مريم السيهاتي.. سرق السرطان منها 15 غدة.. وانتصرت عليه أمضت ربع قرن وشهرين في جولات متلاحقة مع «قاتل النساء الأول»

سيهات: شذى المرزوق

قبل ثلاثة أيام؛ «هلّ هلال» شهر أكتوبر، الذي يعني الكثير لـ مريم أحمد حسن السيهاتي، السيدة التي تقاعدت قبل 63 يوماً، لكنها لم تقرر التخلي بعد عن محاربة خصمها العتيد؛ السرطان، الذي خاضت معه جولات وجولات ضمن حربها معه الممتدة طوال ما يربو على ربع قرن، على الصعيدين؛ الشخصي والمهني.

لكن؛ ما حكاية مريم السيهاتي (50 عاماً) مع أكتوبر «الوردي»؟

تعالوا نروي لكم الحكاية، بما فيها من تفاصيل؛ فهي تفيض تحدياً، إصراراً، شجاعة، عطاءً، وإنجازات، وأيضاً آلاماً وصعوبات..

طوال شهر أكتوبر؛ ترتدي مدن العالم اللون الوردي، رمزاً للتوعية بسرطان الثدي، هذا المرض الذي يصيب سنوياً حوالى مليون امرأة حول العالم، ويُعد أكثر أمراض السرطان المُسببة لوفيات النساء.

مريم، إحدى المُتعافيات من سرطان الثدي، الذي أصيبت به عام 2006، ولكن علاقتها بالمرض بدأت قبل ذلك؛ فهي كانت تعمل في مختبرات مجمع الدمام الطبي (مستشفى البرج).

مريم السيهاتي (يسار) مع إحدى زميلاتها في العمل.

رغم مرور 15 عاماً على الإصابة والتعافي؛ فإن المرض لم يؤثر على روحها «المُتحفزة»، لكنه ما يزال يؤثر على جسد السيهاتي، خصوصاً جانبها الأيمن، حيث استأصل الجراح 17 غدة ليمفاوية، لمنع تمدد السرطان من الثدي إلى بقية الجسم.

مع ذلك؛ بقيت مستمرة في العمل الذي شُغفت به طوال 25 عاماً وشهرين، وحتى بعد تقاعدها؛ هي ناشطة في جمعية السرطان بمحافظة القطيف، وفي حملات أهلية للتبرع بالدم. فيما يواصل ولداها وابنتها المسيرة، وإن في تخصص آخر بعيد نسبياً عن مجال أمهم؛ الهندسة.

خطاب تهنئة لمريم بالتخرج من جامعة الملك فيصل (الإمام عبدالرحمن حالياً)

من الجامعة إلى الوظيفة

في 31 يوليو الماضي، أنهت مريم مشوارها الوظيفي بالتقاعد. هذه المسيرة بدأت في شهر مايو من عام 1997، عندما شغلت وظيفتها في مختبر مجمع الدمام الطبي، بعد نيلها شهادة البكالوريوس في تقنية المختبرات الطبية، من جامعة الإمام فيصل بن عبدالرحمن في الدمام، ضمن الدفعة الثالثة في تاريخ الجامعة، التي كان اسمها حينها؛ جامعة الملك فيصل.

تقاعدت بعدما تخرجت على يديها دفعات ودفعات من المتدربين والمتدربات، من كليات، جامعات، ومعاهد حكومية وأهلية، إضافة إلى منشآت حكومية، متخصصة في مجال المختبرات، فمختبر البرج الطبي – حيث كانت تعمل – يُعد محطة تدريب تخدم شمال المنطقة الشرقية، وبعض مناطق المملكة الأخرى، ومنها حائل وجازان.

مسيرة تربو على ربع قرن حافلة بالإنجاز والعطاء والتحدي.

مناصب وتكريم

أُسندت إلى مريم السيهاتى مناصب عدة، وتلقت خلال مشوارها الوظيفي خطابات شكر وتكريم عدة أيضاً، ففي عام 2009 حصلت على أول خطاب شكر ودرع تكريمي من الكلية الصحية للبنين في الدمام.

قالت لـ«صُبرة» «مع أنني شغلت منصب منسقة التدريب في المختبر، من 2007 حتى 2021، وذلك نظراً لظروفي الصحية؛ إلا أنني حصلت في 2010 على شهادة تكريم من معهد السباعي في الدمام، فيما حصلت على أخرى في 2014، من المدير العام للشؤون الصحية في المنطقة الشرقية، وحصلت أيضاً على «بدل التميز». أما في 2019؛ فنلت شهادة تكريم من قسم المختبرات الطبية في جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل بالدمام».

مناصب عدة شغلتها مريم خلال 25 عاماً وشهرين، ففي 07-05-2020 شغلت منصب مساند وداعم ومدرب لمشرف بنك الدم بالمختبر حتى 15-11-2020. كما كانت مسؤولة التطوع في قسم المختبر في مجمع البرج الطبي من 07-12-2020، حتى تقاعدت في 31-07-2021، وشغلت منصب منسقة التدريب في المختبر وبنك الدم حتى آخر يوم في مشوارها المهني، مضيفة «اعتز في خدمة الوطن والمجتمع، المرضى، المتدربين، والمتدربات».

تحدي «الموظفة الأولى»

تحدي الظروف؛ عهد عاهدت السيهاتي نفسها عليه، لم تقبل أن تخسر النجاح رغم كل الظروف، كانت الموظفة الأولى في تخصص تقنية المختبرات الطبية في مدينة سيهات، بعد تخرجها عام 1995. حينها كانت أماً لطفلة (مجد)، أنجبتها عام 1991، وهي الآن بدورها أماً لثلاثة أطفال: صالح، فاطمة وجمان الراشد. كما رزقها الله بعد ابنتها بولدين؛ ابنها الأوسط؛ محمد من مواليد 1997، يدرس حالياً في أميركا، فيما ابنها الأصغر؛ حسين من مواليد 2003، ويدرس هو الآخر في السنة الثالثة في الجامعة التي تخرجت أمه منها، الإمام عبدالرحمن بن فيصل بالدمام.

عن ثيمتي الأمومة والوظيفة؛ أشارت إلى أنها كانت تعانى في تدبير شؤون البيت. كانت بأمس الحاجه إلى عاملة منزلية، تخفف عنها الأعباء. إضافة إلى عدم توافر سائق خاص، تحديداً في السنوات الأولى من الوظيفة، في ما لا توجد حضانة، كما لا يوجد مدرسين أو مدرسات لتدريس أولادها.

رغم ذلك؛ قالت «مرت السنوات تباعاً، تليها سنوات، وتأقلمت مع كل هذه الظروف والصعوبات. واليوم؛ الحمد لله أبنائي شقوا طريقهم في الدراسة، جميعهم في مجال الهندسة، ولدي أحفاد رائعين كذلك».

تحدثت عن عراقيل أخرى في بداية سنوات عملها، تتلخص في «الاختلاط مع الرجال في ممارسة العمل، في الوقت الذي كانت فيه هذه الأجواء أمراً جديداً على مجتمعنا، فضلاً عن طول أوقات الدوام الرسمي، فهو يبدأ من السابعة صباحاً إلى الثالثة مساءً، والإجازة يوم واحد في الأسبوع فقط؛ الجمعة، عدا عن المناوبات المسائية بالنسبة لأم لديها أطفال، ويتوجب عليها متابعة دراستهم. لم يكن الأمر سهلاً».

أما على مستوى العمل؛ فأوضحت أن الطريقة المبدئية في المختبر كانت «أمراً مُتعباً، لعدم توافر الأجهزة آنذاك، ما يتطلب جهداً أكبر ووقتاً أطول، ودقه أكثر».

لكنها تجاوزت كل تلك العراقيل والصعوبات؛ «كان لدي شغفي بالقيادة والعمل بروح الفريق الواحد، وهو ما ساعدني على تجاوز كل العثرات، متسلحة بما حظيت به من الحب والاحترام من الزملاء في عملي، وهذا هو أحد أسرار نجاحي».

خطاب شكر تلقته السيهاتي لإسهامها في تدريب طالبات التخصص من جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل.

أبناء وبنات المهنة

وإذا كانت مريم أماً بالرحم لشابين هما: محمد وحسين، إضافة إلى اختهما الكبرى؛ مجد، أبناء علي صالح الحكيم؛ فإن السيهاتي تعتبر نفسها «أماً أخرى لأبناء وبنات المهنة» الذين تدربوا على يدها، واحتضنتهم أثناء فترة التدريب والتمكين الأساسي في العمل.

تشعر اليوم بـ«الفخر بهذه النخبة من المتميزين: المتدربين والمتدربات، وغالبيتهم من محافظتي القطيف والأحساء، فالجامعة تقبل الطالبات الحاصلات على المعدل العالي في التخصص، وبأعداد محدودة، وأحياناً تتعثر الطالبة حتى تصل إلى السنوات المتقدمة في دراسة التخصص، ولا تكمل مشوارها الدراسي».

وتنوه إلى أن بنات القطيف، سيهات، العوامية والقرى الأخرى في محافظتي القطيف وكذلك الأحساء، الذين يسكنون الدمام هم أكثرية طلبة جامعه الأمام عبدالرحمن، والذين دربتهم، إضافة إلى طلبة المعاهد، الكليات والجامعات الأخرى.

تتذكر منهم: كوثر السادة، زهراء الموسوي، وزهراء المبارك، واللاتي وصفتهن بـ«رمز الأدب والأخلاق، ومثال لطالبات العلم، المتفوقات والمثابرات، والأكثر انضباطاً في أنظمة وسياسات المختبر. وهن من الدفعات الأولى التي تدربت في المستشفى، إضافة إلى حب التعلم والمشاركة والعطاء والتعاون؛ أرى فيهن الوجه المشرف والمشرق لبنات المملكة الحبيبة التي نفخر بهن».

خطاب شكر آخر تلقته مريم من كليات الغد الدولية للعلوم الطبية التطبيقية في المنطقة الشرقية، لتدريبها طلبتهم.

رحلة علاج لمدة عام

في خضم هذا العطاء الوظيفي؛ توقفت مريم السيهاتي سنة كاملة، بعد اكتشاف إصابتها بسرطان الثدي، كان ذلك في أواخر عام 2006، اعتبرتها «رحلة للعلاج والتعافي»، بعد أن حاصرها المرض، وسلب منها قوتها وطاقتها، وأنهكتها جلسات العلاج الكيماوي منه.

تركز المرض في الجانب الأيمن من جسمها، تحديداً اليد اليمنى، حيث استأصل الجراح 17 غدة ليمفاوية، للحيلولة دون انتقال السرطان من الثدي إلى بقية الجسم، منوهةً إلى أنها كانت آنذاك في عامها الـ33.

رغم الظروف الصحية التي ألمت بها، والعراقيل التي واجهتها؛ فهي «شغوفة» بعملها، لم تتذمر يوماً، لم تطلب إجازة خلال سنوات العمل، إلا «مُجبرة»، عادت بعد سنة 2007، لتكمل مسيرة العطاء.

عادت لتحقق إنجازات عدة، نالت التكريم عليها، مشيرةً إلى «الدعم العائلي»، الذي رفع مستوى طموحها لمستويات أكبر، لتحقق هذا «التميز»، ولتتجاوز به محنتها، وصنعت منه «دافعاً للتنافس وإثبات الذات»، حتى لا تكون أقل إنتاجاً في العمل عن بقية زملائها وزميلاتها، على حد تعبيرها.

وأشارت إلى ما بعد عودتها من فترة العلاج، قائله «أسندت ليّ رئيسة المختبرات في المجمع الصحي عملاً مختلفاً، يتناسب مع الظروف الصحية التي كنت أمر بها، مع صعوبة العمل باليد اليمنى، فاستلمت مهام منسقة التدريب للمتدربين والمستجدين في العمل منذ 2007، حتى تقاعدي في شهر يوليو الماضي».

حفيدها صالح الراشد؛ من ابنتها مجد.

تقاعدت.. لكنها لم تتقاعد

فور تقاعدها؛ بدأت مريم السيهاتي، التخطيط لشغل أجندتها بمهام جديدة، ورغم مرور حوالى شهرين فقط على التقاعد من وظيفة منسقة تدريب مختبرات وبنك الدم في مجمع الدمام الطبي؛ تواصل مريم اليوم إقامة الدورات، والتنسيق لفعاليات تقتل بها الملل والفراغ المصاحب لعالم التقاعد، فهي لم تعتد البقاء بلا عمل، وخدمة الناس، وتقديم المساعدة لكل من يطلبها، وحتى من لا يطلبها.

فإذا كان بعض الموظفين يميل إلى الراحة بعد سنوات وسنوات من التعب في العمل؛ فان مريم لا ترى هذا «مناسباً» لها، بعد أن اعتادت لما يتجاوز ربع قرن، على العطاء في المجال الصحي.

عن التخطيط للمستقبل، والهدف التالي؛ قالت «قبل كل شيء؛ دعم أبنائي في إكمال مسيرتهم العلمية، خصوصاً ابنتي مجد في مسيرتها العملية، وثانياً المشاركة في العمل التطوعي لخدمة المجتمع، ومنها حملات بنك الدم، وجمعية السرطان في القطيف، إضافة إلى ممارسة هواياتي بالاطلاع وقراءة الكتب العلمية الثقافية، كما أن لدي أفكار لمبادرات أنوي تنفيذها في مقبل الأيام».

وحفيدتها فاطمة الراشد.

رسائل.. إلى اختها وبنات بلدها

مع اقتراب حكاية مريم من خواتيمها؛ أصرت على أن تقدم «باقة شكر وامتنان» إلى أختها زينب السيهاتي (أم ميثم)، التي قامت بتربية ابنتها مجد، حين كانت هي مشغولة بالدراسة الجامعية، ولاحقاً الوظيفة، مُعبرة عن عميق شكرها وتقديرها لها، قائلة «أنتِ من يستحق شهادة البكالوريوس التي حصلت عام 1997.. أنتِ من تستحق كل خطاب تكريم منحوه ليّ، وكل كلمة شكر طرقت أذنيّ خلال 25 عاماً وشهرين».

رسالة أخرى وجهتها مريم السيهاتي، إلى «بنات بلدي»، قائلة فيها «إلى كل طالبة؛ أنصحكِ بإكمال مسيرتكِ العلمية، وعدم الاستهانة بمقدراتك، فرغم وجود بعض الصعوبات أو التحديات؛ فأنتِ قادرة على تجاوزها، كي تصلي إلى القمة، وتكملي مشوار إنجازاتك بالطموح والإرادة، لتملك وسام النجاح والتفوق والاحتراف، لاسيما الأنوثة والأمومة، اللذان يشكلان سبيلاً من سُبل روح العطاء والتفاني اللا منتهي».

هنا؛ تستشهد بتجربتها الشخصية «أشرق نور ابنتي مجد في منتصف الامتحانات الفصلية في السنة الثانية من دراستي الجامعية، وفي حفل التخرج سبقتني هي إلى المسرح، لاستسلام الوثيقة».

تختم رواية حكايتها لـ«صُبرة» بوصية أخرى «أوصيكن بسر النجاح المهني؛ الأخلاق والأدب، الاحترام المتبادل، التنافس الشريف والذكاء الاجتماعي، وقبل هذا كله طاعة الوالدين».

وحفيدتها جمان الراشد.

اقرأ أيضاً:

بعد السرطان والكيماوي والاشعاعي.. أمينة الفرج صارت «أجمل»

‫2 تعليقات

  1. الله يعطيك العافيه وماقصرتي على التضحيات التي ضحيتها في سبيل خدمة مجتمعك وخدمة الوطن والله يعطيك طولة العمر وتتهنى في أيام تقاعدك
    أخوك عبدالله ابو نوفل

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×