[تعقيب] الصُبَيْغَاوي.. إحدى واحات بيضاء القطيف القديمة عرفه العرب القدماء بـ "وادي الأصبغ" وذكره رؤبة بن العجاج والمثقب العبدي

عبدالخالق الجنبي

طالعتُ ما نُشر في صحيفة صبرة الموقَّرة بتاريخ 3 أكتوبر 2020م؛ حول واحة الصُّبَيْغاوي وعينها واستراحتها التي نالت شهرة جيدة لدى القطيفيين بسبب إنشاء الطريق الذي عرف بـ(خطّ التابلاين) – الذي خدم القطيفيين في وصولهم إلى الكويت والعراق بكل سهولة ويسر – والذي كان يمرُّ على حدود هذه الواحة وغيرها من واحات بيضاء القطيف كـ(رَيْمَان)، و(طُفَيْح) – الفطح سابقاً -، وخريشيف – خرشاف سابقاً.

وطريق (التابلاين) هذا هو وريث  الطريق الذي أسماه الهمداني في (صفة جزيرة العرب) بـ (طريق الفطح) نسبة إلى الفطح الذي يُعرف الآن بـ (طفيح) المذكورة قبل قليل، والواقعة شمال الصُّبيْغاوي بأربعة عشر ميلاً، وذلك للاستفادة من مياه عيون هذه الواحات النبّاعة الدافقة منذ آلاف السنين.

وقد أحسن آل قريش وصاحبه في اختيار واحة الصُّبَيْغاوي لتكون الموضع الذي أنشآ فيه الاستراحة التي اشتهرت باسم الأول منهما!؛ كما ذكر في الخبر المشار إليه.

وأحبُّ أنْ أضيف أنّ واحة الصُّبَيْغَاْوِيْ هكذا تُكتب؛ في حين إنّ القطيفيين ينطقونها بلهجتهم الدارجة: (اصْبَيْغَاْوِيْ)، وقد تكون: (الأصْبَغَاوِي) نسبة إلى وادي الأصبغ الذي سأتحدث عنه بعد قليل.

وقد كانت الصُّبَيْغاوي أو الأصبغاوي هذه حتى ما قبل العام 1950م – وهو تاريخ تدشين خط التابلاين – عبارة عن واحة برّية صغيرة تتكون من عين ماء دفاقة كالعيون التي كنا نشاهدها في واحة القطيف، وحولها بعض النخل البعل المشهور في برّ القطيف المعروف قديماً بـ (بيضاء الخطّ)، وكان يحيط بهذه الواحة واحات كثيرة معروفة، ففي جنوبيها الشرقي تقع واحة الصّلاليّات، وفي شرقيها تقع واحة أبو معن الشهيرة، وإلى الشمال منها تقع واحات أم اللوبة وأم عريش، وفي شماليها الغربي تقع واحة الغَمَلَة، وكان يفصل بين هذه الواحات كثبان من الرّمال؛ إلا أنّ العمران الزراعي قد امتدّ الآن امتداداً كبيراً فاتصلت هذه الواحة من الشرق ببساتين واحة (أبو معن)، ومن الجنوب بواحة الصلاليات.

وفي النصف الأول من القرن الثاني الهجري؛ أنشأ رؤبة بن العجاج السعدي التميمي – الذي كانت بلدته القُصيْبة لا تبعد كثيراً عن الصُّبيغاوي هذه – قصيدته التي مطلعها:

قَـدْ عَـجِــبَــتْ لَبّـاسَــةُ المُصَـبَّغِ

أَنْ لاَحَ شَـيْــبُ الشَعَـرِ المُثَـمَّغِ

ومنها قوله:

يُعْطِينَ مِنْ فَضْل الإِلهِ الأَسْبَغ

سَيْباً وَدُفّاعاً كَسَيْل الأَصْبَغِ

وعندما وصل العالم اللغوي الشهير المعروف بالأصمعي إلى هذا البيت في شرحه لشعر رؤبة قال: “لا أدري ما سيل الأصبغ؛ جهدتُ جهدي، فلم أسمعه من أحد[1]

وهو ما جعل أبا الحسن الطوسي راوية ديوان رؤبة يسألُ عالماً لغوياً كبيراً آخر، وهو ابن الأعرابي عن سيل الأصبغ، فلم يجبه إلا إجابة لغوية قائلاً هو: “الكَثِير!“.[2]

وقريبٌ منه ما قاله بعض اللغويين من أصحاب المعاجم والقواميس اللغوية، فقد اكتفوا بالتعريف اللغوي للفظة (الأصبغ) فقط، وهو أنه: “أعْظَمُ السُّيُوْلْ”، وأقدم من رأيته قال ذلك هو الصاحب بن عبّاد في كتابه اللغوي (المحيط في اللغة)،[3] وهو لعمري تعسُّفٌ وخطأ شنيع، فالأصبغ لا يمكن أن يعني السيل العظيم إلا إنْ أرادوا بذلك وصف هذا السيل المُسمّى بـ (سيل الأصبغ) لا معناه اللغوي.

والغريب أنّ الأصمعي وابن الأعرابي، وهما لغويان بَصْرِيّان من القرن الثالث الهجري لم يعرفا مراد معاصرهما ومجاورهما رؤبة بن العجاج من “سيل الأصبغ” في حين عَرَّفَهُ أكثر من عالمٌ لغوي وجغرافي بعدهما، وأقدم من وقفت على تعريفه له بعدهما: نصر الإسكندري الذي قال في باب [إصبع وأصبغ وأضبع] من كتابه عن الأمكنة والمياه:

وأما بفَتْحِ الهَمْزةِ، وآخَرَهُ غَينٌ مُعْجَمَةْ: وَاْدٍ فيْ نَوَاْحِيْ البَحْرَيْنْ“.[4]

وعنه نقل الحازمي في ذات الباب من كتاب الأمكنة؛ إلا أنه ورد فيه بهذه الصيغة: “وَأمَّا الثَّانِيْ – بفَتْحِ الهَمْزَةِ، وَغَينٌ مُعْجَمَهٌ -: وَاْدٍ مِنْ نَاْحِيَةِ البَحْرَيْنْ“.[5]

وعن نصر نقل ياقوت الحموي أيضاً في رسم [ أصبغ ] من معجمه البلداني، فقال:  “أصْبَغْ: بالفَتْحِ، وَآخرُهُ غَينٌ مُعْجَمَةٌ: اسْمُ وَاْدٍ مِنْ نَاْحِيَةِ البَحْرَيْنْ“.

وكذلك في (مراصد الاطلاع) للبغدادي في ذات الرسم وبذات الصيغة.

وفي مادة [صبغ] من كتابه (العباب الزاخر) قال الصّغاني: “الأصْبَغُ: وَاْدٍ مِنْ أوْدِيَةِ البَحْرَيْنْ[6]

وعن الصغاني نقل الفيروز أبادي في (القاموس المحيط)، والزبيدي في (تاج العروس) هذا التعريف في مادة [صبغ]، وكل هذه النصوص تنصّ – كما نرى – على أنه كان يوجد وادٍ في البحرين اسمه (وادي الأصبغ)، وهو ما أرى أنه المعروف المُسمّى بـ (الأصْبَغَاوِيْ)، أو (الصُبَيْغَاْوِيْ)، وهو ما تنبّه له الأستاذ عبد الكريم العُبَيّد الذي كان أول من بنى على هذا التشابه بين اسم هذه الواحة (الصُّبَيْغاوي)، وبين (الأصبغ) الوادي البحراني، فجزم بأنه هو ذات الموضع.[7]

واستنتاج الأستاذ العُبيّد صائبٌ من وجهة نظري، فالصُّبَيغَاْوِيُّ: واحة قديمة كان بها نخلٌ جيد، وماءٌ وفير، وهي تقع قرب حزمٍ مرتفع عما حوله يُدعى (أبو درجة) إلى الغرب من واحة (أبو معن) مباشرة، ولعل هذا الحزم هو ما أعطى هذا الموضع صفة الوادي، فكانت تسميته بـ (وادي الأصبغ)، وهذه الواحة تقع على الطريق القديم المعروف بـ (طريق الفطح)، وعادة الشعراء الرحالة كالعجاج يتأثرون بما يشاهدونه في طريق رحلاتهم.

وأيضاً فإن وادي الأصبغ هذا المشهرو بقوة سيله يبدو أنه هو المراد بالوادي الوارد في شعر المثقَّب النُّكري العَبدي القطيفي الذي يقول فيه:

لمنْ ظُعُنٌ تَطَلَّعُ من ضُبَيْبٍ

وما خرجتْ من الوادي لحين

مررن على شراف فذات رجلٍ

ونكّبنَ الذرانح باليمينِ

فالمثقَّب من بني نكرة من عبد القيس، وهم كانوا سكان وسط القطيف،[8] وضُبيب الذي ذكره في بيته هذا هو موضع كثير العُيون لا زال معروفاً باسمه، ويقع شمال الصُّبَيغَاوي هذه بثلاثين ميلاً – أي مقدار مرحلة للإبل – والمثقب يذكر في شعره هذا خروج هذه الظعينة التي فيها محبوبته من مكانٍ أسماه بـ (الوادي) متجهة إلى الحيرة بالعراق وأنها أناخت في طريقها عند خروجها من هذا الوادي عند عيون الضُّبيب للراحة.

وأرى من كل هذا أنّ هذا الوادي الذي ذكره المثقّب، والذي يقع جنوب عيون الضبيب المعروفة حتى الآن هو وادي الأصبغ إذاً، وبربط هذا الوادي مع التعريف اللغوي السابق الذي ينصُّ على أنّ الأصبغ هو أعظم السيول، فإنه يمكننا أنْ نركن إلى أنّ هذا الوادي المسمّى بـ(الأصبغ) كانت تتدفق منه في الزمن القديم كميات هائلة من المياه بحيث إنها كانت تشكل نهراً أو وادياً كبيراً.

اقرأ أيضاً الموضوع الأصل

“قهوة قريش”.. صنع “التابلاين مجدها.. وقضى عليها الطريق السريع

 

———-

[1] عالم لغوي قديم: شرح ديوان رؤبة بن العجاج؛ تحقيق: عبد الوهاب عوض الله (القاهرة: مجمع اللغة العربية 2008م)؛ ج2: 49.

[2] عالم لغوي قديم: شرح ديوان رؤبة بن العجاج؛ تحقيق: عبد الوهاب عوض الله (القاهرة: مجمع اللغة العربية 2008م)؛ ج2: 49.

[3] إسماعيل بن عباد بن العباس الطالقاني= الصاحب ابن عباد: المحيط في اللغة؛ تحقيق الشيخ محمد حسن آل ياسين (بيروت: عالم الكتب 1994م)؛ ج5: 9.

[4] نصر بن عبد الرحمن الإسكندري: الأمكنة والمياه والجبال والآثار ونحوها المذكورة في الأخبار والأشعار؛ تحقيق حمد الجاسر (الرياض: دارة الملك عبد العزيز 2004م)؛ ج1: 96.

[5] محمد بن موسى الحازمي: ما اتفق لفظه وافترق مسماه من الأماكن، تحقيق حمد الجاسر (الرياض: دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر 1415هـ)؛ ج1: 76.

[6] الحسن بن محمد بن الحسن الصَّغَاني: العباب الزاخر واللباب الفاخر؛ تحقيق الشيخ محمد حسن آل ياسين (بغداد: دار الرشيد 1980م)؛ قسم حرف الغين: الصفحة 53؛ مادة [ صبغ ].

[7] عبد الرحمن عبد الكريم العُبَيِّد: الموسوعة الجغرافية لشرقي البلاد العربية السعودية (الدمام: نادي المنطقة الشرقية الأدبي 1993م)؛ ج1: 71.

[8] سلمة بن مسلم العوتبي الصحاري: الأنساب (مسقط: وزارة التراث القومي والثقافة 1427هـ)؛ ج1: 176.

تعليق واحد

  1. أشكر الأستاذ عبدالخالق على هذآ التعقيب الرائع والجميل
    وولوجه في عبق التاريخ المنسي بالنسبة لي على رغم
    ماشاهدتة بأم عيني على مباني قديمة تم إزالة الرمال
    عنها بواسطة إحدى شركات التنقيب عن الاثار وكما أتذكر في عهد الملك سعود طيب الله ثراه..

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×