رابع دمعة نخيل في القطيف.. وداعاً سيد “الجَيْرزان” حجي سعيد العسيف "يسفّ" عامه التسعين قبل العيد
القطيف: شذى المرزوق
حتى آخر يومٍ في حياته؛ بقي متعلّقاً بالنخيل، وبـ “الجيرزان”. وحتى حين عجز عن المشي؛ اعتنى به أبناؤه ليأخذوه ـ على كرسي متحرك ـ إلى مسرح حياته وسط النخيل والخُضرة. وعشية أمس الأول، السبت، كان اسم “حجي سعيد العسيف”؛ علامة حزنٍ، في رحيل ينطوي على إشارة خسارة حقيقية.
ليس لأنه أشهر صانع سلال جيرزان على مستوى الوطن السعودي فحسب؛ بل لأن هذه الحرفة ذات الإرث العميق، قطيفياً، باتت مهدّدة عملياً، بخطر الاختفاء.
رحل الحاج سعيد العسيف، ليكون رابع أربعة من فلاحي القطيف الأصلاء الذي انتقلوا إلى رحمة الله في شهرين، وثالث راحل من بلدة التوبي عيناً، في المدة نفسها.
العسيف في أواخر حياته
أحقاً تشتاق الأماكن؟
إن كان الأمر كذلك؛ إذن ستشكو جدران مهرجان الجنادرية المقبل، فراغ المكان الذي خلّفه الحاج سعيد عبدالله العسيّف، “النخلاوي” الأصيل الذي أنجبته قرية التوبي الخضراء، الذي رحل عن عمر قارب الـ90 عاماً، أمضى معظمه في تعلم و احتراف” سفافة الجيرزان والأسل” عاكفاً على صناعة سلال متنوعة بأحجام مختلفة، حيث اشتهر بمشاركته ـ رحمه الله ـ في المهرجانات والمحافل الوطنية التي تسلط الضوء على هوية المملكة وموروثات مناطقها المتعددة.
مهرجان الجنادرية
وقد سجل مشاركته لسنوات طويلة في المهرجان الوطني للتراث والثقافة “الجنادرية” في الرياض، حيث كان من الحرفيين القلة الذين بدأوا مع بدايات المهرجان وواظب على المشاركة فيه لعقدين من الزمن؛ يُعرّف الزوار على طريقة “صناعة السلال”، مقدماً بذلك نموذجاً حياً للحرّفي الأصيل الذي عشق أرضه وتعلم الكثير من نخيلها، وحافظ على إرثه منها.
سفير السلال
آل عسيّف سفير السلال التراثية بالقطيف، مثل نموذجاً فريداً في إحياء التراث التقليدي والفلكلوري وتحديداً في صناعة “الجيزران” التي تكاد تكون من المهن المنقرضة الآن، بفعل عوامل التعرية الحداثية مجتمعياً، ولكونه أحد الرموز الحية لهذه الصناعة حظي بتكريم خاص من وزارة الثقافة كأحد 10 رموز حرفية سعودية تقليدية، وحظي بشرف استقباله ـ ضمن الوفد ـ من لدن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز شخصياً عام 2016م، بوصفهم امتدادً للموروث السعودي الأصيل.
لقاء العسيف بالملك ضمن وفد الحرفيي السعوديين في 2016
وجه منحوت بالتعب
وحضر في العديد من المهرجانات بمختلف المدن والمحافظات منها مهرجان النعيرية، ومهرجانات في عنيزة، بريدة، الأحساء والرياض.. عدا المهرجانات المحلية داخل القطيف.. ومثلت ملامح وجهه المنحوت من تعب السنين ومشقة العمل، أيقونة الفلاح الكادح الذي نال إعجاب العالم في صورة شهيرة التقطتها عدسة الفوتوغرافية زهراء القطري، ونشرتها قناة ناشيونال جيوغرافيك بعد أن تصدرت المراكز الأولى من المسابقة الفوتوغرافية التي أطلقتها القناة في أغسطس 2014 م.
الصورة التي حازت على المركز الأول
ومع أن الصورة رسمت جانباً من هوية القطيف التي جسدّها العسيف بارتدائه الملابس الريفية الخفيفة للفلاح البسيط، المكون من ثوب بإزار يتوسط جسده الضعيف، وشماغ ملفوف على رأسه بشكل شبه مهمل، ويدان مشغولتان بلف الأسل على الجيزران، إلا أنها لم تروِ حكاية الأب الذي سعى جاهداً ليعول 5 من الأبناء و5 من البنات، متمسكاً بالحرفة التي أجادها إضافة لعمله في النخيل.
العسيف وأولاده أثناء ممارسته لمهنة صناعة السلال
جوانب من المسيرة
وللتعرف أكثر على مسيرة أيقونة التوبي الشهيرة، التقت “صُبرة” ابنه البكر، محمداً، ليعطينا نبذة عن الجوانب الأخرى في حياة والده الراحل، فيذكر في البداية، أن والده ورث “الصنعة” عن جده المرحوم الحاج عبدالله سلمان العسيف، بعد أن بدأت بوادر شغفه لتعلمها وهو في سن العاشرة، وظلت ـ بعد رحيل الجد ـ هواية لديه قبل أن تصبح مهنة بعد الفلاحة.. مشيراً إلى أن تعلم واحتراف صناعة العمل بـ”الجيزران” لم تقتصر على والده فقط، بل شملت أشقاء الوالد وتحديداً العم مهدي (أبو حسين) الذي امتهن صناعة السلال في السنوات الأخيرة، بينما قضى الوالد جل عمره في ذلك إضافة لعمله فلاحاً.
أثناء ممارسته مهنة الفلاحة أواخر الشباب
وأوضح محمد: عُرفت عائلتنا بارتباطها بالأرض، والنخيل، فبينما يقضي أعمامي مهدي وعلي وقتهما في رعاية “نخل اسبينة”، كان والدي يعمل في نخل “اكنيذ” في بلدة التوبي، وهناك أيضاً يقضي وقته في صناعة السلال، حتى وهو يعمل مراسلاً في ابتدائية البحاري، إذ ما إن كان يعود ـ رحمه الله ـ من عمله في المدرسة، حتى يتوجه عصراً للنخيل، ويكمل عمله هناك، وظل هكذا إلى أن تقاعد من عمله في المدرسة، وبقي بين النخيل، والأسل، والجيزران.
أثناء ممارسته العمل في نخيل (اكنيذ)
شاقة.. ولكن؟
يعود الابن محمد للإشارة إلى جانب آخر من حياته، فيقول: علمني والدي طريقة صناعة السلال، ومع أنني أجدت العمل فيها، إلا أن هذه المهنة الشاقة لا تفي بمتطلبات الحياة، ولا يمكن الاعتماد عليها مصدرًا وحيداً للرزق، لذلك عملت في إحدى شركات القطاع الخاص بالجبيل، أما والدي ورغم تقدمه في العمر، فقد عكف لسنوات طويلة وهو يعمل بجهد وبشغف في المهنة ذاتها، وكثيراً ما كنا نشفق عليه ونحن نراه ـ رحمه الله ـ محني الظهر منكباً على صنعته لساعات كثيرة دون أن يقصر أسرياً يوماً معنا، إذ ظل يعتني بنا، وسعى جاهدًا لتوفير احتياجاتنا المتعددة من هذه المهنة البسيطة بابتسامته المعهودة.. واستدرك: من هذه المهنة تربينا وكبرنا حتى اعتمد كل واحدٍ منا على نفسه.
تجميع عيدان الجيرزان
وأبان: كنا نمضي وقتنا كله في المزرعة بجواره، نساعده في تجميع الأسل الذي كان من الصعب الحصول عليه بسهولة، اذ ينمو في أماكن أقل ما توصف بأنها “خربة”، نصبغ الأسل ونجففه، ونجهزه للعمل على صناعة السلال، وفي المزرعة نقطع معه الرطب، ونصنع التمر، هكذا كنا في كنفه، حتى صار يعتمد علينا في عمل النخل، فيغادرنا مطمئناً للمشاركة في إحدى المهرجانات ونبقى نحن لرعاية النخيل الذي لا نزال قائمين عليه حتى اللحظة.
مع ابنه محمد في صرام النخيل
“صندقة” العمل والذكريات
يصمت محمد قليلاً وكأنه يسترجع حنيناً إلى قيمة معنوية ونفسية معينة، ويشير إلى زاوية من النخيل، ويقول: هنا.. تجدون “صندقة” ـ غرفة من الخشب ـ فيها كان يعمل والدي، ماإن تدخلها حتى تجدها مكتظة بعيدان الأسل والجيزران.. وأيضاً بعض السلال التي أنهى بعضها، وأخرى لم يمهله القدر لإكمالها.. وتجدون أيضاً بعضاً من ذكرياته التي كان يعتز بها كثيراً.. بطاقات مشاركته في مهرجانات متعددة، شهادات شكر حصل عليها.. وكلها حرص ـ رحمه الله ـ على تعليقها على جدران الغرفة الصغيرة لتكون شاهداً له وعليه.
صناعته للسلال في الصندقة
ويلتقط محمد أنفاسه لينوه بفخر: تعدت مشاركات والدي الفعاليات الوطنية إلى مشاركات خليجية في قطر والبحرين والإمارات، وكان سعيداً جداً حين ضمت قائمة الحرفيين اسمه بين الذين اختارتهم وزارة الثقافة للقاء الملك سلمان ـ حفظه الله ـ عام 2016، حيث تشرف باللقاء والسلام على خادم الحرمين الشريفين وبقيت هذه الذكرى في داخله مصدر اعتزاز له.
وأكمل بحزن: لن أرى رجلاً مثل والدي، كرس كل حياته لنا، كان قريباً منا يمنحنا الثقة والاطمئنان، متواضعاً، طيباً، ليناً في معاملته للجميع، باختصار ” أب ما في منه”.
الفقيد في سطور:
- ـ أشهر صانع سلال الجيرزان على مستوى المملكة، قضى عمره في المحافظة على موروث القطيف في صناعة الخوصيات، وبالذات “سلال الجيرزان”.
- ـ ثالث أخوة يشتغلون في هذه الحرفة التي أوشكت على الانقراض، ويعمل أخواه في نخل في قرية التوبي اسمه “باب اسبينة”، فيما كان يعمل هو في نخل آخر.
- ـ شارك لأكثر من عقدين في مهرجان الجنادية ضمن “بيت الشرقية”، ونُشرت له صورة فوتوغرافية على نطاق عالمي عبر مجلة “ناشيونال جيوغرافيك”. وامتدت مشاركاته لتشمل بعض دول الخليج.
- ـ اهتمت به وزارة الثقافة، وضمته ضمن وفد أشهر 10 حرفيين سعوديين ليقابل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز عام 2016.
- ـ برحيله خسرت القطيف ثالث فلاح من بلدة التوبي، ورابع فلاح من القطيف في غضون شهرين، اذ رحل موسى آل شيف ( الخويلدية)، ومسلم الجارودي ( التوبي) في مارس الماضي، ليلحق بهما قبل أسبوع طاهر الدلي الذي عمل في نخل الحشيفية في بلدة التوبي، وبعده مضى العسيف بعد معاناة مع المرض.
المهندس نبيه البراهيم
بعد انتشار خبر وفاته غرّد عضو مجلس الشورى المهندس نبيه البراهيم قائلاً: رحم الله الحاج سعيد العسيف من أهالي قرية التوبي محترف صناعة السلال الخوصية وهي إحدى الصناعات الحرفية التي تتميز بها محافظة القطيف منذ القدم والتي أوشكت على الإنقراض برحيل ممتهنيها.
الدعوة لدعم هذه الحرفة بتسويق منتجاتها وتوجيه الشباب والشابات خصوصا أبناء الأسر المنتجة لإتقانها.
مذكور بالخير
عبدالله شهاب
وقال عنه الناشط عبدالله الشهاب: الحاج سعيد العسيف جدير بالذكر بعد وفاته، ونشر جزء من تاريخه في الحرفة النادرة “صناعة السلال”، وقد يكون هو آخر من بقي من الحرفيين القدامى، وبموته يمكن أن لايكون له خلفاً، حيث توفيرحمه الله بعمر قارب 90 عاماً.
وأوضح الشهاب: أول بدايات ظهور العسيف اجتماعياً أثناء مشاركته في مهرجان التراث الذي نظمته خيرية القطيف، في نهاية الفترة التي كان فيها محمد بن عبدالرحمن الشريف محافظاً للقطيف، وأول بدايات عبدالله العثمان.
حيث كان يقام المهرجان في مثل هذه الليالي الرمضانية قبل ذكرى وفاة الإمام علي -عليه السلام- بأسبوع تقريباً،
وتحديداً مع بداية تولي المهندس عباس الشماسي رئاسة الجمعية حيث أحيا هذا الجانب التراثي بشكل كبير، قبل أن تبرز هيئة السياحة، ولربما المهندس صالح أبو عزيز يسترجع بدايات العسيف حيث تم استقطابه مع مجموعة الحرفيين، في مهرجان التراث المقام حينها في حي البحر،
لافتاً أن عمر مشاركة العسيف في المهرجان تعود لحدود 18-20 سنة تقريباً، هذا عدا مشاركته في مهرجان الجنادرية بالرياض، أما في القطيف فقد شارك في واحتنا فرحانة، والدوخلة، ومهرجان البراحة في النسختين الأولى منه.
وأكمل: رغم تقدم العمر به إلا أنه كان مشاركاً فعّالاً عرف بتواضعه، وأريحية تعامله -على سجيته وطبيعته-، رحمه الله رحمة الأبرار.
وعن مهنة صناعة السلال علق الشهاب: أخرج العسيف هذه الحرفه الجميلة بشكل جميل، وبذوق وتناسق في الألوان، وهي حرفة مثلت هويتنا في القطيف المرتبطة بالنخلة والتراث.
من الاستعدادات التي يقوم بها لصناعة السلال “تجفيف الأعواد”
حياته بين النخيل و الجيزران
جانب من حياة الفلاح
شغفه بصناعة الجيزران
اقرأ ايضاً
[فيديو] السيد طاهر المدلّي.. نخلاوي آخر يغادر “اشْروْبَهْ”…!