[3 ـ 3] الموسيقى بين الإباحة والتحريم
محمد السنان
ولكن العباسيين لم يغلّبـوا حيـاة اللهـو والترف على العـلـوم كما فعـل أسـلافهم الأمويون. بل على العكس من ذلك، فقـد اهتمـوا بالعـلوم والفلسـفة والآداب والموسـيقى وسـائر الفنـون الأخـرى بجانب اهتمامهم بالشأن الـديني. ونشطت في عهـدهم الترجمـة التي كانت النافـذة للتعـرف على حضارات بعض الأمم المتحضـرة ونقل ثقافاتهم وعلومهم وفنونهم، وبذلك نشأت نهضـة ثقافيـة وحضاريـة في بغـداد حاضرة الدولـة العباسـية لم يشـهـد العالم لها مثيلا.
ومن الواضح أن الموسيقى العربية في العصر العباسي بلغت ذروة مجدها من ناحيتي الأداء الغنائي وانتشار العلوم والبحوث والدراسات الموسيقية. واستمرت بغداد حتى منتصف القرن التاسع الميلادي مركزاً حيوياً تنبعث منه إشعاعات النهضة العلميـة والأدبيـة الموسيقية. فظهر في هـذا العهد أشهر علماء الكيمياء والفيزياء والرياضيات والطب والفلسفة والشـعـر والموسيقى والغنــاء.
لقـد كان القـرن الخامس عشـر ـ دون شك ـ هـو نهايـة المطاف لكل أصناف العـلوم والثقافـة وبدايـة عهـد الانحطاط، حيث أســدل سـتاراً كبيراً عـلى النشاط الفكـري والثقافي،
ولعـل هـذا القـرن هـو حقاً أحـد أهم فواصـل التاريخ البشـري خطـورة وأهميـة. فقـد بدأت به أوربا عهـداً جـديداً (عصـر النهضـة)، في الوقت الذي بدأ ليل العـرب الدامس يشـتد ظلمـة وعتمـة، حيث خـيم الخـراب العثماني وأطبـق تماماً عـلى كل أوجـه الحيـاة، وصادر الكتب وأحـرق جلها وفـرض طوقاً حـديدياً عـلى حـرية الفكـر والتعـبير واسـتمر ذلك عـلى مـدى ثلاثـة قـرون من مطلـع القـرن السـادس عشـر وحـتى نهايـة القـرن الثامن عشـر الميلادي، حين نهض محمـد عـلي باشا ليضـع حـداً لتلك العصـور المظلمـة ويقـود حملـة التنوير في مصـر التي تأثرت بها باقي أقطار الـدول العـربيـة الشـرق أوسـطية، كان من نتائج حـركـة محمـد عـلي باشا أن ازدهـرت الحـركـة الأدبية والثقافيـة والفنيـة في مصـر، وظهـرت الأعمـال الغنـائيـة المتمـيزة للسـلوب ومحمـد عثمان وعـبـده الحمـولي وسـلامة حجـازي وغـيرهم من الفنـانين الـذين برزوا في تلك الحـقبـة الزمنيـة.
ولكن لنقف عند نقطة واحدة هنا، وهي تعريف الحرام في الدين، بغض النظر عما إذا كنـا نتحدث عن الموسيقى والغناء أو غير ذلك، فما يهمنا هنا في المقام الأول هو إيجاد تعريف يتفق عليه جميع علماء المسـلمين باختلاف مذاهبهم ونحلهم لكلمة (حــــرام). وقـد اجتمعت وناقشـت هذه النقطة مع عدد كبير من رجال الفقه من المذاهب السنية والشـيعية وقد خرجت بحصيلة واحدة مفـادهـا أن الأصل في الأشياء الإباحه، أي (الحلال) مالم يصدر به نص صريح بتحريمها… وكلمة “نص صريح بتحريمها” تعني أن ترد كلمة (حرام) وليس أي كلمة يمكن الاختلاف في تفسيرها بين العلماء.
وبما أن هذا هو التعريف لـ (الحرام) فإنني أتساءل من أين جاء هؤلاء الذين يطلقون على أنفسهم ألقاب العلماء بهذه الفتاوى التي لا تستند إلى أي أساس فقهي..؟
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن أصحاب الفكر التكفيري قد نصبوا من أنفسهم وكلاء الله في أرضه، فهم الناطقون الرسميون والوحيدون باسم الله، وأن كل من يختلف عنهم فهو كافـر.
كما أنهم اتخذوا من العنف سبيلاً لنشر تعاليمهم وأفكارهم، وأخذوا يرهبون الناس باسم الدين، ونشطوا في ذلك، واتخذوا من أسلوب الاغتيال وسيلة للتخلص من مخالفيهم في الرأي. وكلنا يعرف ما تعرض له كبار الكتاب في مصر من اغتيال واضطهاد وتهـديد وغيره، من أمثال فرج فوده، ونصر حامد أبو زيد ونجيب محفوظ وسـيد القمـني وغيرهم الكثير.
يقول المفكر الإسلامي والداعية المجتهد الشيخ محمد الغزالي: “إن الأصل في الأشياء الإباحة ولا تحريم إلا بنص قاطع، والواقع إن نفراً من سوداوي المزاج أولعوا بالتحريم ومنهجهم في الحكم على الأشياء يخالف منهج نبي الإسلام، الذي ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه”.
رُويَ عن النبي (ص) أنه قال: ” لاتشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والأديرة، رهبانية ابتدعوها، ما كتبناها عليهم”.
ويقول الشيخ الغزالي: أما الغناء فكلام، حسنه حسن، وقبيحه قبيح، ومن غنى أو استمع إلى غـناء شريف المعنى، طيب اللحن فلا حرج عليه، وما نحارب إلا غـناءً هابط المعنى واللحن.
وعما يردده بعضهم عن تحريم الغناء، قال الشيخ الغزالي: لم يرد حديث صحيح في تحريم الغناء – على الإطلاق – وقد احتج البعض بقوله تعالى “ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليُضلّ عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين، وإذا تُتلى آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها”.
ويشير الشيخ الغزالي إلى هذه الآية فيقول: “إن من يشتري لهو الحديث للأسباب المذكورة في الآية، جدير بسوء العقاب، أما من يريح أعصابه المكدودة بصوت حسن ولحن جميل فلا علاقــة للآيـة به. كما يقول ابن حــزم ” لو اشــترى مصحفاً للإضلال فهو محــرم”. وقد ورد في السنة أن النبي (ص) قد مدح صوت أبي موسى الأشعري – وكان عذباً وقد سمعه يتغنى بالقراّن فقال له: لقد أوتيت مزماراً من مزامير داوود.
ويقول الشيخ عبد الله المشد، رئيس لجنة الفتوى في الأزهر، وذلك في مجلة روز اليوسف بتاريخ 25 سبتمبر1989، وقد سئل عن سماع الموسيقى فقال: سماع الموسيقى لم يرد نص صريح قاطع بتحريمها والموسيقى تتفق وطبيعة البشر، مادامت للترفيه والتخفيف من واجب، فهي حلال.
إن بعض ممن يطلق عليهم “علماء المسلمين” الذين يستخفون بكلمة “حرام” ويطلقون لها العنان في فتاواهم، وفي بحوثهم، عليهم أن يراقبوا الله في قولهم، وليعلموا أن هذه الكلمة “حرام” كلمة خطيرة، إنها تعني عقوبة الله على الفعل، وهذا أمر لا يترك للتخمين ولا بموافقة المزاج، ولا بالأحاديث الضعيفة، ولا بمجرد النص عليه في كتاب قديم، ولا حتى بالإجماع، إنما يعرف من نص ثابت صريح.
يقول السيد محمـد حسين فضل اللـه في لقـاء أجرته معـه “إيلاف” بتاريخ 22 يونيو 2006م، وهو أحـد المراجع للشـيعة الإماميـة “إنّ الأغاني، لا تدخل في باب المحرّمات، إذا ما لامست القيم الإنسانيّة والفكرية العميقة في مضمونها، وترافقت مع موسيقى راقية، فالغناء حسب معناه لغوياً هو ترجيع الصّوت وتمديده، وكل حالة من الحالات التي يردد فيها الصوت من خلال تمديده وترجيعه، تسمّى غناءً. ويتابع قائلاً ” مسألة الغناء تنطلق من فكرة، وهي طريقة أداء الصّوت، أو طريقة تحريك الكلمة، وهذه تختلف حسب اختلاف الصوت، والصوت الملحن أو المنغّم، يعطي للكلمة في نفس السامع التأثير العميق الذي قد يؤدّي إلى بعض النّتائج على مستوى الإحساس الشّعوري في هذا المجال. فلماذا التغنّي بالوطن وبالطّبيعة وبالمعاني السّامية ليس محرّماً، بينما التغنّي للحب محرّماً، علماً أنّ الحب معنّى سام هو أيضاً؟
فإذا كان الغناء والموسيقى حراماً ومتعاطوها يوصفون بالفسق والانحلال والخروج عن الدين وإتيان المنكر إذاً فتاريخنا الإسلامي يحتاج الى إعادة النظر فيه، وإعادة كتابته بحيث يوصف خلفاء بني أميه وخلفاء بني العباس بأنهم زنادقة وفاسـقون وتلغى عنهم صفة الخلافة التي تروج لها كتب التاريخ، والتي تدرس لأبنائنا في المدارس، لأن هؤلاء الخلفاء قد قاموا برعاية الفنون الموسـيقية والغنائية بقـدر رعايتهم للأمور الدينية. لكننا لا نجد في كتبنا التاريخية إلا تمجيداً لهؤلاء الخلفاء لإنجازاتهم في نشر الإسلام، والتغاضي عن الكثير من الجوانب الأخرى كالإنجازات في المستوى الثقافي والفني.
فلماذا؟ هل هي الإزدواجية عـنــد هؤلاء المؤرخين والمشرفـين عـلـى إعـداد مناهجـنا التعليمية، وخصوصا التي تعـنى بالتاريخ الإسلامي…..؟
هل إذا تعاطى هذا الفـن رجل من عامــة النـاس يصبح فاسقاً ومنحـلاً ومرتكب معصية، ولا تجوز صلاته ولا تقبل شهادته، ويستثنى من ذلك أصحاب النفوذ والسلطة، ويســتأســد كهنة الدين على الضعفاء من عامة الناس؟ سؤال أطرحه… وآمل أن أجد له جواباً.
اقرأ الحلقة السابقة
عندنا مراجع تقليد نرجع لهم في هذه المسألة وباقي المسائل ولا نحتاج إلى كلام وفلسفة الغير