[4] القساوسة.. أحجار هوجو المنبوذة
محمد الماجد
“إن يوم الأُسقُف كان مفعماً حتى الشّفة
بالأفكار الطيبة،
والكلمات الطيبة،
والأعمال الطيبة”
البؤساء/ فيكتور هيجو
ليس من السهل على المشاهد أن يحبس أنفاسه وهو يرى ليام ديسون مؤدّياً لدور جان فالجان في فيلم (البؤساء)، ولا وهو يرى أنتوني هوبكنز مؤدّياً لدور كوازيمودو في فيلم (أحدب نوتردام)، النسختان الأثيرتان لدي من الطبعات العديدة للفيلمين، ولكن بإزاء ذلك التقدير المستحق، وإذا ما تجاوزت عن كل ذلك الجهد اللافت للقراءات التي تناولت دور الشخصيتين الرئيسيتين في الروايتين، جان فالجان وكوازيمودو، واللذان من النادر أن تخطئ دورهما حتى عين العابر البسيط، بخلاف ذلك، فأنا على توجس من معظم المقاربات التي عادة ما تقطع بحر الرواية سباحة على الظهر دون أي التفات منها للكنوز التي ترقد في الأعماق، فالغوص بين الشعاب والفيالق العميقة هو أكثر ما يميز الباحثين عن الآبار الفوارة للرواية، وعن قيعانها المليئة بألسنة اللهب، ولا سبيل لتعليل هذا الإخفاق إلا لأن البعض ممن يهتم بالدرس النقدي لا يعرف طريقة للولوج إلى العمل الروائي دون أن يحمل معه ثقافة المطبخ، فهؤلاء عادة لا يذهبون للحقل مباشرة، لأن لديهم حساسية من الطبيعة، ولذلك هم يفضلون دائماً شراء حوائجهم من السوبرماركت: من الفرضيات المدبوغة بالمبيدات، إلى النظريات المعلبة، إلى المناهج المحبوسة في قوالب من الثلج. وحتى دون أن يتأكدوا من وجود الشرارة اللازمة لإشعال الفتيل، يضعون كل تلك المكونات في قِدْر غير محكم، ويبالغون في (التوابل)، تلك المصطلحات التي تعاني غالباً من عطب اسموزي، عطب يمنع القراءة النقدية من الانتقال بسلاسة بين أجزاء الرواية، وهو العطب الذي سينال من سيولة القراءة وكثافتها في نهاية الأمر.
هل لديَّ شكٌّ في أثر التوابل؟
لا، ولست في صدد تدشين حملة للترويج للمطبخ الشرق آسيوي، الأمر أبسط من ذلك، فقط أردت أن نتأكد من صلاحية المكونات، وأن نعطيها الوقت الكافي كي تأخذ حصتها العادلة من النار، وليس المكونات فقط، بل فهم أوسع لأخلاط تلك المكونات وطريقة عملها، من هنا أتتني دائماً الرغبة في البحث في هوامش وحواشي النصوص لا في متونها فقط، وعلى الأخص تلك النصوص المبنية بعناية من أشياء صغيرة، ربما لا يلتفت لها الكثيرون، هذا في الوقت الذي من الممكن أن تشكل فيه هذه الأشياء تحولاً في القراءة يشبه التحول الذي أحدثه طول بلانك على مستقبل الكون، الرغبة ذاتها التي لازمتني وأنا أقرأ روايَتَي هوجو (البؤساء) و(أحدب نوتردام)، حدث ذلك منذ سنين مديدة، منذ بداية ولعي بالرواية، وتلك الملاحظات التي كنت اكتبها على هوامش ما يقع منها في يدي، وقد آن الوقت لأكتبها بشكل أوسع، في أحد تلك الهوامش من رواية (البؤساء) كتبتُ عبارة غائمة “أحجار هوجو المنبوذة”، وكتبتُ تحتها كلمَتَي تنبيه: “القس شارل ميريل” و”القس كلود فرولو”، عندها تذكرت، حتى دون أن أحاول طرد الغيوم التي كانت تغطّي سفح العبارة، أنهما كانا المقصودَين بتلك الجملة، والتي يبدو لي الآن أنني نحتها نحتاً من أحد متون (العهد الجديد): “الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية”، ودون حتى أن أنتبه إلى وجود اسم القديس متّى على رأس المتن كي أشكره وأبدي له التبجيل الذي يليق بقديس مثله، طويت العبارة بسرعة وألصقتها في هامش الرواية على أمل العودة لها لاحقاً، ثم انتظرت (لاحقاً) هذه أكثر من عشرين سنة!!.
المهم بالنسبة لي أن العشرين سنة لم تمنعني من العودة للبحث عن حَجَري هوجو هذين والعثور عليهما، وبعد تقليبهما لاحظت أن بريقهما مازال كما كان، وهذا يكفي، على الأقل صار بوسعي الآن التأكيد مرة أخرى على أن هوجو أراد لكل واحد من القسَّين أن يكون حجر الزاوية لبنائه، فيما تجاهل دورهما الكثير ممن فحصوا نصوصه، ولأسباب غالباً ليس من بينها (الصاعق الأيدلوجي)، أو تلك الكلمة الملتبسة (الموضوعية)!. وكقارئ بسيط وفطري لم يبهرني شيء أكثر من الطريقة التي كان هوجو يمسك بها القسّين وكأنه يمسك بسنارتين مقدستين ليحيك بهما العقدة التي منها ستنسدل كل خيوط الرواية، سأبدأ مع القس شارل ميريل في (البؤساء) وسأؤجل النقاش قليلاً حول القس فرولو رئيس الشمامسة في كاتدرائية نوتردام، ولأسباب ربما سأذكرها لاحقاً، أبدأ بالقس شارل ميريل اذاً، القس الذي رتّب له هوجو سكناً مع أخته، وجعلهما يعيشان من عائدها المالي السنوي، فيما كان الراتب الشهري للقس يذهب للأعمال التطوعية، لاحظوا معي هنا صورة القس اللامعة حتى الآن والتي سيحرص هوجو على بقاءها كذلك حتى لقاء القس بــ جان فالجان بطل الرواية، اللقاء الذي ستتحول معه هذه الصورة من مجرد صورة لامعة إلى وهج يأخذ بأذيال الرواية حت يكاد يحرقها، أنا نفسي أحسست بحرارة ذلك الوهج في أطراف أصابعي، فمروراً بكل عذابات جان فالجان، الخارج للتو من السجن، وحتى تلك اللحظة التي سيستضيفه فيها القس ميريل في بيته، كنت ممن سينتظر لحظة اللقاء هذه بشغف، لتذكرني في كل مرة أراجع فيها الرواية أو أعيد فيها مشاهدة الفلم، باللحظة التي التقى فيها سمعان الشيخ بالمسيح المخلّص، ذلك لأنني لن أجد عبارة يمكن أن تُوضَع على لسان جان فالجان بعد سرقته للقس ميريل، وبعد أن أنقذه القس من يد الشرطة بقوله أن المسروقات لم تكن سوى هدية منه، لن أجد أفضل من تلك العبارة التي قالها سمعان الشيخ للمسيح الصبي وهو بين ذراعي العذراء: “الآن تطلق عبدكَ يا سيّد حسب قولكَ بسلام، لأن عينيَّ قد أبصرتا خلاصك”، فلم ير جان فالجان في تلك اللحظة العدميّة سوى كلمة “الخلاص” معقودة على جبين ذلك القس النبيل، وكأنه المخلّص الذي انتظره 19 عام ظالمة قضاها في السجن، كما انتظر سمعان الشيخ لقاءه بالمسيح قرابة 300 عام، كلاهما (سمعان وجان فالجان) التقى بصاحبه للحظات ولكن في الوقت الذي عاد فيه سمعان الشيخ من لقاءه بالمسيح لينعم بالنوم في حضن الأبدية، في اللحظة ذاتها عاد جان فالجان من لقاءه بالقس ليعمل بكلمة “الرب” – وتذكروا معي هنا دائماً أثر طول بلانك – الذي جعل من ذلك الهارب ابناً بارّاً للفضائل، جامحاً في معونة الكادحين وطلبه للخير، وكأن روحه المعذبة قد بعثت من جديد، لذلك سيكون من الصعب على أي قارئ أن يجد فعلاً خيّرا قام به جان فالجان – بعد صدفة القدر العظيمة تلك – دون أن يجد لذلك الفعل ظلّا في سيرة القس ميريل، وكأن هوجو قصد أن يبني تلك السقلَّة العالية من الأحداث الخيّرة في حياة القس لكي يأتي اليوم الذي يلتقي فيه بـــــ جان فالجان فيضعه على أكتافه كي يكمل البناء. وأبداً، لم يكن فعل القس بالهيّن أو البسيط، لقد أعان هوجو في الارتقاء بالسّقلّة وبناء النموذج، وللدرجة التي لن نجد فيها مسماراً واحداً على الأرض!!.
والآن جاء دور رئيس الشمامسة كلود فرولو، واذا ما قفزنا على تلك الصورة الشريرة التي رسمتها له نسخة دزني الكرتونية لرواية (أحدب نوتردام)، فربما وجدنا بين سطور الرواية أكثر من سبب ليكون فرولو سنّارة أخرى وحجراً آخر من أحجار هوجو: مساعدته لأخيه جيون، احتضانه وتربيته لــ كوازيمودو، من الممكن أن يشكّلا سببين وجيهين لتغيير نظرتنا النمطية إلى القس على الأقل حتى إلى ما قبل الظهور الصاعق للفاتنة أزميرلدا، التسونامي الذي جرف كل فضائل القس، فحتى ذلك الحين لم يكن ثمّة شك يدعو هوجو لعدم وضع حجر فرولو في رأس الزاوية ذاتها التي وضع فيها حجر القس ميريل، يكفي فرولو أنه نطق بتلك الجملة اليسوعيّة المليئة بالشفقة: “سأقوم بتربية هذا المسكين”، وكان يقصد كوازيمودو، الرضيع الذي لفّه عاملان مخلصان من عمال الخطيئة بقماطة بيضاء ودسّاه في السرير الخشبي داخل الكاتدرائية، كبر كوازيمودو بعدها في حضانة القس، وتعلّم على يديه، وربما كرر على مسامع فرولو ذات الجملة الشهيرة لسمعان الشيخ، حدث كل ذلك قبل أن تظهر أزميرالدا لتلعب دور (الأم الآلهة) لــ كوازيمودو، لمخلوق أحدب، وحيد ومنبوذ، حيث استطاعت وبأمومة حانية أن تحيل قلبه المعذب إلى معبد، وروحه إلى مرآة لتجليّات الجمال، فيما بدا حجر هوجو (القس فرولو)، واقعاً في حبائل الخطيئة بسبب ذلك البزوغ المشع للآلهة، البزوغ الذي محى ضوء تلك الشمعة الكنسية، فالأمر كان أكبر من طاقته على الصمود، حتى أنه لم يعد حجراً ناصعاً كما كان، وكأن هوجو قام بنقله من مكانه في الزاوية إلى فوّهة بئر، وحسناً أن هوجو لم يفعل ذات الأمر مع القس ميريل، فالله وحده يعلم ما الذي كان سيفعله ذلك القس الطيب فيما لو قابل تلك الآلهة الغجرية أزميرالدا!!
هل يبدو الأمر خارجاً عن إرادة القس فرولو؟
ذلك ليس مهمّاً الآن، المهم أن أزميرالدا قطعت – وبسكين حادة – تلك المشيمة التي كانت تربط بين القس وحياة اللاهوت، لذلك لن نراهن من الآن فصاعداً على وضع قس (أحدب نوتدرام) وقس (البؤساء) في ذات الكفة، فكفة (البؤساء) ستربح بالطبع كما ربحت الكثير من الرهانات والمعارك المماثلة على مرّ عقود، ولكن لنتفق بأن كلود فرولو ما زال لديه رصيداً من الأعمال الخيرة بما يكفي لأن نرفع عقيرتنا بالسؤال: كيف سننظر إلى تأثير هاتين الشخصيتَين المدجّجتين بالتعاليم الكنسيّة – بالرغم من الفارق بينهما – على روح صاحبهما هوجو؟، ولأقرّب الصورة، سأروي قصة عن أخت الكاتب غابريل غارسيا ماركيز: حدث هذا أثناء كتابة ماركيز لــرائعته (مئة عام من العزلة)، الرواية التي ستكون سبباً في حصوله على نوبل بعد 15 سنة من كتابتها، كانت حينها الأخت راداراً صغيراً، تراقب طقوس أخيها في الكتابة من بعيد، وكانت تقوم بمهماتها كما ينبغي للرادار أن يفعل، وقد تدربت بما يكفي لكي تعرف أين وكيف تصطاد طرائد الكتابة الهاربة من أخيها لتعيدها ثانية إلى مخبأ الصقر، وفي إحدى نوبات مراقبتها لاحظت وعلى غير العادة خلو الغرفة من ماركيز، لم تجد فيها سوى ريش منهوب وآثار دماء، بحثت ثانية دون طائل، الأمر الذي دفعها للصعود للسطح حيث وجدته في زاوية منه، مكوّماً مثل كيس، غارقاً في غيمة سوداء من الحزن تعتصر قلبه وأطرافه، وكانت الأخت من البداهة بحيث خمّنت السبب، وكأنها كانت تنتظر تلك اللحظة وتتمنى عبورها بأي ثمن، بادرت مسؤولة الرادار أخيها بكلمات متهجّدة:
هل مات الجنرال؟!!
وكان ذلك هو الجنرال مونكادا، أحد أبطال الرواية وقد أنهى ماركيز حياته للتو على يد فرقة اعدام تابعة للكولونيل أوريليانو على خلفية انتقاد الجنرال لسوء استخدام هذا الأخير للسلطة، المهم أن ماركيز لم يستطع لحظتها تحمّل موت جنراله فبكاه وكأنه كان يبكي أحد أولاده، ولم تملك الأخت ساعتها سوى الوقوف إلى جانبه ومواساته طوال تلك الليلة، فقامت بإطفاء الرادار، ثم حررته من الكيس، ونصبت مأتماً اسطورياً يليق بسمعة الجنرال، وبدموع أخيها الذي لم يكف ليلتها عن كيل الشتائم للكولونيل، وهذا بالتحديد ما قصدته من وراء القصة، أن نطرح سؤالاً عما إذا كان الوقت قد حان لنتعرف أكثر على طبيعة تلك الشخصيات، وأيُّ دور كان من المقدر لها أن تلعبه في حياة مبتكريها، وكأنه سؤال معكوس، فقد اعتدنا أن يناضل الكاتب في سبيل خلق كل تلك الشخوص، وترتيب أمورها المعيشية، ورسم السياقات المناسبة لتطورها، ثم تحديد مصائرها، ودفعها لنا بعد ذلك للقيام بتشريحها متّكئين على ذلك المناخ السردي الذي وضَعنا فيه الكاتب، وعلى قدر من التحليلات الملفّقة، ولكننا لم نعتد على أن نفعل العكس، من هنا كثيراً ما شغلتني طبيعة ذلك التأثير الذي كان من الممكن أن يتركه القسّان على روح فيكتور هوجو، وهل هو أكثر شبهاً بأثر فرشاة الرسم، أم بإبرة الخياطة، أم بمطرقة الحداد؟!!.
حلقات مسلسلة، كلّ أحد في صُبرة