[3] المدن المقسومة.. بين خرائط اليزابيث وحمير أينشتاين
محمد الماجد
“طالما أن هناك رجال على الأرض
سوف تكون هناك أيضاً رغبة
لا تقاوم في إكمال البناء”
كافكا/ شعار المدينة
ما الذي جعلكِ على هذه الهيئة؟ سيكون هذا هو سؤالي الأول لأي مدينة حال تجوالي في شوارعها، وبما أن المدينة ليست وليدة فكرة كتابة هذه المقالة بالطبع، فقد كانت لها بدايات كما أن لكل شيء بداية، فمنذ أن أحسَّ الإنسان بحاجته للدفاع عن نفسه أمام تغوّل الطبيعة، قام بفرش الخواء من حوله بصحاري مديدة من الورق، ثم بدأ بسكب الحبر، ثم بالكتابة، ولكنها كانت كتابة بصيغة الحجر هذه المرة، فبدأت تُولَد الدُّور من رحِم تلك الصحاري الشاسعة، وترتفع القلاع، والأسواق، وتنتصب البيمارستانات والسجون أيضاً.
وبمناسبة (السجون)، لا أدري ما إذا كان السؤال الذي بدأت به المقالة يشي بأنه موجّه إلى شخص خارج للتو من سجن أو مصحة، وليس موجّهاً إلى مدينة، ولكنني سأكمل، ودون أن أضطر لإعادة صياغة السؤال، لأنني لن أضمن أن أكتبه بشكل أفضل، وسأواصل الحديث عن صحاري الورق، وكيف أنها تحولت إلى مدوّنة من الأحجار، ثم استقرّت داخل سور من المصطلحات الحضريّة، أطلقنا عليه اسم “مدينة”.
ومنذ سومر وأكاد مروراً بالحضارات الوسيطة وحتى ما بعد الحداثة، وربما إلى ما قبل القيامة بلحظات، سيكون على هذه المدينة وباستمرار أن تعيد تعريف نفسها مع كل غارة، أو غزو، أو حتى كارثة طبيعية. فقدرها الدائم أن تكون في نزال دائم مع أعداء يريدون دائماً النيل من نجاحها إما بدافع الغيرة أو الحسد.
معركة أوبيس، حرب طروادة، حريق روما، على سبيل المثال، ووفق هذا التعريف لم تكن سوى امتحانات لاختبار قدرة المدينة على الصمود، مع التسليم بأن مدينة كطروادة، التي استطاعت أن تعيد بناء نفسها لعشر مرات خلال 1800 عام، غالباً ما ستكون قادرة على تجاوز هذه الامتحانات، وربما ذهبت بعد كل انتصار إلى أبعد من ذلك وأفرغت موهبتها الشّعرية كاملة في السخرية من الزمن وحيله المفضوحة، خاصة بعدما أصبح لديها الخبرة في تحاشى الوقوع في حفره بقفزات أعلى بكثير من تلك التي لــ يلينا ايزينبايفا، وما يبدو لي الآن، أن المعجزة الأولمبية للقفز بالزانة يلينا، قد تعلّمت من طروادة ومن غيرها من المدن المقاومة طريقتها في صنع الانتصارات وكسر الأرقام الواحد بعد الآخر، وكما هي يلينا، ففي هذا المضمار التاريخي المزدوج بحمى الأولمبياد وسباقات التحمّل، لا يمكن لمعلّمات يلينا أن يسقطن في الطريق، أو يخطئن في تقدير الأمتار المناسبة للقفزة، وسواء كانت المدينة تمتلك قلباً منحوتاً بعناية مثل الكولوسيوم، أو روحاً معتّقة كروح أيا صوفيا، أو كانت من المدن التي تنام على حصير من الأضرحة والزوايا، أو من تلك التي تستحم كل يوم في بحيرة من البجع مثل مسرح البولشوي، فلا بد وأن تكون هذه المدينة قادرة على تفتيت أي هزيمة، وإعادة بناء نفسها من جديد، ولكي نتعرف على أسباب انتصاراتها لا بد أن نذهب إلى الفلسفة للاستيضاح:
- أينكِ أيّتها الفلسفة من معلّمات يلينا؟
- أنا هنا .. أراقب مصارعي الأسود من أعلى مدرج في الكولوسيوم، أصلي في أيا صوفيا، أبخّر الأضرحة، وأقطع تذكرة لحضور العرض الأخير من بحيرة البجع
- وأين تركتِ التاريخ؟
- هناك، يكتب ما أمليه عليه مثل خادم مطيع
انتهى كلام الفلسفة!
اذاً هذه هي المدينة: طروس من الأحجار تحمل بين سطورها نصوصاً فنيّة عالية تمنعها من الموت أو الفناء بحسب الفلسفة، ولا عمل للتاريخ سوى التدوين. وعلينا بالطبع أن نتوقع أن هناك نُسخاً مفقودة أو مطمورة لكل مدينة من هذه المدن ربما ضاعت بسبب الحروب أو التجريف التاريخي أو لأي سبب آخر، وهناك دائما نسخة حديثة وراهنة أيضاً، وفي حال قيامنا بدراسة استقصائية لسلوك أي مدينة عبر التاريخ، فمن الخطأ تصور أن هذه النسخة الأحدث خالية من أي سمات أو جينات تعيدها إلى جذورها، تلك التي تبدو الآن وكأنها موحلة، أو غير قادرة على النمو من جديد. نخطيء دائما في قراءة النسخة الأحدث دون تصفح المخطوطات القديمة، وهو الخطأ الشائع عند بعضنا حين يتناول سيرة المدينة بمعزل عن أدوارها التاريخية وطريقة تعاطيها معها ومع جوارها الجغرافي.
تذكروا معي فقط لغز أينشتاين المكون من خمسة منازل، وخمس عشرة جملة كان قد وضعها كمفاتيح للحل، ثم ذيّلها بسؤالين:
من يشرب الماء؟
ومن يقتني الحمار الوحشي؟
عدم حل اللغز لا يعني عدم وجود المنازل الخمسة، ولا يعني خطأً في صياغة اللغز بالطبع، عدم حله يعني فقط أن أحداً لم يتمكن من شرب الماء أو اقتناء الحمار الوحشي. وبالمثل، علينا أن نتوقع أن تلك المدن قد خبّأت تحتها أنهاراً عمياء من المياه، وحميراً وحشية على شكل تلال مروّضة من الصخور والمدافن الملكية، ومفاتيح أكثر من تلك التي وضعها أينشتاين لحل لغزه، ولن يوفر الأركيلوجي ذو البصيرة طريقة لمعالجة النسخ والمخطوطات القديمة لأي مدينة، ومحاولة إصلاحها، وإعادتها إلى مكانها ولو على شكل متاحف طبيعية ضخمة، بدلاً من التنكيل بها، والعمل على تحويلها إلى شبح ميثولوجي أو فزاعة ما برح يؤلب عليها الجوار ويلوّح بخطرها الداهم عليه.
نجهد في فعل ذلك دون الالتفات حتى إلى أن تلك المخطوطات قد عانت من إصابات بليغه طوال تاريخها إلى الآن، وكان من الأشجع والأفضل لنا أن نبحث عن أسباب تلك الإصابات، وما خلفته من ندوب وجروح غائرة، فربما كان ذلك الجوار من القسوة بحيث أنه لم يسمح لهذه المخطوطات المغدورة حتى بالذهاب إلى ورّاق لإنقاذ حروفها وأبجديتها من الاندثار، وبسبب هذا الفهم الخاطئ، وليس لأمر آخر، نحن نراها الآن مشوهة وغير جديرة بالاهتمام!! الأمر الذي لا أدري كيف سيمر عليه أي باحث مهتم دون أن ترتسم على محيّاه الكثير من علامات التعجب!
إلى هنا ولا يوجد شيء خارق وغير طبيعي فيما ذكرته سوى رغبتي المبالغ فيها في الكلام، فهذه تبدو مسلّمات لأي قارئ، وما دفعني للكتابة عنها هو مناسبة حديثي في المقالة السابقة عن شفرات المدن في رواية “طعام، صلاة، حب”، وكانت هذه مجرد مناسبة فقط، أو أرضية كنت هيئتها للحديث عن مفهوم المدينة التاريخية وطرق التواصل معها على أن أعود للحديث عن الموضوع الرئيس وهو مدن تلك الرواية الخلاّبة وكاتبتها الرائعة اليزابيث جيلبرت، وها أنا قد عدت الآن ولو متأخراً لأجد تلك المدن، باستثناء نيويورك، وبمحض الصدفة تمتلك وبدرجات متفاوتة مثل ذلك التاريخ المقاوم الذي وصفتُه آنفاً، ولكن الكاتبة ، وعلى عكس ما فعلتُ، قصدت أن تقدم مدنها وهي متخففة من شروط الأركيلوجيا الصعبة وأحجيات أينشتاين، فروما في (طعام، صلاة، حب) على سبيل المثال، ليست هي روما راسل كرو في فيلم (المجالد)، وإنما سنجدها أكثر شبهاً بـــ مونيكا بيلوتشي في فيلم (مالينا): أرملة شابة، ناضجة مثل كمثرى استوائية، وتمتلك من الجمال والفتنة ما يكفي لأن تقع المدينة بأكملها في شباكها. وبذات الأسلوب الذي لم تقصد منه اليزابيث التأليب أو الحاق الأذى بأحد كما نفعل، ستحدثنا أيضاً عن نيويورك التي لا تستسلم لمنام، وريف مومباي الغارق في التأمل، وجزيرة بالي: العرّافة التي سوف تقرأ لها الكفَّ!.
بالنسبة لي، وعلى الضفة الأخرى البعيدة، فإن كتابة اليزابيث عن هذه المدن التي شاركتها المنام، والخبز، والضحك، والبكاء، كان سيثير لدي دائماً ذلك الجدل العقيم: أيهما أفضل؟، معايشة المكان ثم الكتابة عنه كما فعلت اليزابيث؟، أم الكتابة دون معايشة حسيّة كما فعل ويفعل الكثيرون غيرها؟، أيّهما يسبق الآخر: الكتابة أم المكان؟، فكلنا نعرف الآن أن مدن اليزابيث مدن حقيقية، ولم تكن مدناً (محلومة) كما هي الحال مع مدن الروائي علي بدر في روايتيه (مصابيح اورشليم) و (بابا سارتر) على سبيل المثال، ففي الروايتين قام بالكتابة عن القدس وباريس من مكانه في بغداد، متكأً على قوّة المخيلة، مع الاستعانة برفوف طويلة من الكتب المستعدة لبذل المعونة لكاتب ليس لديه ما يكفي لقطع تذكرة والذهاب لمدينة الكتابة كما فعلت اليزابيث، الأمر الذي أؤمن به شخصيّاً، فيما يعتبره بعض (الوجوديون) والمولعين بكتابة السّير الواقعية نقصاً حاداً في الأدرينالين يستوجب على أي كاتب تداركه قبل الدخول إلى حلبة الكتابة، وهي ذاتها الصورة السارترية المنقحة لمفهوم الالتزام، والتي سأنظر إليها دائماً على أنها خطأ آخر في تقديرنا النقدي، وإصرار غير مبرّر منّا لجرّ المشهد الثقافي إلى حلبة من الاستقطابات الأحادية، ولهدف (نبيل) في العادة: استخدام النفوذ ودون أيّة كوابح. ولا أدري بالفعل ما إذا كان لهذا أي علاقة بما توارثناه عن أسلافنا في مدننا المطمورة، وأعدنا الآن صياغته في قالب حداثي شكلاني، يفتقر إلى المعرفة والدقة معاً.
أعود إلى اليزابيث، فالشفرة أو “الكلمة” التي تلصقها الكاتبة النيويوركية بكل مدينة تزورها، تشبه إلى حد بعيد تلك الأوصاف التي تعوّدت مي غصوب على منحها لمدنها في كتابها الجميل “مزاج المدن”، فكلتا الكاتبتين تتحدثان بلسان متخفف من الرطانة، وبمزيج نادر من التعليقات الساخرة، والتوق الأبدي لقول الحقيقة. وبحسب اليزابيث فإن لكل شخص “كلمة” تعبر عنه، ولكل مدينة “كلمة” تعبر عنها أيضاً، فكلمة نيويورك هي “الإنجاز”، وكلمة روما هي “الجنس”، وكلمة نابولي هي “القتال”، وهكذا، فما من مدينة إلا ولها كلمة تعبّر عن طرائق عيش وتفكير الناس بداخلها وتشكل محوراً للسلوك وطبيعة العلاقات بينهم. فإذا كانت “كلمة” ذلك الزائر لروما والتي تعبر عن شخصيته هي “التفاني” مثلاً، وهي الكلمة التي لا تتطابق مع كلمة المدينة بالطبع، فعليه بالرحيل عنها بحسب نصيحة تلقتها اليزابيث من جوليو، زوج صديقتها ماريا، و (المشرّع) الذي نقلت عنه اليزابيث هذا القانون المسلّي، القانون الذي لا يخلو من حكمة ربما جعلتنا نعيد التفكير في طبيعة علاقتنا بالمدينة.
وقديماً قالوا: النصيحة بجَمَل!.
محمد الماجد
2/8/2020