مرافعة وليست شهادة

عدنان السيد محمد العوامي*

وقُوفي – هنا، في هذه المَنصَّة – يضعني في كمَّاشات ثلاث تتنافس – جميعًا – في التضييق عليَّ، وإحراجي أشدَّ الحرج:

الأولى

آصِرة النسب التي تُوثقني بالمحتفىٰ بتكريمه هذه الليلة المضيئة؛ السيدِ أبي زكي، فهو ابنُ عمِّي لَحًّا. والِّلحُّ: اللصيق، كما لا يخفى، وصلتي به مصداقٌ لما وصف به أحدُهم صديقَه:

ونحن كروحٍ بين جسمين قُسِّما 

فجِسماهما جسمانِ والروح واحد

أو كما قال زَبَّان بنُ سيَّارٍ الفَزاري:

أخٌ وأبٌ لي، ثم أمٌّ شفيقةٌ

يُفرِّق في الأحباب ما هو جامعُه

وليعذرني أخو فَزارة في ما اقترفتُ من تصرُّفٍ في بيته على هذا النحو, وإلا فنصُّ صدرِ البيت هو:

أخٌ وأبٌ وابنٌ، وأمٌّ شفيقةٌ

وأما تفريقُه ما يجمع من مال في أحبابه فسجيَّةٌ فيه أشهد عليها حتى وإن رُدَّت شهادتي بحُسبانِها شهادةَ النفس للنفس، فهو ليس قاصرًا على حُبِّ الأقربين والأصدقاء والعطف عليهم واحتضانهم، بل تعداه إلى العون المادي بالمال.

وأنا أعلم أن بعض لِداتِه تُوفُّوا وهم مدينون له بقروض سخيَّة، رغم ضيق ذات يده، ولا أعلم أنهم ردُّوها.

الثانية

رحلةُ عُمرٍ من الصداقة اللصيقة قاربت السبعةَ عقودٍ من الزمن لم نفترق فيها إلا أربعَ سنين، اعتكفت أنا أثناءها مختبئًا عن النظَّار، وهاجر هو للنجف الأشرف متفرِّغًا للاستزادة من المعارف الدينية. هذه الصحبة تضاف إلى سابقتها مبرِّرًا لردِّ شهادتي.

الثالثة:

ولعلها الأهم، هي أنَّ حديثي عن سيرة رجل طبَّقت شهرته البلدَ من أقصاه إلى أقصاه، إن لم أقل الوطنَ كلَّه، ووقَّع بصمتَه على مجمل المنجزات الخيِّرة فيه؛ الأدبيِّ – منها – والمطلبيِّ، والخيريِّ، والاجتماعيِّ.

إن الحديث عن شخصية كهذه لن يكون أفضل من حديث حامل التمر إلى هجر، أو بائع الماء في حارة السقائين، كما في المثل المصري.

إذن ما هو المخرج من هذه المآزق الحرجة مجتمعة؟

كلكم يعلمُ أن السيد أبا زكي، محامٍ بارع، شديد الثقة بنفسه وببراعته إلى حدٍّ بعيد، ولأنَّ المثل المنسوب لأكثم بن صيفي: >مِن مأمنه يؤتى الحذر<، فأنا سآتيه من هذا المأمن، ولو من باب المناكفة، منتهزًا ثغرةَ ضُعفٍ وجدتها في ذاكرته، فأحببت أن أعتمر قبعة المحامي، مترافعًا أمامكم ضدَّه، مملوءًا براسخ الثقة بأنني سأفلِجه في ليلةِ تكريمه، أو تكريم القطيف في شخصه.

سأفتتح مرافعتي بمقتبس مما قاله هو عن نفسه ليلة تكريمه في منتدى القطيف الثقافي، في مزعة البيات في تاروت، بإدارة المهندس الأستاذ عباس ابن الحاج رضي الشماسي، وهذا نصُّ ما قال حرفيًّا: >بدأتُ النزولَ إلى الميدان عام 1368هـ، وأذكُر أن إحدى بواكير العمل خطابٌ عن المرحوم حاج علي القصَّاب، من أهالي تاروت، وجماعة أخرى، لمـَّا مُنِعوا – في رأس تنُّورة والثقبة والظهران – من الذبح، وقيل لهم: إن عليهم استئجار مسلم باعتبار كونهم غير مسلمين.

واستمرَّ العمل الوطني للمطالبة بالمستشفيات والمدارس والطُّرُق والزراعة والحقوق وغيرها حتى كنا نطالب بفِرَق الإطفاء وعلامات المرور.

وقد تجمَّعت لديَّ ملفات لكل وَزارة ومؤسسة ابتداءً من الملك، فوليِّ العهد مروراً بالوزارات إلى إمارة المنطقة، وقد أخذه بعض الإخوة لتصويرها وحُفظت في مكان واستجد غيرها بمعاودة المطالب<.

إذن؛ هذا هو أقدم ما يتذكَّر من بداياتِ نزوله لمعترك العمل الوطني، وميدان نشاطه في العمل الاجتماعي، وأنا أملك أدلَّة قطيعة تثبت أنه انخرط في هذا المعترك قبل ذلك بزمن.

أول تلك الأدلَّة أنَّ عمَّ أبيه السيد ماجد (رحمه الله) تُوفي في ربيع الثاني سنة 1367هـ فكان أحَدَ السواعد المؤازرة لأخيه السيد محمد (رحمه الله) في قضية الخلاف على الأوقاف، وهذا النشاط سابق على التاريخ الذي حدده بعام.

هذا في جانب النشاط الاجتماعي، أما في الجانب الأدبي فكان هو المشرف على طباعة ذكرى السيد ماجد، وهذا أمرٌ يبدو في منتهى السهولة واليسر في زمننا الحاضر، حيث استُغني عن الكمبيوتر أو كاد، وأصبح بوسع الكاتب أن يؤلِّف الكتاب ويخرجَه، ويدفع به للترخيص، ثم الطباعة، وحتى دفع قيمتها، يتم من خلال لوح صغير بحجم راحة يده، وهو مسترخ في مقعده الوثير. هذه الحال ليست حالَ ذلك الزمن الذي طبعت فيه الذكرى.

أما في زمنه ذاك فكان المؤلف يخطُّ مسودَّة كتابه على ضوء الشمعة، وسراج الكاز، أو الفانوس، في أحسن الأحوال. بعد ذلك يأخذه إلى أحد المشهورين بجودة الخط، فإذا أنجزه بعد عام أو ربما أكثر؛ تعين عليه أن يسافر به إلى الهند أو العراق لطباعته.

الثاني – بحوزتي نصُّ مرفوع من أعيان القطيف ووجهائها لأمير المنطقة الشرقية سعود بن عبد الله بن جَلَوي (D)، يطلبون فيه تطوير المحكمة الجعفرية بتحويلها إلى هيئة متكاملة، وهو مدوَّن بخط أبي زكي، وهذا نصه:

صاحبَ السمو، سيدَنا الأمير الأجل الشيخ سعود بن جلوي المحترم

بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته على الدوام

يا صاحب السمو.

يهمُّنا أن نرفع لسموكم الكريم موضحين رغبتنا بمناسبة عزل قاضي الشيعة، فنسترحم أن يكون القاضي الجعفري لجنةً علمية، حتى لا يحدث مثل الذي حصل طيلة هذه المدة من الفتن والقلاقل، وحتى لا يكون هناك مجال إلى التغرض، وتعود الراحة على الأهالي، وتُضمن لهم حقوقهم بذلك.

هذا ما نرفعه لسموكم الكريم نسأل الله بقاء سموكم ذخرًا والسلام عليكم.

وأسفل هذا المرفوع مذكرة بخط أبي زكي ومذيلة بتوقيعه، وهذا نصها:

>الأخ الأمجد، الزعيم الكريم، الشيخ علي بن حسن أبو السعود الموقر.

تحية واحتراما.

لإبداء رأيكم في المحرر أعلاه. فأنا – الآن – سوف أبيِّض نسختين، واحدة لأم الحمام، وصاحبها بانتظارها، والأخرى للقديح وسترسل من طريق غيري، فلإحاطتكم، وإبداء رأيكم، وسوف – هذه الليلة – نجتمع عندكم بالإخوان للمفاوضة فيما يلزم، ودمتم.

المخلص<. سيد حسن.

توقيع

بحكم عارضته القوية، وتمرسه في المحاماة سيرُدُّ بأن هذه المذكرة ليست مؤرَّخة، فهي حُجَّة داحضة، لكن هذه المدافعة واهية، ولن تجديه فتيلاً، فمضمون المرفوع يحدد زمنَه، إذ إن القاضيَ الجعفري الذي يشير المرفوع إلى عزله هو الشيخ محمد علي الخنيزي، الذي كان يتولى القضاء بتكليف من السيد ماجد العوامي، فعزل بوفاة السيد، ومجيء الشيخ علي الجشي، المجتهد المخوَّل شرعًا بتولي أزمَّة القضاء، فالمرفوع – وإن لم يؤرَّخ – فتاريخه لا يجاوز زمن وفاة السيد ماجد، وأنا أعلم – بحكم تخصصي في مدوَّنات من وجهت إليه المذكرة؛ الزعيم علي بن حسن أبي السعود – أنَّه قد غادر البلد إلى لبنان للاستشفاء من مرض (التكيس الرؤي)، في 13 ذي الحجة سنة 1372هـ، وقبل ذلك كان مستشفى الإرسالية الأمريكانية في البحرين لذات الغرض.

هذان شاهدان على ما ادَّعيته من انخراطه في معترك العمل الاجتماعي والأدبي قبل البداية التي حدَّدها لنفسه.

الشاهد الثالث – في سنة 1367هـ، افتتحت أول مدرسة في القطيف، فكان الإقبالُ عليها فاترًا، بل قوبل بالرفض والمعارضة من بعض فئات المجتمع لأسباب عديدة منها الحالة الاقتصادية، ففكر لفيف من الشباب – منهم المحتفى به وأخوه السيد علي (رحمه الله) – في إيجاد وسيلة لمساعدة المعوَزين من الطلبة فأسسوا – مع صحابٍ لهما – لجنة أسموها (لجنة تشجيع الطلاب)، كان لها الدورُ الأكبرُ في الاقبال على المدرسة واستمرارها. ويمكن اعتبارُها أولَ جمعية خيرية في القطيف، وقد شجع ذلك لفيفًا من شخصيات المجتمع ووجهائه على إنشاء جمعية مماثلة أسموها (المؤسسة الخيرية)، برئاسة الحاج عبد الجليل الزهيري (D)، كاتب عدل القطيف آنذاك، فضلاً عن دورها الثقافي، إذ كانت تشارك إدارة المدرسة في إقامة الحفلات والمسرحيات، والتمثيليات. أذكر منها مسرحية (وامعتصماه) في مدرسة البحر (الحسين بن علي فيما بعد)، وإلى جانب هذه اللجنة قام من أطلق عليهم في ذلك الزمن صفة (الشباب)، وأبو زكي في مقدمتهم، بافتتاح فصول ليلية في المدرسة، لتقوية الطلاب من جهة، وتعليم اللغة الإنجليزية التي لم تكن مشمولةً في مناهج التعليم النظامي آنذاك.

من جهة أخرى، وفي السياق ذاته قاموا بالإبراق للملك يطالبون بافتتاح مدرسة للبنات، فجاءهم الرد بأن >هذه أول خطوة في طريق الفساد<، وأحضِروا لدائرة الشرطة وألزموا بالتوقيع على تعهد بعدم الرفع ثانية بهذا المطلب، فوقعوا، ولكن بعد ذلك بادروا بافتتاح فصل دراسي لتعليم البنات، وكان مقرُّه أولاً في حسينية آل العوامي، وحين كثر العدد الملتحقات به، نقلوه إلى حسينية الخنيزي (حسينية الزريب)، ثم استأجروا مبنى الحاج مهدي القطري في حي البستان، ونقلوا المدرسة إليه، وحين افتُتحت أول مدرسة حكومية للبنات في القطيف، ضُمت هذه المدرسة إلى مندوبية تعليم البنات الحكومية.

أما بعد ذلك فالشواهد كثيرة على دوره النشيط، الفاعل.

في شهر ربيع الأول عام 1373هـ توفي الملك عبد العزيز (رحمه الله)، واستعشر الشباب أن الأعيان لا بدَّ ذاهبون إلى الرياض للتعزية بوفاته، فأقنعوهم بحمل خطاب مطالبة أعدوه ووقعوا عليه مطالبين بإشراك القطيف في عضوية مجلس الشورى.

في الطريق إلى الصدور كتاب مراسلات علي بن حسن أبي السعود وثائقه، وهو يضم الكثير من المرفوعات المطلبية التي كان أعيان القطيف يرفعونها للمقامات العليا، والوزارات، وفيها اسمه وتوقيعه بجانب أولئك الأعيان.

ولو أردت أن أستغرق نشاط الرجلِ في هذه الوقفة لاستخوذت على الوقت كله، لكنني سأكتفي بمجرد الإشارة إلى دوره في تأسيس المكتبة الأهلية، ونادي التآلف الرياضي، ومشاركته في عضوية مجلس الحي عام 1382هـ، المنبثق عن مركز الخدمة الاجتماعية. (استدبل اسمه – فيما بعد – بلجنة التنمية الاجتماعية)، هذا المجلس ألَّف لجنة ثقافية سميت (الرابطة الثقافية)، كان لي شرف عضويتها، وكانت تؤدي دورًا مهمًّا، فكان من نتاجها مسابقات تعقد لطلبة المدارس، واقترحت تأسيس ناد ثقافي أقِرَّت لائحتُه، لكنها لم تتمكن من إنجازه بسبب تجميدها، إلى جانب الحفلات الأدبية، والندوات، ومعارض الكتاب، وأصدرت أول مجلة أدبية في القطيف وإن كانت متواضعة، وتطبع بآلة الاستنسال، وقد جرت محاولة لطباعتها، لكنها لم توقف، ولعل أهم إنجاز لهذه اللجنة هو إنشاء المبنى الحالي في حي البحر، الذي يشغل دورُه الأرضي روضة نموذجية للأطفال، ودوره الأول صالاتِ معرض الكتاب، ومعرض التراث، وقاعة مسرح ومحاضرات، لم يقيض له الاستمرار، فأجِّر على أحد المعاهد بعد استبدال اللجنة التي أنشأته بلجنة أخرى لها توجه آخر مغاير.

وأخيرًا تشكيله لجنة الاحتفالات الدينية في مطلع الستينيات من القرن الماضي.

——

* الكلمة أُلقيت مساء البارحة في الحفل الذي نظمه منتدى الثلاثاء لتكريم السيد حسن العوامي، حفظه الله.

اقرأ أيضاً

القطيف تردُّ الجميل وتكرّم السيد حسن العوامي في ليلة مشهودة

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×