[كانت مدرسة 5] الخويلدية بدأت بـ 5 فصول في بيت “عربي” سندويشة فلافل بـ "نصّ ارْيال".. ومعلّمون يلاحقون الطلاب الهاربين

من غرف ضيّقة بدأت حياتهم مع الطباشير والكراريس.. وفي الدروب الترابية ساروا على أقدامهم إلى مدارس بعيدة، تحت حرّ الشمس، ووابل المطر. بعضهم حفاة، بلا تذمّر ولا تأفّف. درسوا وحصّلوا ونجحوا، وأصبحوا على ما أصبحوا عليه، مشاركين في بناء وطنهم وخدمة مجتمعهم.

هذه هي القصة التي تسردها صُبرة بالتفصيل من ذاكرة ناجحين بدأوا حياة المدرسة في ظروف لم تكن متوفرة كما الآن. طلاب درس بعضهم في السطوح، وتلقّوا دروس الحصص مبللين، وعادوا إلى منازلهم جائعين منهكين.. ومع ذلك؛ ثابروا وثابروا.

كانت مدرسة“.. تلك هي القصة التي تعود إليها “صُبرة” مع الطلاب والمعلمين، في مدن القطيف وقراها، عبر سلسلة من التقارير الصحافية النابشة للذاكرة، والمُشيرة إلى الحاضر.. والمستقبل..

قصصنا تبدأ مع احتفال العالم باليوم العالمي للتعليم، الموافق 24 يناير من كل عام، وتتسلسل حلقات القصة، يومياً مع مبنى ـ أو مكان ـ كان مدرسة يوماً ما..

كلّ يوم مدرسة..

———————–

هنا الخويلدية.. في بيت الطين

القطيف: جود الشقاق

في بيت عربيّ مبني على الطراز القديم، وبأدوات متواضعة، وإمكانات ضعيفة، خاض طلاب من القطيف تعليمهم الابتدائي، في أول مدرسة حكومية شهدتها بلدة الخويلدية.

المدرسة التي أنشئت قبل أكثر من نصف قرن، خلت من الطاولات والكراسي، فافترش الطلاب الأرض بـ”الزل” يجلسون عليه، وعندما ازدحموا، توجه بعضهم للجلوس على “الروزنة”، صانعين لأنفسهم كل عناصر السعادة والرضا والتصالح مع النفس، متسلحين بالعلم والمبادئ والقيم التي جعلت منهم ـ فيما بعد ـ الطبيب والمهندس والضابط والمعلم وغيرهم.

ولم تكن مدرسة الخويلدية “الطينية” سوى أحد حلول ابتكارية، تعالج إشكالية قلة المدارس الحكومية في القطيف آنذاك، وهو ما دعا الدولة إلى استئجار المنازل الكبيرة وقتها، وتحويلها إلى مدارس لسد العجز الحاصل في المدارس.

وبكثير من السعادة والافتخار وبعض الحزن والأسى، يسترجع خريجو مدرسة الخويلدية ومعلموها ذكرياتهم فيها، ويؤكدون أنهم قضوا فيها أوقاتاً لا تنسى، تعلموا فيها ما يعينهم على مواصلة الحياة والتألق وبناء الذات.

وكانت قصة تحويل بيت الخويلدية إلى مدرسة، شاهداً على المراحل التي مر بها التعليم في المحافظة، وشاهداً أيضاً على حرص المواطنين على تعليم أبنائهم، رغم صعوبات الحياة وقلة الموارد، وندرة وسائل الراحة. وتعود ملكية البيت الذي تحول إلى مدرسة، إلى الحاج علي مكي آل إبراهيم.

التعليم في الكتاتيب

وبالرجوع إلى التعليم في القطيف قديماً، فإنه كان مقتصراً على الكتاتيب، وهي مجالس لتعليم القرآن الكريم والعلوم الدينية، وتقام الكتاتيب في منازل الشيوخ والمساجد، تحت إشراف شيوخ من ذوي العلوم، يتعلم فيها الأطفال قراءة القرآن الكريم وتفسيره، ونجحت هذه الكتاتيب في نشر المعرفة بين الطلاب، ورغم بدائية التعليم فيها، إلا أنها لبت جزءاً من احتياج المجتمع.

في المقابل، كان بعض التلاميذ يقطعون مسافات، للذهاب إلى مدارس حكومية بعيدة عن مناطقهم، لينالوا نصيبهم من التعليم، ونظراً لهذه المشقة، طالب أهالي بعض القرى والمدن ـ آنذاك ـ بفتح مدارس في قراهم، ولما تعذر ذلك، لجأت الدولة إلى استئجار منازل الأهالي، تحويلها إلى مدارس حكومية.

نصيب الخويلدية

وكان للخويلدية نصيب من تلك المدارس، بعدما تم استئجار منزل الحاج علي مكي آل إبراهيم، ليكون أول مدرسة ابتدائية في البلدة، وكان ذلك في عام 1387هـ، ووقع الاختيار على هذا المنزل دون سواه، لكبر مساحته التي بلغت 800م، وموقعه في القرية، ويتكون من دور واحد، ويضم 5 غرف، تحولت إلى فصول، بجانب ساحة كبيرة وبستان، وتم بناء فصلين إضافييين في الطابق الأعلى لاحقاً.

وفي المنزل، كان معظم الطلاب يفترشون الأرض من شدة الزحام، وضم المنزل  براحة وملعباً ومقصفاً وبستاناً، اتخذه الطلاب ساحة للعب والترفيه والمرح في وقت الفسحة.

الضوء والهواء

ويرجع الفنان الموسيقي والموثق المعلم طاهر العلي بذاكرته إلى الوراء، متذكراً شكل المنزل وفصوله “كانت حجرة الدراسة ذات مساحة صغيرة، بعرض لا يتجاوز 2.5 متر، وطول 3.5 متر، بنافذتين صغيرتين، تسمحان بمرور الضوء والهواء وعدد الطلاب قرابة 33 طالباً، يجلسون على بساط مُطرز، وأمام سبورة صغيرة، لا تبعد سوى متر ونصف المتر عن عيونهم”.

د. حسن آل شيف

وكان للدكتور حسن آل شيف استشاري الأمراض الباطنية والصدرية مشاركة في استحضار الذكريات، التي وصفها بأنها “جميلة”. وقال “التحقت بهذه المدرسة، وكان عمري لا يتجاوز التاسعة، تعلمت فيها القراءة والكتابة، وكنت أحفظ القرآن الكريم، لذلك أتذكر أنني التحقت بمقاعد الصف الثاني مباشرة، طالباً متفوقاً ومجتهداً ومميزاً لدى المعلمين”.

وتابع “لا تغيب عن بالي أبداً مشاهد المدرسة ومقاعدها الخشبية، وطاولاتها الخضراء، وسبوراتها السوداء، التي كنا نكتب عليها بالخط الكوفي، فكل ما في المدرسة، على تواضعه، كان ممتعاً، حتى موجات الغبار التي تهب عليها، كانت مقبولة بالنسبة لنا”.

وأكمل “أتذكر تفاصيل يوم توزيع الكتب، وأعتبره يوم عيد، فبعدما اتسلمها وأتصفحها بكل حب واشتياق، وكنت أحرص على قراءة الدرس فيها، قبل أن يشرحه المعلم لنا في الفصل، وكنت شغوفاً بمادة اللغة العربية بداية، وتحول هذا الشغف إلى المواد العلمية تباعاً”.

فلافل ومشروب

ذكريات الدكتور آل شيف ذهبت إلى أبعد من ذلك، وتحديداً إلى نوع الوجبة المفضلة له، قائلاً “كنت أحب وقت الفسحة، وخلالها كنت أذهب إلى مقصف المدرسة، وأشتري وجبتي من الفلافل ومعها مشروب بمبلغ زهيد لا يتجاوز نصف ريال، وكان المقصف يزدحم بالطلاب وقت الفسحة الذين يسارعون لشراء الوجبات والحلويات، وكانت الغلبه للطلاب الأطول قامةً، إذ يمكنهم شراء احتياجاتهم أسرع من غيرهم”.

عراك ووعيد

وكان الدكتور آل شيف يحرص على نظافة الطاولة التي يجلس عليها، وتجميل محيطها بصفة دائمة، لدرجة أنه تشاجر مع طالب كان يخربش على طاولته، وحاول الحصول عليها عُنوة، ويشوه جدار الفصل. ويقول آل شيف عن ذلك “كانت طاولتي جميلة جداً، وقام هذا الطالب، وأتذكر أنه كان مشاغباً، بستبدال طاولتي بطاولته، فتعاركنا، وكان المعلم موفق هو الحكم بيننا، حيث أعاد لي طاولتي النظيفة، وبعد هذه الواقعة، لم أسلم من الطالب المشاغب، حيث توعدني بنهاية الدوام المدرسي”.

صدفة جميلة

ولا تغيب أسماء المعلمين عن ذاكرة آل شيف. ويقول “أفتخر بهؤلاء المعلمين الأفاضل، الذين تتلمذت على أياديهم، وكان أغلبهم من دولة فلسطين، ومنهم المعلم فلاح محمد مدرس اللغة العربية، وكان من مدينة نابلس، ومحمد عاشور معلم الرياضة، ومحمد مؤمني معلم العلوم، وموفق مدرس الاجتماعيات”، مضيفاً “من جميل الصدف وبعد مرور سنوات طويلة، أتفاجأ باسم مريض لدي، وهو المعلم موفق معلم الاجتماعيات، والتقيته  بعناق حار، وجلسنا نسترجع ذكريات سنوات مضت”.

طابور الصباح

وتصدر طابور الصباح دون سواه، قائمة ذكريات علي مدن الأمرد. ويقول “التحفت بالمدرسة بعمر 6 سنوات، وكنت مُحباً للتعلم، وأحرص على حضور طابور الصباح، الذي كان  يُقام في الأرض الفضاء التي تقع مقابل المدرسة، ويقع بجانبها غدير ماء، وظهر فيها نبات الأثل”.

وتابع الأمرد ضمن ذكرياته “تميزت المدرسة بتخصيص يوم، أطلقوا عليه “يوم النظافة”، وفيه كان الطلاب يرتدون ثياباً نظيفة أو جديدة، ويتم التفتيش على شعر الطلاب وأظافرهم، وتقييم النظافة الشخصية لهم، وأثناء الفسحة، يقوم الطلاب بتنظيف المدرسة تحت إشراف المعلمين، في إظهار حقيقي لروح العمل الجماعي وإبراز أهمية النظافة”.

مطاردة الغائبين

ودون بقية المعلمين، يتذكر الأمرد المعلم صلاح المدني، ويقول عنه “كان شديداً مع الطلاب، ولكن من باب الحرص عليهم والخوف على مستقبلهم، لدرجة أن أي طالب يغيب عن المدرسة، ويعلم المدني بأنه غائب دون سبب وجيه، يقوم بالذهاب الى منزله، وإحضاره الى المدرسة بالاجبار”. ويواصل الأمرد “وكان لعريف الفصل، وهو من الطلاب، دور في  الحفاظ على “سيكل” المعلم”.

فصل واحد

وضمن مخزون ذكرياته عن المدرسة، يقول المهندس حسن آل شيف الذي كان طالباً فيها “كنتُ من أوائل الطلاب الذين التحقوا بالمدرسة، وكانت بدايتها عبارة عن فصل واحد، يضم مختلف الأعمار من الطلاب، الذين كان عددهم أقل من 50 طالباً، وكنا نجلس على “الزولية”، وبعد سنة أحضروا النا كراسي وطاولات، بعدها زاد عدد الطلاب”.

وامتدت ذاكرة آل شيف أصحابه الذين التحقوا معه في مقاعد الدراسة، وبنبرة لا تخلو من حزن وآسى، ذكر أصحاباً له، انتقلوا إلى رحمة الله. ويقول “كان منهم حسن علي سماك الذي عمل مساعد مدير في المعهد المهني، وكاظم صالح حميد، الذي عمل في  الشرطة”. وتابع “بجانب من رحلوا، هناك أصدقاء تربطني بهم علاقة قوية الى الآن، منهم عباس اسماعيل الشرفا، وهو متقاعد من سلاح الطيران، وسلمان محمد السادة مدرس الحاسب الآلي في الكلية التقنية، وسيد عباس السادة مدير بنك العربي”.

البلسم الشافي

ويطلق معلم المدرسة طاهر العلي، على حصيلة ذكرياته في مدرسة الخويلدية وصف “البلسم الشافي”، ويقول “الحديث عن ذكرياتي في المدرسة يرحيني ويشعرني بالسعادة وأنا أتذكر تفاصيل الزمن الجميل، وأعتبرها البلسم الشافي لجراح اليوم”.

ويتابع “في اليوم 13 من شهر رمضان المبارك عام 1392هـ، استلمت خطاب التوجيه الى المدرسة، على إثر عملية تبادل بين الزملاء، حيث كنت مُعيناً في إحدى مدارس سيهات، بينما المعلم الآخر معينٌ في الخويلدية، ولظروف هذا المعلم العائلية، كانت سيهات هي الأنسب له، نظراً لصعوبة المواصلات في تلك الفترة، خاصة أنه كان يسكن في الدمام”.

ويُكمل “في اليوم التالي، توجهت بالخطاب إلى مدرسة الخويلدية دون معرفة سابقة بها غير الاسم، وتفاجأت عندما دخلتها أول مرة، بإنني في أحد بيوت الطين القديمة والمعدَّلة، واستلم مدير المدرسة الخطاب، وتم التوجيه بإنهاء الإجراءات، ومن ثم تكليفي بتدريس طلاب الصف الأول الابتدائي جميع المواد، وكنت سعيد جداً بهذه المدرسة، رغم قساوة الظروف آنذاك من مواصلات ومبنى طيني، وانعدام وسائل الراحة من كهرباء وماء عذب، وكان جدولي يضم 27 حصة في الأسبوع، ورغم ذلك كنت سعيداً جداً”.

مدراء المدرسة

وقاد مدرسة الخويلدية عدد من المدراء، بينهم عبدالله عيد، عبدالعزيز الزويد، وعبدالله أحمد النعيمي، وهو الأحساء، بعدها تسلم طاهر العلي، وهو معلم في المدرسة، مهام  المدير، وكان من سكان الجش، وسرعان ما ترك المدرسة للإلتحاق بمركز العلوم والرياضيات للدراسة فيه، ويعد العلي من الشخصيات البارزة في مجتمع القطيف ومن المصورين القدماء، يركز اهتمامه على توثيق الذكريات، ورصد آثار القطيف وتاريخها العريق، وكان له الفضل في توثيق جوانب المدرسة وأخذ اللقطات الجميلة للطلاب والمعلمين”.

 

شكر خاص:

للفنان طاهر العلي، على توفيره الصور من أرشيفه الخاص.

اقرأ أيضاً

[كانت مدرسة 4] في “بيت مكّية”.. درست بنات دارين أمام البحر

[كانت مدرسة 3] أم الحمام.. من منزل مستعار إلى 14 مؤسسة تعليم

[كانت مدرسة 2] “الصغيرة” مدرسة المـُ…. هندسين في صفوى

[كانت مدرسة 1] في حيّ الطابوق.. درس عضو شُورى ورئيس نيوم وجيل كامل من سيهات

 

‫3 تعليقات

  1. كل الشكر للقائمين على صحيفة صبرة ، تقرير جداً مميز خصوصا في مايتعلق بمدرسة الخويلدية تاريخ عريق لهذه البلدة الصغيرة بمساحتها والكبيرة بأهاليها خرجت الكثير من اصحاب العلم والمعرفة .

  2. الله على ايام الدراسه في البيوت القديمه حتى لو مو طين اي بيت كان كانت الدراسه حلوه فيهم انا حساويه وكان بيت جدي من ظمن البيوت الى ستاجرت وصارت مدرسه لطلاب
    الله يديم حكومتنا ووزاره التعليم على هاذه الجهود

  3. كل الشكر والتقدير لكل الكوادر في صحيفة صبرة لجهودهم النيرة

    وحول مقالة مدرسة الخويلدية أعجز مهما ذكرت عن سرد ذكريات عشتها خلال عملي بالمدرسة بين الأهالي الكرام وبين أبنائهم وبين كوادر المدرسة من العاملين والمعلمين. وحتى اليوم لم تنقطع الصلة بين أحبتي .
    رحم الله من هم في ذمة الله والعمرالمديد بصحة وعافية وسلامة لمن هم بيننا

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×