[2] المعنى من شأن المثقف فقط.. حادثة كومبوستيلا مثالاً
محمد الماجد
ما الذي يجعل من حدث ما، أو مكان ما، أو حتى شخصية مّا شيئاً عادياً ومهمّشاً في نظرنا، خاصة ما إذا كان ذلك الشيء يتعلق بهويتنا الثقافية..؟
ثم فجأة، وعندما نصطدم بما يشبه ذلك الحدث أو الشخص بين سطور إحدى الروايات العابرة للحدود، نجهد في إيجاد الحواضن المعجمية لاستقباله، ونعمد إلى لفّه بقماطات وكلمات بيضاء، ثم نستنفر كل قوابل الأنثروبولوجيا بداعي تعميده، وللرفع من سويّته الروائية إن أمكن، وهي الذريعة التي ستسوّغ لنا لاحقاً ضمّه لمصفوفة مقتنياتنا الثقافية، وكأنه صيد ثمين أو أحفورة نادرة…؟
ليس لدي أي فيتو ضد مجتمع الأنثروبولوجيا
ولا أي عداء مع الحواضن المعجمية
أنا مسالم جدّاً
وإذا كان ثمّة لوم فسيقع بالتأكيد على رأس باولو كويلو، صاحب رواية (حاج كومبوستيلا)، فقراءتي للرواية شجعتني على القيام بهذه الزيارة (الافتراضية) إلى قبر مار يعقوب في سنتياغو، زيارة بقصد (الجهاد الحسن) كما تقترح الرواية، وبداعي الأمل في أن أقصَّ آثار كويلو ومشياً على الأقدام كما كان يفعل، والزيارة أيضاً هي من أثارت لديَّ الفضول لكتابة هذه السطور، ولولا أنني عثرت على تقريرين مصورين لقناة فرانس 24 عن ذات الموضوع لما تمكنت من البدء في ترتيبات الزيارة، فقد وهبني التقريران فريقاً من المؤمنين لمرافقتي، ومع ذلك فأيّ مقارنة كنت سأعقدها ما بين فريقي هذا وبين المجموعة المكرَّسة لطقوس “رام” الروحية التي رافقت كويلو في رحلته ستكون مقارنة خاسرة، فمن الواضح بالنسبة لي أنني مع مجموعة لا تحمل أي تعاليم سوى تلك التي تمليها عليها طبيعة جبال البيرينيه الخلابة من حولنا، ولكن ليس هذا هو المهم الان، المهم أنه أصبح لدي مجموعة، مجموعة متحمسة من سبعة أفراد هم كل حصيلتي من اقتراح كويلو المفاجئ، وتقرير القناة الفرنسية:
دانيال (مدير شرطة من بريتانيا)، قطع حتى الآن 45 كلم من طريق مار يعقوب المؤدية إلى كومبوستيلا
جين (طالبه حسناء من مونبلييه)، قطعت نفس المسافة تقريباً
مارسي وانريكو (شابان من إيطاليا)، قطعا أكثر من 1600 كلم ومازال أمامهما 25 يوماً من المشي
باسكال (فرنسي ستّيني من هواة التجوال)، يميل إلى العزلة، ولم يفصح عن جهة قدومه
عجوزان مشغولان طيلة الوقت بتسجيل مذكراتهما مع كل حجر يصادفانه
وبالطبع، لم نكن نحن المجموعة الوحيدة، فحين بدأنا رحلتنا من قرية (أكوس)، وهي واحدة من عشرات القرى التي تنام وتستيقظ على وقع خطى الحجاج، أوينا في القرية إلى مزرعة ماعز، تعوّد مالكها جون فرانسوا على فتحها أمام الساعين إلى كومبوستيلا، وقد أخبرنا بأنه استقبل لحد الآن أكثر من خمسة وعشرين ألف حاج، “هذا المشهد لا يشبهه شيء في هذا العالم” يقول جون، كان ينتظر مني إجابة، فقلت له “الكثير من مثقفينا يشاركونك الرأي”، وأكملت “حتى كويلو نفسه لن يكون قادراً على إقناعهم بخطئهم الكوني هذا”، ولكنه لم يفهم مغزى تعليقي، ودعتّه بحرارة، ثم أكملنا الطريق. في الحقيقة لم تكن (أكوس) سوى تيريزا من الأحجار مكوّمة على سفح جبل، ثمانمائة عام من المشي لم تجبرها على التخلي عن مهمّتها التطوعيّة، وكما هي القرى في حواضننا الأنثروبولوجية المهملة ثقافياً، لم تكن (أكوس) الوحيدة في طريق مار يعقوب، فإلى جانب هذه القرية الوديعة صادَفْنا أيضاً أنقاض دير “سانتا كريستينا”، ومحطة كانفرانك للقطارات المعمرة (هي مقبرة الآن لحيتان من الحديد تبحث عن جمعية لرعايتها)، كما صادفنا أيضاً العشرات من الأديرة، إلى أن وصلنا أخيراً إلى مونتي دو جوزو، أو تلّ الفرحة، وهي النقطة التي سيتمكن الحاج أن يرى منها أبراج كاتدرائية مار يعقوب لأول مرة، بعد عشرات الأيام من المشي المضنى، هذه النقطة تمثّل فرصة الحاج الأثيرة للوقوف، والتأمل، والتماس البركة، قبل مواصلة السير، التَّل يقع على بعد خمسة كيلومترات فقط من الكاتدرائية.
والآن
هل عليَّ أن أكرر اعترافي:
ليس لدي أي فيتو ضد مجتمع الأنثروبولوجيا
ولا أي عداء مع الحواضن المعجمية
أنا مسالم جدّاً
بدليل أنني حرصت كما هم أعضاء مجموعتي على اقتناء (مدوَّنة الحجاج)، وهي مدوّنة ممهورة بأختام بعدد محطات الطريق، أختام تتوسطها صلبان قروسطية، وفي هذه المدوَّنة سيجد الحاج كل ما يحتاجه من تعاليم وخرائط، كما حرصت بعدها على حضور شعيرة خميس العهد، وحرصت أكثر على أن أغمس قدميَّ في طَسْت من الماء الصافي بقصد التطهير، هكذا تقول الشّعيرة، وإذا كان ثمة أثر مباشر لهذه الشعيرة، فهو اليقين الذي أصبحت عليه الآن بأن الانثروبولوجيا ليس لها أي علاقة بمقتنياتنا الثقافية الخاصة.
أتذكّر أيضاً وقبل وصولنا لمرتفع سومبور في إحدى محطات الطريق بين فرنسا واسبانيا، وفي دير سارانس بالتحديد التقينا بالكاهن بيير موليا، وعلى مائدة الضيافة – المبذولة بالمجان هنا وعند كل محطة على طريق مار يعقوب –، تلقينا واحدة من أعظم نصائح الكاهن “عبور مرتفع سومبور بمثابة اجتياز مرحلة مهمة في الحياة، ما أنصحكم به بقوة هو التحلي بالأصالة قدر الإمكان، وأن تكونوا على الحال الذي أنتم عليه اليوم، كونوا أنفسكم بكل الأسئلة التي تحملونها، بكل الجروح التي أصابتكم، بكل همومكم – إن كانت لديكم طبعاً – ولكن حافظوا على الشخصية التي تملكونها”.
كانت هذه النصيحة فرصتي لكي أنهي هذه السطور، فقد قال الكاهن، وبكلمات قليلة، كل ما أود قوله، ولكني فضلت الانتظار حتى نهاية الرحلة، فربما التقيت بكاهن آخر، وبنصيحة أخرى، فأنا دائماً ما أعوّل على حدسي، وكم كان حدسي صحيحاً هذه المرة أيضاً، فقد جمعتني الصدفة عند أبواب مدينة سانتياجو باليزابيث جيلبرت، كاتبة رواية (طعام، صلاة، حب)، أبديت لها استغرابي من تركها لمعتزلها في الهند ومجيئها إلى هنا، ثم قررنا أن نقطع المسافة المتبقية معاً، دون أن تتخلّى طبعاً عن عادتها الأثيرة في افتراش المقاهي، ولأني أعرف عشقها للطليان، دعوت الله باسم المار يعقوب أن لا تلتقي بأحدهم، مارسي وانريكو بالذات، فهما منحوتتان رائعتان من منحوتات مايكل انجلو، جلسنا في أحد المقاهي، مقهى UGOT بالتحديد، وهو نسخة الـــ فرنشايز الوحيدة هنا من المقهى البرشلوني الشهير بتقديمه للحلويات والأطعمة النباتية والخالية من الجلوتين، خمنت بأن هذا مهم لصحة اليزابيث، والأهم أنه لا يوجد فيه ما يذكّرها بإيطاليا، فكرت في طلب طبق من الكريمة الكتالونية إلى جانب قهوة جريجو، وهنا لاحظت أن الأسبان عادة ما يصرون بأسنانهم على الجيم الثانية من كلمة جريجو ليؤكدوا نسبها اليوناني، بدا لي ذلك واضحاً على لسان الإسبانيات أكثر من رجالهم، أو هكذا أوعز لي خيالي، عموماً، لم يستغرق الطلب سوى عشر دقائق، وسار بعدها كل شيء كما أحب، خاصة وأن القديس مار يعقوب استجاب لتوسّلي، ولم يأت الشابان الإيطاليان، ومع الحديث صارحتني اليزابيث بأنها دائماً ما كانت تخطط للحج إلى كومبوستيلا، لعلها تحصل فيها على السكينة التي طالما حلمت بها، ولكنها لم تدرج تلك الرغبة بين فصول الرواية، أبديت استغرابي ثانيةً، ساخراً هذه المرة: اليزابيث هل تعانون ككتاب من خسارة كامل رصيدكم الثقافي كما نعاني عند زيارتنا لأماكن مماثلة؟، تبسَّمتْ، ثم افترقنا على أمل اللقاء عند تمثال مار يعقوب المنتصب في قلب الكاتدرائية مثل رمح من الصخور المقدسة، ذهبت هي للتبرّك والاستشفاء، وأنا للتحقق من مدى مطابقة سطور باولو كويلو النّازفة مع مصبّاتها عند أقدام الرّمح، بالنسبة لي كانت هذه مناسبة لكتابة المقالة القادمة عن حادثة ربما نظر إليها البعض على أنها هامشية في رواية اليزابيث، عن شفرات المدن. ولكن حتى ذلك الوقت، وبما أن حبر هذه السطور لم يجف بعد، وبما أن رواية (حاج كومبوستلا) مليئة بالملصقات الأنثروبولوجية، أحببت أن أستل منها هذا الملصق المخضَّب بدماء كويلو قبل أن أغادر:
“أخرج المعلم سيفه الخاص من غمده، ولمس به كتفي ثم رأسي …. وبرأس سيفه، أحدث جرحاً بسيطاً في رأسي، عندئذ لم أعد بحاجة للصمت”
والآن
لعلكم رأيتم مثلي ما يتمتع به كويلو من ايمان عميق، ولاحظتم بالتأكيد كيف أن شخصاً في مثل شهرته مازال يمارس هذا الطقس دون أن يخسر شيئاً من رصيده بين المثقفين!!!
..
آآآآه
مبارك أنت بنعمة الرب يا كويلو
23/7/2020 م
اقرأ الحلقة السابقة
حلقات أسبوعية نهار كل يوم أحد في صُبرة