الباحث العربي شاكر لُعيبي: تصاوير الإمام علي أسّسها الفرس.. وأنضج العراقيون أيقونتها فقهاء الشيعة غضّوا الطرف عن فن شعبي يتعارض مع حساسية "ذوات الأرواح"

حوار: حبيب محمود

لا يتردد الشاعر والأكاديمي العراقي شاكر لعيبي في الاعتراف بأن المنتشر في الثقافة البصرية الشيعية لتصاوير أهل البيت، وبالذات تصاوير الإمام علي، بأنها “فن شعبي” في الأساس. وعلى الرغم من إقراره أن هذا الفنّ يتقاطع ـ إجمالاً ـ مع الفهم المسيحي للأيقونات الدينية؛ فإنه ينبّه إلى وجود موقف شيعي شائع من التصاوير، هذا الموقف لا يذهب إلى أبعد من “التبجيل”، مؤكداً أنه لا يصل إلى “التقديس”.

ومن الزاوية نفسها؛ يسجّل إيضاحاً حول جذور هذا الفن الفارسية، إلا أنه يعود ليؤكد أن الصورة النموذجية الأيقونية الشائعة للإمام علي بالذات؛ أنضجها فنانو العراق العرب، وأن النموذج الماثل في ذائقة الشيعة إنما هو إنجاز فني شعبي عراقي.

جاء ذلك في سياق حوار “صُبرة” مع الدكتور لعيبي، في مناقشة لكتابه “تصاوير الإمام علي.. مراجعها ودلالاتها التشكيلية”..

 

وإليكم نص الحوار:

تبجيل لا تقديس

في تصاوير الإمام علي تحديداً، ثمة وفرة وافرة في الثقافة الشعبية الشيعية عيناً، تكاد ترقى إلى مرتبة “التقديس”، ويبدو أنه إرث مذهبيٌّ أكثر منه إرثاً فنياً.. ولا نجد له مثيلاً في الجانب الإسلامي الآخر؛ الجانب السني.. فما هو تفسيركم لهذا التمايز؟

– هناك وفرة متراكمة عبر عصور للثقافة الشعبية، لكنها لم ترفع أبدا تصاوير الإمام علي إلى مرتبة “التقديس”، فقد ظلت دوما في إطار “التبجيل” والفارق كبير وجلي بين “التقديس”، و”التبجيل”.

وهنا نحن في إرث مذهبيّ يمنح علي بن أبي طالب صفات وخصائص، دون الشطح والإفراط كما فعلت مذاهب أخرى مندثرة لا نجد لها اليوم أثراً تقريباً.

تبجيل هذه التصاوير يماثل تبجيل المؤمنين المسيحيين للأيقونات. الأيقونة المسيحية ليست الصورة الدينية فحسب، إنها الصورة الدينية المُقعّدة بقواعد شكلية صارمة، بقانون Canon، فيقال لها باللغتين الإنكليزية والفرنسية مقنونة أو مقعّدة canonisé، canonized. الأيقونة لها معنى لاهوتي عميق يميزها عن الصورة الورِعة.

صارت الأيقونة بالكامل جزءاً لا يتجزأ من التعليم الديني الأرثوذكسي ولكن أيضًا في كنائس الكنيسة الكاثوليكية الشرقية التي حافظت على تقاليد الأيقونة وكذلك في جزء من الكنيسة الكاثوليكية الغربية والكنائس غير الخلقيدونية. الأيقونات التي صارت حاجية للتبجيل من قبل المؤمنين. التبجيل والاحترام والورع وربما الصلاة (أمامها) وليس (لها) لنيل االبركة. يستوجب في ظني العودة إلى سجالات المسيحية الأولى عن طبيعة السيد المسيح وغير ذلك من الطبائع، منذ المجامع الكنسية الأولى وهي جلها شاميّة (أنطاكيّة خاصة). هذه العودة قد تبيّن أن هذا التقعيد من نتاج بلاد الشام أو بمساهمتها، نظرياً في الأقل.

وأظن أن المذهب الشيعي كان متسامحاً بشأن الصورة (التشخيص) ويغض الطرف عن استخدامها الاجتماعي طالما خدمت معتقداته، فكان يناور بالصورة أيضا ويستخدمها جهاراً. بينما كان الطرف السنيّ أقل تسامحا بشأنها ولا يقبل استخدامها الاجتماعي إلا نادراً أو يستخدمها في الخفاء: أروقة الخلفاء ودهاليزهم وجدران بيوتهم.. والحمّامات…الخ.

حرج فقهي

من وجهة نظركم؛ ما المحرك الأقوى في نشر هذه الثقافة شعبياً، على الرغم من حرجها الفقهي الذي لا يُجيز تصوير ذوات الأرواح عموماً..؟

– نلاحظ أن هذه الثقافة البصرية الشعبية، ذات الموضوعات الدينية نشأت على أطراف الدولة الإسلامية: العراق الذي يجاور بلاد فارس وآسيا الوسطى وصولاً إلى الصين، وهنا أول المؤثرات في التأثر بثقافة استخدام الصورة اجتماعياً في بلدان ما زالت حتى القرن الخامس عشر للميلاد في إطار مذهب أهل السنة والجماعة.

لقد استخدمت الصورة جماهيرياً للترويج لقصص وطنية قديمة والقصص القرآني وأساطيرها المحلية ومعتقداتها الشعبية، لدينا الكثير من المؤلفات المزوّدة بالمنمنمات، من القرن الثالث عشر الميلادي في الأقل، التي تبرهن على ذلك.

لقد جرى في جميع المذاهب الإسلامية، حتى تلك التي لا تجيز تصوير ذوات الأرواح عموماً عبر “حيلة فقهية” إجازة بعضها أو كلها، فالماوردي مثلا يجيز لعب البنات بالدمى وهي تماثيل من ذوات الارواح. وجميع الأعمال الفنية القادمة من مصر ما قبل الفاطمية مروراً بالفاطمية وما بعدها تقول إن المصريين المسلمين كانوا يستخدمون حاجيات كثيرة مزوّدة بالتصاوير التشخيصية كالخزف والعاج والمعادن والرسم على الورق والجدران والتماثيل ثلاثية الابعاد، ذلك أن المسافة بين (النص الفقهي الصارم) و(الاستخدام الاجتماعي) المنفلت دينياً أحيانا كثيرة، معتبرة وكبيرة في تاريخنا بل في يومنا الراهن.

جذور فارسية

لو تساءلنا عن جذور فن الاهتمام بتصاوير النبي وأهل بيته، فإلى أين نصل في المنشأ والتأسيس؟ وهل يتمتع هذا الفن بأصالة في التأسيس ضمن الإطار المشرقي؟ أم هو تأثر من ثقافات غربية..؟

– حسب متابعتي تعود جذور الاهتمام بتصاوير النبي (نعني التصاوير المرسومة فعلياً المحفوظة اليوم) إلى القرن الرابع عشر للميلاد، وذلك قبل تصوير آل بيت النبي التي ظهرت منذ القرن السادس عشر للميلاد. وقد ظهرت كلها في بلاد فارس وفي الغالب بتأثيرات إضافية من ثقافات آسيا الوسطى.

بالنسبة لتصاوير علي بن أبي طالب خاصة، فلدينا نص صريح لابن أبي الحديد (1190- 1258م) أي نهاية القرن الثاني عشر – منتصف الثالث عشر للميلاد يذكر أن صورة الإمام علي كانت مرسومة على سيوف بعض السلاطين والأمراء البويهيين، لكننا لا نتوفر إلا على النص الأدبي في “شرح نهج البلاغة” بينما التصاوير المرسومة فعلياً المحفوظة اليوم، فتعود إلى القرن السادس عشر للميلاد. ما مقدار مساهمة (الإطار المشرقي) حسب مصطلح السؤال في التأسيس؟ لا نستطيع الإجابة، لأن فناني هذه الأعمال كانوا يأتون من مشارق العالم الإسلامي ومغاربه، ويتنقلون فيها باعتبارهم مسلمين دون اعتبار لما نسميه اليوم الهوية المحلية أو الوطنية.

وعلى سبيل المثال نعرف اليوم أسماء بعض رسامي منمنمات كتاب (جامع التواريخ) لرشيد الدين، القرن الرابع عشر للميلاد، كانوا من العراقيين ولربما من الشوام، وكذاك بعض معماريي تاج محل لاحقاً. لكننا نستطيع القول بثقة إن الثقافات البعيدة عن مراكز “الثقافة الإسلامية” كان لها الحصة الأعظم في هذا التأسيس، لأسباب تتعلق بتاريخها التشكيلي الخاص، غير الهيّاب في الخوض بشتى الموضوعات، وهو موضوع شيق يطول الخوض فيه.

3 قرون

من خلال مشروعكم؛ في أي الأقاليم العربية ـ أو الإسلامية ـ نشط هذا الفن أكثر، وما هي أكثر القرون ثراءً غير القرن العشرين وما بعده..؟

– لعل بلاد فارس وبعدها الهند المغولية (بما في ذلك ما نسميه اليوم باكستان) كانت أكثر البلدان نشاطاً في هذا النوع من التصوير، وكان القرن السابع عشر للميلاد وحتى الربع الأول من القرن العشرين، أكثر الفترات نشاطا وأكثرها إنتاجاً..

الصورة النموذجية

الإيرانيون أكثر نشاطاً في هذا الصدد، وقد ألقوا بأثرهم في المجتمع العربي الشيعي. فهل أضاف الشيعة العرب إنجازاً ذا بال..؟

– الصورة المعيارية (الأيقونية) الراهنة الشائعة لعلي بن أبي طالب، مدينة في تقديري لمساهمة الشيعة العراقيين. فطيلة الفترات السابقة لا تظهر قط صورة مماثلة تماماً. تفاصيل هذه الصورة وألوانها ووضعية جلوس شخصها تكونت رويداً رويداً، ولا يمكن العثور على شبيه مماثل لها حتى في رسوم العصر القاجاري وفير الإنتاج لصور الإمام. وفي اعتقادي شيعة العراق العرب هم من منح يورتريه الإمام علي المعروف جماهيرياً اليوم، ملامح وجهه وطبيعة عمامته وطبيعة جلسته ولونه الأخضر الصريح.

فن شعبي

من الناحية الفنية؛ ما هي القيمة الإبداعية لهذه التصاوير؟ مع ملاحظة أنها أدنى من التصاوير المسيحية الأوربية ذات الحرفية..؟

– لا ترقى هذه الرسوم إل مستوى التصوير في المسيحية الأوربية الرفيعة، إلا بعض النماذج القاجارية، ونموذج رفيع مرسوم منتصف القرن التاسع عشر محفوظ في مركز الطريقة البكتاشية في ألبانيا. لكن جلها أقرب للفن الشعبي المتأرجح قوةً وضعفاً.

شاكر لعيبي (1955) فنان تشكيلي وشاعر ومؤلف عراقي. مجاز في التربية وعلم النفس عام 1977. حاصل على دبلوم الفن التشكيلي من المدرسة العليا للفنون البصرية عام 1992، وتعلم اللغة الفرنسية في جامعة جنيف. عمل في الصحافة والأدب والفن، متنقّلاً بين بيروت، وعدن، ودمشق، إلى أن أستقرّ به المقام في جنيف. من دواوينه الشعرية أصابع الحجر 1976 ونص النصوص الثلاثة 1982 واستغاثات 1984 وكيف 1998. وله مسرحيّة بعنوان حصار بيروت 1983 ورواية مترجمة بعنوان شيطان في الجنة 1986.  [ويكيبديا]

جمع الباحث في الكتاب ما يزيد على الـ 50 صورة مختلفة (أربعة الوان) رسمت عبر عشرات القرون وفي بلدان مختلفة من العالم شرقه وغربه منها القليل المعروف ومنها النادر المجهول، بنى عليها دراساته مستشهداً بها وشارحاً خصائصها ومعلقاً عليها.
يقارب مؤلف “العمارة الذكورية” “والفن الإسلامي والمسيحية العربية” تصاوير الإمام علي من ثمانية موضوعات. بداية تعريف القارئ بالفنون التصويرية وميزاتها، ثم يجيب عن السؤال البديهي الذي يلفت قارئ هذا الكتاب المفترض: هل يمثل بورتريه علي الشائع ملامح وجهه وتقاسيمه الحقيقية؟
ثم يعقد دراسات مقارنة بين تصاوير الإمام علي والفن المسيحي، منتقلاً إلى التقاليد المشرقية وتلك المغربية في تمثيل الإمام علي مروراً بصور الأولياء مع الأسد ترحيلاً لصورة الإمام علي مع الأسد. وفي المقاربات الأخيرة يتناول شاكر لعيبي الرسامين الشعبيين لصور الإمام علي وخصائص تلك الصور بوصفها أيقونات منزلية.
ورغم أن الموضوعات والصور محورها شخصية دينية معروفة بانتشار أتباعها بمئات الملايين الذين يملأون المعمورة منذ خمسة عشر قرناً، وهو الخليفة الإسلامي الرابع علي بن ابي طالب وبالرغم من أن تلك الدراسة، بما تحتوي من صور للإمام، يتهافت أتباعه على النظر اليها واقتنائها وتعليقها في بيوتهم ومتاجرهم، يحرص المؤلف على النحو بعيداً في مقارباته عن أي نزوع ديني أو عقائدي ويشدد على الخصائص الفنية والجمالية والتاريخية والاجتماعية والدراسات المقارنة المذكورة. (ناشر الكتاب)

‫2 تعليقات

  1. تمنيت لو تسألوه عن الاختلاف في شكل الامام علي – ع – في البورتريه الشائع في ايامنا هذه وبين شكله الي انتشر مؤخرا ً في فلم “سيدة الجنة” الي اصر مؤلفه أن شكل الامام في الفلم هو الأقرب للواقع. وايضاً عن سبب عدم وجود تشابيه للرسول – ص – في الماضي عكس اليوم،، هل كان الشيعة لايجوزون ذلك؟

  2. حبيب نريد مقال عن تصاوير المطربين العرب القديمين و اعادة احيائهم بأغاني جديده زي لي صار مؤخرا اكيد سمعتو به عن اغاني جديده لام كلثوم.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×