلى حدّ مرعب، الفيروس الذي أرعب البشرية آلاف السنين، في القرن العشرين وحده، بحسب مادة نشرها موقع بي بي سي الإنجليزي بعنوان (Smallpox: Eradicating the Scourge القضاء على الآفة) قضى على حياة 300 مليون إنسان حول العالم!
تشخيص الجدري
ظلّ الجدري يفتك بحياة البشر ويعكر صفو من ظفر بحياته جرّاء الإصابة به، حتى جاء أبو بكر الرازي (864 – 930م) الذي كان أول من شخّص مرض الجدري**، واقترح أسلوب علاجه، ووفّر الخصائص السريرية لمَرَضَي الجدري والحصبة وبيّن الفرق بين أعراض وعلاج كلٍّ منهما، إلا أنه رغم ذلك لم يُقضَ على الجدري – بحسب مايو كلينِك ومنظمة الصحة العالمية – إلا بعد ما يزيد عن الألف عام؛ كان ذلك في عام 1980م الذي أعلنت فيه منظمة الصحة العالمية عن استئصاله من جميع أنحاء العالم، بعد حملة تحصين عالمية؛ عبر لقاحات وقائية.
ألوان من العذاب!
يصف شاهدنا المعاصر موجة شرسة من الموجات المتردّدة لمرض الجدري في الستينيّات الهجرية من القرن الماضي في واحة القطيف مرض الجدري بـ “الأقشر”.
كنّا نطلق على الناجي منه بعد أن يغادره “الرَمَحَه”، ذلك لأنه يُخلِّفه كما لو كان مطعونًا بالرُّمح. وهو على أية حال “سعيد” لأنه ظفر بحياته. كيف لا وقد حصد أرواح العشرات من الضحايا من أحبابنا، والأطفال بخاصّة! ذوي المناعة الضعيفة، والأطفال الذين لم تقوَ مناعتهم بعدُ لصدّ عدوان من هذا الفيروس اللعين. ولمّا لم يكن اللقاح قد وُجد بعد؛ كان المرض يجيء شرسًا يأكل من وجه وجسد المصاب.
“ما أنسى فلان ولا فلان”، يستطرد الشاهد، وبوسعك أن ترى آثاره في وجوه من تضرّروا منه، أو في أعينٍ نال من نور أبصارها. أو أنوفٍ قد تآكلت عرانينها، أو أيدٍ باعد بينها وبين أجذاعها.
يواصل سرده: بعينيّ هاتين الناجيتين، رأيتُ بعض الأهل يحملون إلى قريبٍ لهم أصيب بالمرض “مراحل” من الرمل يدفنون بها جسده الذي ملأه القيح.
أذهب الجدري بصر عيني عمّي، يقول شاهد آخر، كما أعطب أو أَعْضَبَ (وتعني قصير اليد في اللغة) يدي رَجُلٍ لُقِّبَ بهذا اللقب، أو لعلّهم قصدوا بهذا اللفظ الفصيح الجاري على ألسنتهم معنى مجازيًّا مشاراً إليه في الشرح: (عَضَبَ الشيء: أي قطعه).
كبار وصغار
تقول امرأة شاهدة، لا يصيب الجدري الصغار فقط، “حتى الكبار بعد!” وهي تصرخ منفعلة من هول ما رأت كما لو كان ذاك الذي رأته قد حدث اليوم، تقول: أذكر سعي امرأة ذهابًا وجيئة إلى نبع الماء “التوازي/ العيون أو الآبار الارتوازية” – إذْ لم يكن ماء الحنفيات قد وصل للبيوت بعد – مُهرولة حاملة دلاء الماء وأملاً خائبًا في إطفاء النار المشتعلة في جسد زوجها المسكين الذي يهرش البثور جرّاء شعوره بالحرارة التي تلتهمه، ولكن دون جدوى، ولمّا سُئلت من جاراتها عن سبب تردّدها الكثير على نبع الماء، أفصحت عن حملها الماء إليه طوال النهار، لعلّ حرارة جسمه تبرد!
ألف باء الجدري
ستحتاج الأعراض الأولى للجدري من 10 أيام إلى 14 يومًا من الإصابة بالعدوى، خلال فترة الحضانة التي تستغرق من 7 إلى 17 يومًا، هي فترة حضانة لا تعتلّ فيها الصحة، ولا تسبب العدوى للآخرين.
أمّا بعدها، فستظهر بشكل مفاجئ أعراض تشبه أعراض الإنفلونزا شاملة الحمى والصداع والإرهاق الحاد وآلام الظهر وربما التقيؤ.
وبعدها بأيام، “ستظهر تلك البقع الحمراء على اليدين والوجه والساعدين، ثم الجذع. قبل أن تتحول هذه البقع إلى بثور صغيرة – مسبّبة الحكّة- مليئة بسائل شفاف، يتحول بعدها إلى صديد. تبدأ تلك القشور في التشكّل بعد مرور 8 إلى 9 أيام، قبل أن تسقط في نهاية الأمر تاركة الندوب المنقّرة والعميقة في الوجه والجسم”.
أمّا وسيلة انتقال هذا المرض؛ فنتيجة انتقال عدوى فيروس يسمى “فاريولا”، الذي ينتقل غالبًا من شخص إلى آخر عبر التواصل المباشر. لذلك حرصت الأمهات على منع أطفالهن من الخروج من المنزل كلما سمعن بوجود حالة طفلٍ مصاب بالجدري بين أطفال الحي أو الأقارب، كما يُطلب إلى الطفل المصاب ألا يقصد المدرسة حال إصابته بالمرض.
أرامكو تشارك
يذكر كتابٌ مُوْدَع في مكتبة مجلس الشيوخ بالكونغرس الأمريكي من إعداد لجنة العلاقات الخارجية التابعة لها أنّ شركة أرامكو في مرحلة نشاط حزمة من الأوبئة والأمراض في المنطقة الشرقية، ونشطت أرامكو في مكافحتها قد أنفقت بين العامين 1955م – 1959م ثمانية ملايين ونصف المليون دولار تقريبًا. وإنه في الوقت نفسه الذي كافح فيه فريق برنامج مكافحة الملاريا في نهاية الأربعينيات الميلادية، خضع السكان لتطعيمات بلقاح الجدري في القرى نفسها التي خضعت للدراسة الاستقصائية.
يؤيد هذا ما ذكره توبي كريغ جونز في كتابه (Desert Kingdom – مملكة الصحراء) عن أنه في أواخر الأربعينيات؛ وفي الوقت الذي خضعت فيه المنطقة لاستقصاء الملاريا، ظهرت علامات الجدري على الزوّار العائدين من زيارة الأماكن المقدسة في العراق.
ويذكر الكتاب نفسه أنّ ريتشارد داغي (المدير الطبي في مشفى لشركة أرامكو آنذاك) استغرب عدم طلب سكان المنطقة المساعدة للإنقاذ من هذا الوباء الذي كان يلوح في الأفق القريب! فبادر على إثرها فريق داغي التابع لشركة أرامكو- استباقًا- إلى إطلاق حملة توعوية لتعليم سكان المنطقة الطرق الأنجع لمكافحة انتشار الجدري مستقبلاً.
وفي سبيل ذلك، شَرَعَ في عرض فيلم تثقيفي عن المرض للأهالي بعد أن تحصّل داغي على الموافقة التي تعذّرت أول الأمر.! الموافقة التي جاءت لاحقًا ولكن على عرض فيلم قديم من أفلام والت ديزني التي أنتجت أفلامًا تثقيفيّة صحيّة لمجتمعات أمريكا الجنوبية، الأفلام التي راوده الشكّ في فائدة عرضها وهي المُعَدّة للحديث عن طبيعة مختلفة عن طبيعة المنطقة. ورغم تلك الشكوك، يقول صاحب كتاب مملكة الصحراء، نجح الفريق في كبح جماح تفشي الجدري في المنطقة، بالرغم من ظهور المرض مجددًا بصفة متقطعة.
أما أحد الشهود على تلك المرحلة فيقول مجيبًا عن سؤال ما إذا كان قد شاهد هذا الفيديو أو لا: “أيّ فيديو يا ولدي؟ احنا كنا بالنا بال فيديو وإلا غيره؟!”.
“سنوات قشراء”، يقول الشاهد، نجّى الله منها البلاد والعباد!
__________
المراجع:
- موقع منظمة الصحة العالمية
- موقع مايو كلينِك
- * https://ourworldindata.org/smallpox
- ** موقع تاريخكم: مادة بعنوان: الرازي أول من أفلح في تشخيص وعلاج الجدري والحصبة.
- Technical Assistance Programs: Hearings Before the United States …, Volume 1, P 292
- Desert Kingdom, Toby Craig Jones. P 98-99