الأستاذ.. الجائزة
حبيب محمود
في ذاته جائزة، وتسعون عاماً في حياة محمد العلي؛ جائزة لهذا الوطن. الشاعر الذي لم يُلاحق الأضواء؛ لأن الأضواء كانت تلاحقه. والرائد الذي يتورّدُ فرحاً؛ كلما لمح نبتة موهبة. والصحافي الذي جعل من ورق الجرائد حدائقَ. والمنفتح الذي لم يخنق أفقهُ بما يُريده الناس، بل بما يريدُ هو..!
من مبدأ عمران الأحساء، إلى محطّ حوزة النجف، إلى سبورة الصف في الدمام، ثم بيروقراطية الوظيفة في إدارة التعليم؛ ومعها تحريك ساحة الثقافة، وصناعة تحوّل جديد، ليس في شكل القصيدة المتناظرة، بل وفي نمط التفكير/ التعبير.
ذلك الطفل الذي كان يخاف موس الحلّاق في الأعياد، والشاب الذي تقرفص في حضرة “متن الآجرومية”، والكهل النافض غبار حروف الرصاص من “ماكيتات” صفحات “المربد”، والمتقاعد المكتفي بعمودٍ صغير في صحيفة، والعجوز الذي يروده الناس، ثم الطاعن في سنوات التأمل واستفزاز العقل، وتنبيه العبارة..!
إذا كانت السيرة هي أن تكون أنت كما أنت؛ فإن محمد العلي؛ قد ضرب هذا على الوتر؛ دون أن تفتر منه نغمة، حتى وهو يتلقّى الأوكسجين عبر أنابيب. حتى وهو يحتاج إلى من يساعده في اعتدال جلسة، حتى وهو يتوكّأُ على معصمٍ متصلّبٍ في تحرير مقال..!
ما كان لمحمد العلي إلا أن يكون محمد العليّ، وتلك منقبة نادرةٌ؛ فحيثما يجلس؛ يكون هو المنصّة، وأينما يكتبُ يكون هو الجريدة، وهو المجلة، ليس لشهرةٍ أو صيتٍ فحسب؛ بل لتلك الفلذات المتناثرة في مساحة التعبير/ التفكير، التي يكشف فيها عن “رؤية”، ويشير إلى “موقف”. ولطالما شغلته هذه الثنائية، سواءً أعربَ أم أعجم، أفصحَ أم تحايل، ففي كلّ الأحوال؛ “الرائد لا يكذب أهله”، كما يقول أعمامنا من السلف الصالح من العرب..!
ومن هنا تتوضّح “ريادة” محمد العلي نصّاً وفصّاً، على النحو الذي أشار إليه علي العميم، قبل قرابة ثلاثين سنة، في مقارنة بينه وبين “التنويريين” العرب الآتين من يمين الثقافة. ذلك المعمّم “الحساوي” النجفي العائد إلى وطنه؛ خلع “جلباب” الحوزة، كما تخلّى ـ مثلاً ـ طه حسين على “جلباب” الأزهر، واستعاض بطباشير السبّورات عن “التقرفص” عند مصطلحات “المقدمات” و “السطوح”، فسخط من سخط، ورضي من رضي..!
ثمّ إن “الجريرة” ليس في أن تخلع عمامتك وتحلق لحيتك؛ فالمتراجعون أكثر من المستمرين. ولا أن تنفض عن اللغة شنار الكلَس، وتكسر صلابة الدلالة، فلطالما غيّرت اللغة وجوهها، وجدّدت أوراق شجرها. ولا أن تُجالس “الآخر” الذي لُقّنتَ من ركام علم الكلام ما يُعينك على المجالدة في المجادلة، فالمتسامحون يملؤون البياض.
الجريرة، كلّ الجريرة، هي أن تضيف إلى كلّ هذا قولك “أنا لستُ أنتم”، ببصيرة من فهم التاريخ، وخلّل في سُراة أمهات الكتب وبناتها، وتعلّم الأسماء، كما ينبغي لمقتدرٍ على تشخيص أورام الخرافة، وتفكيك حنَق الصراع في قرون التاريخ. وهذه جريرة لا ينتظر محمد العليّ لها غُفراناً من أحوج الناس إلى الغُفران، بل يطوي عنها كشحاً، ماضياً متدفقاً في “مائياته” الأكثر صفاءً ووضوحاً.
وما أقلّ الصادقين في قول “أنا لستُ أنتم”، ولا يُلقّى هذا الحظّ؛ إلا من تجاسر على أن يكون نفسه، فيما يقول، ويفعل، ويكتب، ويفكر، ويعبّر.. ويُعامل.
تكريم محمد العلي بجائزة الأمير عبدالله الفيصل؛ إشارة إلى كثير.
احسنت ابو محم
أبدعت يا حبيب. مقال جميل ورصين، مكثف وعميق. مقال يستحقه أبونا أبو عادل محمد العلي. وجميل أن يأتي التكريم في هذا العمر، ومن هذه الجائزة التي لا تجامل.
محمد العلي مثال للإنسان المحب للحياة، للمثقف الصامد المؤمن بالثقافة القادرة على التغيير ببطء، مثال للكاتب الذي لم تهزمه السنون ولم يستسلم لشعور ” اللاجدوى” الذي يعترض المثقف في منتصف عمره. شكراً يا حبيبي يا حبيب.
شكراً كثيراً لصحيفة صُبرة الحاضرة في قلب الحدث.
أحسنت حبيب، حديث جميل المعنى والتركيب واللغة