[مبصرون 5] شاكر الخنيزي.. الضوء اختفى في قطر.. والتفوق في أمريكا.. والنجاح في القطيف

القطيف: شذى المرزوق

“أن تولد كفيفاً شيء، وأن يختفي وميض النور من عينيك فجأة بعد أن كنت تُبصر، وتلعب، وتقرأ، وتكتب شيء آخر”.

تحت هذا المضمون، تحدث شاكر عبدالله أحمد الخنيزي عن تجربته في الحياة، وكيف بات ليله مُبصراً لا يشكو من شيء، ليصحو على ظلام دامس، لازمه نحو 58 عاماً، وإلى اليوم الذي يبلغ فيه الـ70 ربيعاً.

وبين الصدمة من العمى، والخوف من المستقبل، والأمل في العثور علاج هنا أو هناك، واصل الخنيزي حياته فترة، قبل أن يدرك أن الوضع سيبقى على ما هو عليه، فطرح على نفسه سؤالاً “إلى متى..؟” استمد منه العزيمة والإرادة في تحويل بوصلة حياته، من طفل كفيف، لا مستقبل له، إلى مُعلم وأب ورجل أعمال.

شاكر الخنيزي الأول من يسار الصورة، بجانب عبدالله أبو السعود، وعبدالرؤوف من قدامى معلمي المعهد

سنداً لوالدي

بدأ الخنيزي مرحلة الطفولة في قلعة القطيف، حيث ولد وعاش مع عائلته. ويقول عن هذه المرحلة “أنا ابن عائلة معروفة من عائلات القلعة، سُجلت في بطاقة العائلة من مواليد 1367هـ، ورغم أنه لا يُعتد بالتواريخ القديمة في اثبات تاريخ الولادة، ولكنني تجاوزت الـ70 من العمر، وقضيت الـ12 سنة الأولى منها مبصراً، أساند والدي وعمي في عملهما بمجال تجارة الأقشمة واستيراد وتصدير التمور وغيرها”.

ابتدائية القطيف

وأكمل الخنيزي حديثه “التحقت للدراسة في مدرسة القطيف الأولى الابتدائية (مدرسة الحسين)، وأكملت فيها دراستي حتى حصولي على الشهادة الابتدائية، وكنت أمضي فترة الإجازة الصيفية لكل المراحل الدراسية مع والدي، متنقلاً معه بين البحرين والكويت وقطر وهكذا، وكنت أساعده في الأعمال المكتبية”.

النور المفقود

وتابع “مع إجازة السنة الأخيرة للمرحلة الابتدائية، غادرت القطيف مع والدي في رحلة عمل تجارية في قطر، كان كل شيء طبيعياً، أمضيت نهار أحد الأيام كما هي العادة في مساعدة والدي، ونمت بشكل طبيعي دون أي ألم، ولا أي مقدمات، وصحوت في صباح اليوم التالي لا أرى شيئاً، هكذا ببساطة ذهب من النور من عيني”.

ويصف الخنيزي شعوره في هذه اللحظة “انتابتني صدمة وخوف وشعور بالحيرة، كنت أسأل ماذا حدث حتى لا أرى إلا الظلام؟ لم أجد جواباً، ولم يسعفني الطبيب بتفسير شافٍ آنذاك، بعد أن أسرع والدي بي إلى أحد المستشفيات القطرية، وفيه أعطاني الطبيب قطرة لعلاج التهاب العين، وغادرت فاقداً البصر”.

رحلة العلاج

ويواصل الخنيزي استرجاع المزيد من ذكريات تلك المرحلة “استمعنا إلى مشورة أحد معارف والدي، الذي نصح بالذهاب إلى العاصمة الإيرانية طهران، حيث يوجد طبيب عيون معروف هناك، ومن الدوحة توجهنا بالفعل إلى طهران، وهناك التقينا الطبيب الذي طلب أن نبقى لفترة لمتابعة الفحوصات، التي كانت تستدعي الذهاب والعودة إلى ومن المستشفى، ومع ذلك لم تثمر فترة العلاج عن شيء”. وأكمل “من طهران، اتجهنا إلى مصر، وكانت النتيجة ذاتها، وتوجهنا بعدها إلى القدس الشريف، وبدأت تلقي العلاج على مدى 4 أو 5 أيام، ولكن بلا فائدة”.

الخنيزي وسط الصورة أثناء احتفالية عشاء ضمت إدارة ومعلمي وطلاب المعهد

بصيص نور

ومن القدس، اتجه الخنيزي إلى بيروت، بحثاً عن علاج، بعد أن عرفنا أن هناك طبيب عيون انجليزي. وقال “هناك التقنيا أطباء عدة، وأمضيت فترة علاج مايقارب 6 أشهر، وخضعت إلى عملية في عيني، وبعد أن صحوت منها أبصرت النور لدقائق فقط، قبل أن يغيم الظلام من جديد، وكان جواب الدكتور وقتها عاد الالتهاب من جديد لنعد إلى العلاج”.

بعد هذه الرحلة، أصيب الخنيزي بالإحباط، واستشعر أنه لا فائدة، ولكنه استمد بعض الأمل لمواصلة رحلة العلاج من جديد، وتوجه إلى طبيب آخر. وقال “مازلت اتذكر كلماته لي بألا أيأس ولا أحزن لأنني فقدت بصري، ونصحني أن أبحث عن هواية تُخرجني من هذا الحزن، أشار علي بدراسة الموسيقى والغناء، بحجة أن كثيرين ممن هم في مثل حالتي الصحية، توجهوا إلى هذا المجال، فأخبرته حينها أن صوتي لا يناسبه الغناء، ولا رغبة لي بتعلم الموسيقى”.

حزن وعزلة

انتهت كل محاولات الخنيزي في العلاج بالفشل، وعاد إلى القطيف كئيباً، ودخل في حالة عزلة مُحبطة، استمرت سنتين، لا صديق له إلا جهاز الراديو. ويعلق على هذه الفترة “أدركت أن لا يد لي فيما حدث، وهذا قدر الله، وكان علي أن أتحرك للأمام، ولا أقف ساكناً أمام هذا الابتلاء، وبرأسي سؤال أوجهه لنفسي “هل سأبقى هكذا معتزلاً في منزل جدي يساعدني والدي وأهلي؟، واذا بقيت هكذا فإلى متى ستبقى هذه الحال؟”.

مشروع و أمل جديد

بعد تلك العزلة، قرر الخنيزي أن ينهض من جديد، وافتتح مشروعه الخاص. ويقول “كان عبارة عن بقالة صغيرة في المنزل، أبيع فيها السلع، وكات عمري آنذاك 15 عاماً، لم أكن أعلم حينها أن البقالة ستكون بوابتي لمواصلة التعلم والدراسة، بعدما تعرفت إلى شخصيات ومعلمين في معهد النور، الذي كان حديث الافتتاح في القطيف، وتعرفت إلى مدير المعهد محمد الحميد، وعدد من المعلمين من الجنسيات العربية الذين كانوا يرتادون دكاني الصغير، وشجعوني بحماس على استكمال دراستي في المعهد مع بقية المكفوفين من الدفعات الأولى”.

3 طلاب

ويصمت الخنيزي لحظات، قبل أن يستعيد ذكرياته في المعهد “كنا وقتها مجموعة من المكفوفين من مختلف مدن وقرى المحافظة، والدفعة التي كنت فيها تضم إلا 3 طلاب فقط، ممن أنهوا الدراسة الابتدائية، وهم: فيصل الحماد من تاروت، وأحد أبناء عائلة أبو السعود من القطيف، وأنا، تعلمنا جميعاً لغة برايل، ولكن ما لم نتقبله،  الدراسة مع مجموعة قديمة، بينما نحن في مرحلة البداية، وهذا ما دفعنا إلى المطالبة بأن نكون ضمن صفوف متقدمة”.

مطالبة وسعي

ويُكمل الخنيزي حديثه “بدأت وزملائي رحلة جديدة من الكفاح، للحصول على تعليم أعلى، وطلبنا ذلك من المدير، الذي رفع خطاباً إلى وزارة التعليم في الرياض، يشرح فيه وضعنا نحن الثلاثة، وجاء الرد بأن التقييم لوضعنا الدراسي سيكون بناء على نتيجة المقابلة الشخصية لنا، وبالفعل توجه عدد من المعلمين من الرياض لمقابلتنا، وأجريت المقابلة، وخضعنا لاختبار في الكتابة والتعليم، وتلقينا بعدها رداً ايجابياً يدعم مطالبنا بالدراسة ضمن فصل متقدم، وعليه، لابد أن نذهب إلى الرياض”.

من الذاكرة

وفي الرياض، كان للخنيزي ذكريات أخرى، منها، وقوعه في حفرة عميقة للصرف الصحي. وعن تفاصيل هذه الواقعة، يقول “ذهبنا إلى الوزارة، وقابلت المسؤول هناك، وطلبنا أن ندرس المرحلتين المتوسطة والثانوية، واعتماد شهاداتنا وتخرجنا من المرحلة الابتدائية، واقتنع المسؤول بذلك، وبعد مشاورات، تمت الموافقة الرسمية، وتم تسليمنا الكتب الدراسية للمرحلة المتوسطة، وكنت سعيداً جداً بما تحقق، وتوجهت إلى الفندق الذي حجزت فيه غرفة، لحين الانتهاء من عملنا في الوزارة، مُحتضناً كتبي، وركبنا سيارة أجرة، وعند الوصول إلى الفندق، طلبت من السائق التوقف عنده، وبلا قصد منه، توقف بجانب حفر عميقة للصرف الصحي، وما ان نزلت مسرعاً، سقطت في الحفرة التي كانت بعمق 6 أمتار، ودخلت في غيبوبة دقائق، صحوت منها على أصوات تجمهر الناس من فوقي، وأنا أنزف دماً من وجهي ويدي، وآلام شديدة في جسمي”.

شاكر الخنيزي الثاني على يسار الصورة وقوفاً
ضمن مجموعة من معلمي وإدارة معهد النور بالقطيف

سقوط وحلول

ويُتابع “جمعت كتبي واحتضنتها من جديد، ومددت يدي للأعلى بالكتب، فالتقطوها مني، وقالوا لي إنني أجتاج إلى “ونش” ينتشلني، فعرفت حينها انني وقعت في حفرة عمقية، فكرت ماذا علي أن أفعل، في هذه الأثناء، أنزل بعض الشباب سلماً خشبياً، يستخدمه عمال الحفر، وطلبوا مني الصعود عليه، وبالفعل تقدمت مشياً إلى الأمام مستمعاً لتوجيهاتهم حتى وصلت إلى مكان السلم، ولحسن الحظ، اصطدمت برأسي بالسلم، ما منعني من أن أقع في حفرة أخرى، وسط صرخات الشباب “توقف توقف لاتتقدم أكثر”.

حبل من الغُتر

وبعد فشل اقتراح السلم الخشبي، فكر الشباب بعدها في فكرة أخرى، بجمع عدد كبير من الغُتر التي كانوا يرتدونها، وربطها ببعضها البعض على هيئة حبل، ونزل شابان متعلقين بالحبل (الغُتر) إلى الحفرة، وسلما الخنيزي طرفاً منه، وطلبا منه أن يمسك به جيداً”.

ويصف الخنيزي هذه المحاولة بالنسبة له بأنها “مسألة تشبث بالحياة وليس بالحبل”. ويقول “أمسكت به بقوة، حتى ارتفعنا نحو مترين ونصف المتر، وهنا أسقط شبان آخرون حبلاً آخر من الغُتر، رفعونا به أنا والشابين اللذين كانا معي، ونجوت من تلك الحادثة بأعجوبة، ولا أنكر أنها زادت من إصراري للتأقلم على حياتي الجديدة”.

من النور لأمريكا

مكث الخنيزي في الرياض، وأكمل المرحلتين المتوسطة والثانوية في معهد النور، وتعلم كيف يتكيف مع حياته الجديدة، ومع الغربة، وكيف يعتمد على نفسه. ويقول “بعد تخرجي في الثانوية، عدتُ إلى القطيف، وعملت معلماً لمادة الرياضيات في معهد النور، الذي بدأت منه أولى خطواتي العلمية، وبعد سنوات عدة من العمل معلماً، كانت الوزارة بدأت بابتعاث الطلاب المكفوفين إلى الخارج، فطالبت أنا وبعض الزملاء أن نكون ضمن المبتعثين لاستكمال دراستنا الجامعية، ووجدنا تعاوناً كبيراً من المسؤولين، وتمت الاجراءات بسهولة للابتعاث.

وقبل السفر إلى أمريكا، حرص الخنيزي على إكمال نصف دينه، واصطحب زوجته في رحلة السفر، وأنجب ابنته الأولى “ريما” التي تعمل في مجال الصحة الان، وبعد عودته، أنجب أبناءً آخرين. وله اليوم 3 بنات وولد واحد.

وغادر الخنيزي مع زميليه، إلى الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية العام 1984، عاد إلى القطيف، حاملاً شهادتي البكالوريوس والماجستير في علم الاجتماع. ويقول “كنت أطمح في دراسة الدكتوراة، التي درست جزءاً منها قبل أن أتوقف وأعود من أجل ابنتي “ريما”.

ذكريات أمريكية

ويفتح الخنيزي جعبة ذكرياته في الولايات المتحدة، قائلاً “حين وصلنا هناك، التحقنا بمركز متخصص بذوي الاحتياجات في ولاية اركنسا، ويؤهلنا لنتعلم كيف نعيش بشكل مستقل، وكيف نطبخ وكيف نخيط أزرار القميص، بالإضافة إلى تعلم القراءة والكتابة بطريقة برايل المتطورة، كما تعلمنا كيف نختصر الكلمة بأحرف فقط، وبقينا هناك مايقارب 10 أشهر”.

وتابع “في تلك الأثناء، تم التوجيه بتوفير معلمة، تدرس لنا اللغة الإنجليزية، ما يساعدنا على مواصلة الدراسة الجامعية هناك، وبالفعل، كنا نتلقى علوم اللغة 3 ساعات يومياً، وحصلنا على قبول في الجامعة، بعد نجاحنا في اختبار “توفل” للغة الإنجليزية”، مضيفاً “كنت الوحيد الذي تم قبوله من محافظة القطيف، مع طالبين آخرين، هما زميلي محمد الدوسري في التخصص نفسه (علم الاجتماع)، وزميل آخر لا أتذكر اسمه، توجه للدراسة في جامعة أخرى”.

طموح بلا حدود

 أكمل الخنيزي دراسة البكالوريوس، وقدم بعده طلباً باستكمال الدراسات العليا، ووافقت الوزارة على ذلك، وتم تمديد فترة الابتعاث، حتى حصل على الماجستير في الجامعة نفسها مع زميله الدوسري. ويقول الخنيزي “بعد الماجستير، دخلت بعدها لدراسة رسالة الدكتوراة، وبالفعل قطعت فيها شوطاً، لكن في تلك الفترة، كانت ابنتي “ريما” قد بلغت سناً تؤهلها لدخول الروضة، وطان علي أن أختار إما أن أدخلها الروضة متأخرة، أو أعود بها إلى القطيف للتعلم، وفضلت العودة، حتى لا تتأخر ابنتي على الالتحاق بالروضة، وبالفعل عدت مع أسرتي إلى القطيف، والتحقت ريما بالروضة”.

وقدم الخنيزي طلباً للعمل في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، ولم يحظ بذلك، ما دفعه إلى العودة إلى معهد النور معلماً، ثم مشرفاً في مدرسة جعفر بن أبي طالب في القطيف، ضمن برنامج دمج المكفوفين، إلى أن تقاعدت”. ولا يزال تلاميذ الخنيزي يزرونه بين الحين والآخر. وقاده التطلع إلى استثمار وقته وأمواله، في مشاريع تجارية وطبية عدة، ولكن لم يكتب لها النجاح.

 

اقرأ أيضاً

[مبصرون 4] حسن الفارس: الكفيف هو الأمّي ولو كان مُبصراً

تعليق واحد

  1. هذه القصة الجميلة والرائعة يا ليتها تتحول إلى رواية عنوانها تحمل تجربة و كفاح المعلم والمربي والقدوة الإنسانية القطيفية العالية، هذه التجربة الحياتية الفريدة للأستاذ شاكر الخنيزي حفظه الله، لابد أن تخلد و كذلك الاجل تكون شاهد حي من واقعنا لكل شخص فاقد للأمل كان مبصرا أو غيره ذلك ، شكرا شكرا لكم أستاذ شاكر على هذا السرد الرائع وانت بالفعل فخرا للوطن والمجتمع والإنسانية ، و شكرا لصحيفة صبرة الإخبارية على هذه الإضاءة الوطنية القطيفية الرائعة، دمتم في توفيقات الله

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×