بناتنا في الصحراء 2] أفراح المسلم عبرت “مطانيج الصمّان” إلى هجرة غير موجودة في الخريطة معلمة "الخبيرا" واجهت العقارب.. فصل كامل بـ 4 طالبات.. البراقع لا تُنزع حتى مع النساء

إهداء إلى بنات القطيف اللائي واجهن الصعاب، وذهبن إلى مناطق نائية من وطنهنّ، ليشاركن في أداء رسالة الدولة في قطاعات التعليم والصحة والخدمات.

هذه قصة من قصص، تعمل “صُبرة” على توثيقها، احتراماً لذلك الدور الذي بذلته بنات القطيف.

صفوى: أمل سعيد

“في كل مرة أحزم فيها حقائبي وأصعد إلى (الباص) للذهاب إلى مدرسة تفصلني عنها مئات الكيلومترات يراودني السؤال نفسه؛ لم لا يدمجون الهجر القريبة مع بعضها بدلا من افتتاح مدرسة في كل هجرة؟!

عدد الطالبات قليل جداً والمسافة بين بعض الهجر ليست طويلة”، هذا التساؤل هو ما تضمره أحيانا وتبديه أخرى أفراح المسلم، معلمة الأحياء الدقيقة. وحديث النفس هذا له ما يُبرره عند أم لطفل لم يكمل عامه الثالث، اضطرتها ظروف عملها إلى أن تتركه عند أبيه وجدته 5 أيام في الأسبوع، ثم تعود إليه فتراه قد كبر كثيراً عن الأسبوع الفائت.

زوجها وابنها في الخبيرا عام 1415

زوجها وابنها عام 1445

القرار الصعب

تقول المسلم “وصلني قرار التعيين عام 1415هـ، بعد تخرجي بسنتين تقريباً، وبالطبع كان ترك أسرتي الصغيرة والناشئة للتو صعباً جداً، لكن الخيارات كانت محدودة أمامي، فإما أن أقبل بالاغتراب لمدة سنة دراسية، أو أن أبقى لأُداري بيتي وزوجي وطفلي”.

تكمل المسلم “لم يستغرق مني الأمر في حساب الزمن طويلاً، لكنه استغرق مشاعر كثيرة جداً، تزاحمت داخلي، بين الخوف على طفلي الصغير والقلق من مجهول لا أعرفه، والرغبة في حصد ثمار الجد والاجتهاد في سنواتي الدراسية، وتخطيطي لحياة أفضل، كل ذلك حسمته بعد أن عرفت اسم الهجرة التي تم تعييني فيها، فقلت على بركة الله، وختمت هواجسي بأن الحياة تتطلب منا أحيانا تضحيات، وصبر وجلد، وبمباركة من أهلي وزوجي كان خروجي الأول من البيت باتجاه الخبيرا”.

هكذا كان الطريق ترابياً ومليئاً بالنتوءات “المطانيج”

طريق التحدي

“كان الأمر الأكثر صعوبة في رحلتي الأسبوعية يبدأ من السعيرة، وهي القرية الأقرب إلى الخبيرا، قرية آهلة بالناس، وتعيش حياة أقرب إلى حياة المدن، ومنها تبدأ رحلة التحدي، فالطريق من السعيرة إلى الخبيرا هو بحر من الرمال الصفراء، ولأن خوض غمار الصحراء يشبه إلى حد كبير خوض غمار البحار فلابد من وجود قائد على دراية كبيرة بالمكان وطبيعة الأرض والاتجاهات، لذا استأجرنا سائقاً من السعيرة، يقيم معنا في غرفة متطرفة في سكن المعلمات، كنت أنا وسلمى الفرج من العوامية نعمل في نفس الهجرة، وكنا نستقل حافلة للوصول إلى السعيرة، ومن هناك يأخذنا السائق في سيارته إلى الخبيرا”، تكمل “وكأننا في رالي سيارات، أكثر من ساعة في قلب الصحراء نتهادى أو نتقافز على “المطانيج” وكأنها أمواج الرمال، وكان السائق حريصا على أن لا ندخل إلى الهجرة أو نخرج منها إلا والضوء موجود في الأفق، فلا مأمن من الضياع بحلول الظلام”.

 

الخبيرة كما كانت عام 1415

الخبيرا

هجرة الخبيرا التي تحولت بعد 30 سنة إلى مركز يضم العديد من المدارس ومركز صحي وبعض الفروع لمؤسسات خدمية، كانت عبارة عن هجرة صغيرة لا يتجاوز عدد البيوت فيها 20 بيتاً.

وبحسب المسلم فلم يكن فيها أي خدمة بدءاً من البقالات الصغيرة مروراً بصيدلية الأدوية ووصولاً إلى خدمة الهاتف، لا شيء على الإطلاق.

تقول “رغم أن كل الخدمات تقريباً غير متوفرة إلا أن السكان، مع عددهم البسيط، يعيشون حياة وادعة، فالنساء يقضين نهارهن في إدارة بيوتهن والزيارات الاجتماعية، وطوال فترة إقامتي في الخبيرا لم أر وجه امرأة من غير برقع مهما كان الوضع الذي نحن فيه، فالبرقع لا يفارق وجوههن، أما الرجال فكان الرعي هو الحرفة الأولى والبارزة لهم، وقطعان الأغنام تنتشر في شرق الهجرة وغربها”.

وعن حياتها في الهجرة تقول “كانت الحياة فارغة تماماً من كل شيء، كنت أعيش مع زميلات لي من محافظة القطيف في بيت صغير، والروتين اليومي لا يتغير، ومن شدة الفراغ كنا نتعمد تأجيل تصحيح الدفاتر وتحضير الدروس إلى ما بعد العودة إلى البيت، مهما طال وقت الفراغ في المدرسة، كي نملأ بعض الساعات الباردة، فلا زيارات ولا تسوق ولا ترفيه، حتى الاتصال بأهالينا كان شاقا جداً، فمن ترغب منا بالاطمئنان على أسرتها عليها أن تقطع مسافة تربو على الساعة، وتذهب مع السائق إلى السعيرة لتتصل من هناك، وخلال سنة كاملة خرجت مع زميلاتي مرة واحدة فقط، فقد كنا مدعوات في بيت زوجة أمير الهجرة على وجبة الغداء، وبصدق كانوا كرماء جداً ويشبهون المكان الذي يعيشون فيه؛ بسطاء للغاية”.

المدرسة الأولى

لم تكن المسلم تسرد قصتها فقط بل كانت أشبه بمن يحكي تاريخ مكان، وعن المدرسة التي عملت فيها تقول ” كانت مدرسة وحيدة مبنية من الطابوق والإسمنت، كان البناء عادياً جداً، يشبه أي مبنى قديم، غرف صغيرة ونظيفة، وساحة المدرسة كأنه حوش منزل صغير”.

تكمل “كنا 3 معلمات سعوديات والباقيات من دول الشام ومصر، ومديرة المدرسة كانت من الأردن، وبعد تلك السنة صدر قرار بتوطين إدارة المدارس، أما عدد الطالبات في الفصل فكان يتراوح بين 4 و5 طالبات، وفي الغالب يتم دمج الفصول، والغريب بالنسبة لي وقتها أن الصف الرابع كان يحتوي على أكبر كثافة طلابية، حيث وصل عدد الطالبات فيه إلى 13 طالبة، ربما يبدو لمن يسمع الرقم الآن أنه عادي، لكننا لم نره كذلك حينها، بل على العكس كنا نجده كبيراً جداً، مقارنة بعدد الطالبات في الفصول الأخرى وأيضا مقارنة بعدد البيوت في الهجرة، لذلك لم يكن الصف الرابع يدمج مع أي فصل آخر”.

لا يسمعك أحد.. لا يطخوك

 وبضحكة يملؤها الحنين إلى ذكريات وتفاصيل بعيدة جدا تقول المسلم “ولأننا في هجرة  صغيرة وسط الصحراء فإن التوجيه يحضر إلى المدرسة مرة واحدة في السنة، فتأتي مجموعة من الموجهات، قادمات من الحفر، ويصلن المدرسة صباحاً وهن متعبات من وعورة الطريق وطول المسافة، ومع ذلك فلابد أن ينهين ما جئن لأجله، ويحضرن لكل معلمات المدرسة في ذلك اليوم، ولا يغادرن حتى تمسك المعلمة المناوبة بصفارتها وتنفخ فيها وهي تمشي بين الفصول، وكانت هذه المهمة تدور على كل معلمات المدرسة‘ فكل يوم هناك معلمة مسؤولة عن حساب وقت الحصة والخروج بالصافرة وتنبيه الباقين إلى بداية الحصص ونهايتها”.

وتضيف “أمّا أسماء الطالبات فكانت حكاية وحدها، وكأن الآباء يتبارون في من يسمي ابنته الاسم الأصعب أو الأغرب، وفي يوم كنت في غرفة الإدارة أراجع بعض الأوراق ورأيت كشفاً بأسماء الطالبات، فقلت للمديرة مازحة: ما شاء الله هالاسم جميل، سألتني عنه، فأجبتها نجلاء سمير، ضحكة عندها المديرة وقالت لي، ليس هكذا ينطق الاسم، فاسم الفتاة نجلا اسمييير، وانتبهي أن يسمعك أحد، لا يطخوك.

العقارب

“كان أكثر شيء يخيفني في ذهابي إلى الهجرة، وخاصة في البدايات هو العقارب السامة، سمعت كلاماً كثيراً عن وجود أعداد كبيرة منها في الهجر، وفي أرض الواقع فقد كانت فعلاً موجودة ونراها تتسلل بل تعبر بهدوء بين حين وآخر، حوش المدرسة، لكن، ولله الحمد، انتهت سنة اغترابي دون أن تمسسني بسوء، ولم أسمع عن حادثة بسببها طوال إقامتي هناك”، تختم المسلم “كانت سنة قاسية ومتعبة، لكنني أعتز بها جداً، على مستويين، الأول أنها دعمت تجربتي النفسة وصقلت شخصيتي، والثاني أنها أتاحت لي الفرصة أن أكون عنصراً أساسياً في بناء النشء، فلا شيء يعادل أن تبدأ من الصفر في المكان، المعلمون الأوائل كانوا فاعلين بقوة في بناء الوطن”.

صورة أخرى للزوج والابن قبل 30 سنة

اقرأ أيضاً

بناتنا في الصحراء 1] مليكة الصادق: نخوة بدوي في خيمة أنقذتنا من رمال “لَجَعْ”

تعليق واحد

  1. قصة نجاح ثانية تعود بنا الى الزمن الجميل
    تمنيت لو تم ذكر تفاصيل أكثر , على كثر المشقة في الماضي والغربة الحقيقية على جميع الأصعدة , غرربة ثقافة وأماكن نائية وقل الوصل مع الأهل . إلا أن ذلك لم يمنع الباحث عن الوظيفة في ذلك الزمان من التضحية والمغامرة في سبيل الحصول على وظيفة .

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×