[3 _ 3] إنجيل داغستان
محمد الماجد
(انجيل داغستان)، هذه هي الكلمة المناسبة لهذا الكتاب، لهذه القلعة الآفارية المحصنة، مع الاعتذار لرسول حمزاتوف الذي أفرغ نصف ذخيرة هذا الكتاب وهو يحارب جيوشاً من الكلمات باحثاً له عن تسمية، فتحدث طويلاً عن كيف ولد هذا الكتاب وأين، في معناه والغرض منه، في شكله وكيف يجب أن يكون، الأسئلة عينها التي كانت يقصد من وراءها فرش الطريق أمام هواة الكتابة للتعرف على أسرارها الخلاقة، حيث سيجد القارئ كيف أن رسولاً كان مشغولا بالتعريف بماهية الكتابة، بعيداً عن أعراض الشكل وتداعيات المادة، لاحق ينابيعها وأنهارها الغائرة في جسد داغستان، وبمهارة صائد جبلي متمرس استطاع أن يصطاد قطعاناً من الكتابة النافرة، لم يتململ خلالها أو ينال منه التعب.
ومن كان يرى رسولا مثلي وهو يعمل بكل تلك الحماسة والجد، كان سيحسبه خائفاً من نفاد الوقت، أو أن القيامة ستثور غداً، وهذا ما حدث بالفعل، ولكنها كانت القيامة الخاصة برسول، فتمكن أخيراً وبعد كل هذا الذي عاناه من أن يطلق على كتابه عنواناً يبدأ بــ (داغستان) وينتهي بــ (بلد-ي)، النسبة التي أراد لها أن تكون صريحه وحادة، أما أنا فلم يكن لديَّ ذريعة لنعته بالإنجيل سوى ذريعة القارئ الذي أردت له أن يعرف أي حرارة ينطوي عليها هذا الكتاب، أي نار، وكم على ضفتيه من الأعراق والقبائل الداغستانية التي ما إن يهمَّ القارئ بفتحه حتى تهبّ لاستقباله مثل طوفان أسطوري، وكأن سد يأجوج ومأجوج قد فُتِحَ للتّو !!.
وقعت عيني على الإنجيل بعد فترة طويلة من النكران والجحود، فاستغربت كيف لكل هذه القبائل والقوميات والجبال التي كانت تسكن هذا الكتاب أن تكون قريبة مني كل هذه السنين دون أن أتمكن من سماع أغاني الجبليّات، ولا حمحمة الخيل، وحتى دون أن تتسلل هذه الأساطير المشحونة بالغواية إلى مخدعي، حسرة تأكلني على ينابيع الشِّعر الآفاري واللاكي وغيرهما من القبائل الداغستانية، كيف لم أشعر بحرارتها، ولا بأجساد الداغستانيات المزروعة على حواف ينابيعها مثل أغماد من البرونز، اكتشفت كم كنت أصمّاً وأبكماً، وآن لي الآن فقط أن أستنفر جميع حواسي من أجل البقاء منتبهاً، أراقب سطور هذا الكتاب كيف تجري في فيالقها الجبيلة، وشِعر حمزاتوف كيف يشعل مواقد البيوت، أغانيه التي لا تنام، وعلى الأخص، سأظل مصغياً لكل ما يلقيه ذلك الشاعر اللاكي أبو طالب من حِكَم ومآثر خالدة.
لهذه الرواية الآفارية ضفتان كما ذكرت، فقد قسّمها رسول إلى كتابين: الكتاب الأول، والكتاب الثاني. ولن أخفي انحيازي للكتاب الأول، فزيادة على كونه خزانا ثقافياً داغستانياً، فهو أشبه بكود أو بروتوكول خاص بكيفية الكتابة الإبداعية، ولن أتردد في إدارجه ضمن منهج أي ورشة مهتمة بتقنيات ومواصفات الكتابة الخلّاقة، ففيه من الإرشادات والخبرة ما يكفي ليحيل حافر الحمار إلى مخلب نمر، والخردة إلى منجم من الذهب، وكل ما هو واجب على هذه الورشة أن تدعو كل من يرغب في كتابة رواية، أو شِعر، أو مقال، او أغنية، ليتعلم من رسول حمزاتوف كيفية القيام بذلك في مهارة قاتل محترف دون أن يترك أثراً لجريمته.
أما الكتاب الثاني فأستطيع تشبيهه بكلب شيبرد، الألماني الذي يتمتع بمخزن ضخم من حواس الشم، وقد أطلقه رسول دون لجام في السهول المنبسطة كما في الجبال والجحور الضيقة، في مخادع النساء كما في الاجتماعات القبلية، ليتعقب رائحة الكلمات الأكثر حضوراً في الهوية الداغستانية، ولكني، ومع اعتذاري لإخلاص شيبرد ومهارته التي لا يرقى إليها شك، لم أجد في هذا الجزء من الكتاب إلا تدويراً لمفاهيم وأفكار تم استيعابها في الكتاب الأول، وقد تم اعادة زرعها وانتاجها هنا تحت عناوين مختلفة، ثم جاء دور مناخات الثورة البلشفية لتغطي بقية تخوم الكتاب.
هل بالغ رسول في تبجيل داغستان، وفي تمجيد الثورة البلشفية التي وحدّت القوقاز، وأقفلت باب تاريخها المليء بظلم القياصرة الروس وبغارات تيمورلنك، والعرب، ونادر شاه، بقفل يصعب على أحد فك لجامه لأن خيوله كلها أصبحت الآن مربوطة في موسكو، ربما بالغ رسول، ولكنها المبالغة التي لا مفر منها لعبور اللغة والسماح لها بالإقلاع والطيران، وأكاد من هنا – وقد بلغت حافة هذه الرواية الداغستانية – أن أقول بأن هذا الكتاب قد وجه صفعة قوية لكل ما تتّسم به الحداثة من صلف وعنصرية خاصة في تصوراتها الأكثر تطرفاً لمستقبل القصيدة حين جعلتها حكراً على التأويل البودليري، طاردةً بذلك كل ما عداها من الاقتراحات، التقليدية منها وغير التقليدية، حتى أصبحت قصيدة النثر في مجمل تطبيقاتها أقرب إلى الآلة الصماء منها إلى الكائن الحي، قصيدة تكاد تفرغ من أهم طموحاتها الكونية: القيام بخلخلة مدارات اللغة وأجرامها. حيث أصبحت أشبه بـــ إليان (Alien) غير مروّض، أفلت من سجنه الكوني ولكنه الآن ينزف ويكاد جلده يتفسخ تحت لهيب خسارته للمواجهة أمام مخلوقات بدائية مثل ألحان البوليرو والرعويات الداغستانية.
لرسول أن يفخر بأنه حاول أن يعيد كل تلك الأجرام التي عبث بها بودلير إلى مداراتها، دون أن يتفوّه بكلمة واحدة ضد جوهر قصيدة النثر، فكلنا يعرف أن لا أحد يمكنه ذلك، غاية الأمر أن حسّاً فطريّاً وبوهيميّاً قاده إلى الدعوة للمصالحة بين الأجناس الأدبية: للغناء حين يشاء، ولقول الشعر حين يشاء، ولصعود المسرح حين يشاء، وربما قام بكل هذه المهام دفعة واحدة وفي نص واحد، وهذا ما قام به بالفعل في هذا الكتاب.
حديث أمس
حديث أمس الأول