[2 ـ 3] الموسيقى بين الإباحة والتحريم
محمد السنان
أما الذين يجيزون الغـناء، فإنهم يردون تحريمه إلى أنه دعـوة ملفقة صاغها اللاهوتيون وأئمة علم الكلام العباسيون الذين غاظهم وملأهم سخطاً الميل العـام المفرط إلى الموسيقى والموسـيقيين. وهم يستشهدون بإباحة الغناء والموسيقى إلى قول رسول الله (ص) “ما بعث الله نبياً إلا حسن الصوت”> وعن أنس بن مـالك أن النبي (ص) كان يحدي له في السفـر. والحِداء وراء الجمال لم يزل من عادة العرب قبل الإسلام وزمان رسول الله (ص) وزمان الصحابة، وهو لم يكن إلا أشعاراً تؤدى بأصوات جميله وألحان عذبه موزونه.
وحديث آخر عن عائشة: إن أبا بكر دخل على عائشة ومعها جاريتان في أيام منى تدفان وتضربان والنبي متغشياً بثوبه فانتهرهما أبو بكر، فكشف النبي (ص) عن وجهه وقال: دعهما يا أبا بكر فـإنها أيام عـيــد.
وحديث آخر لعائشة أيضاً عندما عادت من عـرس كانت إحدى الفتيات قد زفت لرجل من رجال الأنصار، فسألها رسول الله، أهديتم الفتاة إلى بعلها؟ قالت نعم. قال أفبعثتم معها من يغني؟ قالت لا، قال: أو ما علمت أن الأنصار قوم يعجبهم (غـناء) الغزل؟
كان بلال بن رباح الحبشي ابناً لجارية حبشية افتداها أبو بكر (رضي) وهو أول من أسلم من الأحباش واضطهد بسبب ذلك، وهو الذي سأله النبي (ص) أن يغـني لـه الغــزل، وكان أول مؤذن في الإسلام نظراً لجمال صوته.
وكانت لحسان ابن ثابت شاعـر النبي (ص) ومادحــه جارية مغنية اسمها: “شيرين” وهي أخت مارية القبطية التي أهداها المقوقس حاكم مصر إلى الرسول (ص)، وفي عصر الخلفاء الراشدين كانت عزة الميلاء تغني أغاني (سيرين) أو (شيرين).
فلو كانت الألحان مكروهة، فالقرآن والأذان أحق بالتنزيه عنها، باستثناء من يقول بحرمة تجــويد القرآن والأذان.
ولكن الذي يهمنا في البدء هو معرفة الخلفية التاريخية لهذا الاختلاف حول إباحة وتحريم الموسيقى والغناء.
فبعـد وفاة النبي محمـد (ص)عام 633 م، وتعيين أبي بكر خليفة له بدأت بعض القبائل في التمرد على الخليفة رافضة دفع الزكاة المقـررة شـرعاً، وظهر منهم من ادعى النبوة.. وامتـدت ثورات القبائل من عمان على الساحل الشـرقي إلى المدينـة المنورة على الساحل الغـربي من الجـزيرة العـربية، ووصف ذلك التمرد بأنه ردة عن الإسـلام.
وقـد قاد الخليفـة حـرباً شـعـواء على القبائل المتمـردة خشـية من أن تستفحل حـركـة التمرد ويصبح من الصعب السيطرة عليها مما قـد يقـوض الدعـوة الإسـلامية في مهـدها. وفي هـذه الفـترة، وتحت ضغط هـذه الظـروف تم حظر الموسيقى والغنـاء باعتبارها وسائل لهو ورفاهية في الوقت الذي يتطلب تعبئـة كل المسلمين للجهاد ضـد المنشقين والمرتدين.
وقـد امتـد هـذا الحظر ليشمل فـترة خـلافـة عمـر بن الخطاب الذي انشغل بتثبيت دعائم الإسـلام وبناء مؤسسـاته. وقـد جـاء في العقد الفريد عدة أخبار عن عمر وموقفه من الموسيقى.
قال عمر في أحد هذه الأخبار بعد أن سأل رجلا أن يغني: “غفر الله لك”. ويوضح لنا هذا القول الحظر المضروب على الموسيقى. وبرغم ما كان عليه الخليفتان، أبو بكر وعمر، لحظر كل وسائل التسلية والرفاهية التي كانت الأغاني أحـد أهم عناصـرها، فقـد وُجـدت قلـة قليلـة استطاعت أن تنهمك في الملاهي، فالطبيعـة البشـرية لا يمكن أن تحبس أو تكبت بشكل مطلق، بل غالباً ما يحـدث رد الفعـل مفاجئاً، والإنسانية في تحطيمها القيود كثيراً ما تتخطى حـدود الأديان.
وعندما استلم بنو أمية مقاليد الأمور امتدت الإمبراطورية العربية شرقاً حتى نهر جيجون وجبال الهندوس، وغرباً حتى المحيط الأطلسي وجبال البرينس. فبدأ بذلك ركب الحضارة الجديدة يشق طريقه إلى المجد، فازدهرت الفنون والعلوم، وانتقلت الموسيقى العربية إلى مرحلة جديدة، وأخـذ الفن منعطفـاً جـديداً، وبدأت مظاهـر الـترف تطغـى على الحيـاة العـامـة، ونشـطـت حـركـة الموسـيقى والغنــاء والرقص يقابله في الاتجـاه الآخـر التقلص الـتدريجـي لنفـوذ المؤسسـة الـدينيـة.
فعندما أقام الأمويون خلافتهم في دمشق، أنشأوا لأنفسهم القصور بفاخر الرياش، وألحقوا المغنين بهذه القصور بعد أن عشقوا هذا الفن الجميل. وعلى الرغم من تحفُّظ بعض خلفاء بني أمية أمثال عمر بن عـبـد العـزيز، فإن ذلك لم يؤثر كثيراً أو يؤدي إلى القضاء على هـذه الظاهـرة المتفشـية والمستفحلة.
الموسيقى ازدهرت في عهد هذه الأسرة ووجد الموسيقيون مكاناً رحباً في البلاط الملكي وعناية خاصة من الخلفاء الأمويين. فشجع عبد الملك بن مـروان الموسيقى وكان ملحنا مجيداً، كما كافأ الشعراء بالهبات العظيمة. وفي رأي موير، فإن الثقافة العربية أخذت بالازدهار في عصره فتقدمت الموسيقى تقدما سريعاً جداً.
وبالرغم من مشاغل ابن مروان الكثيرة التي تمثلث في الفتوحـات التي شملت الصين وأسـبانيا، إلا أن ذلك لم يمنعـه من اسـتدعـاء قطـبي الموسيقى في مكة المكرمة والمدينة المنورة ابن سريج ومعبد إلى البلاط في دمشق واستقبلهما استقبالا يفوق استقبال الشعراء احتراماً وشرفاً.
كانت قصـور الخـلفـاء الأمـوين تزخـر بالموسـيقـيين من كلا الجنسـين. ولـقي هـذا الفـن أعـظم تشـجيـع، وكانت الجـوائز والمنح تمطـر عـلى رؤوس المغـنين والآلاتيـة.
إن الهبـات التي كانت تغـدق عليهم لم يوازها إلا ما بـذل في عهـد العباسـيين الذهـبي. عـلى أن للأمويين أسـباباً سـياسـية فضـلاً عـن الأسـباب الفـنيـة، مما حملهم عـلى هـذا السـخاء، فقـد كان المغـني هـو الذي ينقـل مـديح شـاعـر البلاط أو هجـاءه إلى آذان الجمهـور بتغـنيـه بذلك الشـعـر.
وفي عهد يزيد بن معاوية، بدأ التهاون في الأمور الدينية والالتجاء إلى اللهو والرخاء، وقد برزت الملاهي والألحان، وكثرت المغنيات في هذه الأماكن، وأصبح يقرن الغناء إلى الخمر ولعب الميسر وتعاطي الفجور مما أدى إلى أن تصبح سـمعـة المغنيات فـي تلك ألحان شائنة.
وقد ظهرت تعابير مثل (مغنية وصـناجـة وزمارة) مرادفات الى العاهـرة والزانية. إلا أن الفن رغم هذه الصفـات الكريهة قد استطاع أن ينفض عن نفسه مقداراً كبيراً من اللعــان الذي رشــق بـه، والفضل في ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى اهتمام الطبقات العليا به.
وفي ذلك العصر أيضاً سطع نجم سـعـيد بن مسجح في مكـة المكـرمـة، الذي لقب بأبي الموسيقى العربية القديمة، حيث قام بوضع قواعد للعزف والأداء والتلحين، بعـد أن مـر بالفـرس وهم يبنون المسـجـد الحـرام وسـمع غـناءهم بالفارسـية فقلبـه في شـعـر عـربي، وهـو الذي علم ابن سـريح والغـريض. لذا سمي الغناء العربي في ذلك الوقت بالغناء المتقن. ومن خلال رحلاته في بلاد فارس والشام استطاع أن يتعلم كثيراً من النظريات والقواعد الموسيقية.
إن الرعايـة التي لقيها الفـن الموسـيقي وأساتذته من الأمـراء والأشـراف قـد خـتمها بخـتم الاحـترام والإباحـة، وكان سـعـد بن أبي وقاص، وعائشـة بنت سـعـد، ومصـعب بن الزبير، وعائشـة بنت طلحـة وعـبـد الله بن جعـفر من أعـظم الناس رعاية للموسـيقى وحماية لأساتذتها. ففي مجلس غـنـاء لعائشـة بنت طلحـة زوج مصعب بن الزبير، كانت معاملـة المغنية الشهيرة (عـزة الميلاء) لا تختلف عـن معاملـة سـيدات قـريش. ولقـد جعـل عـبـد اللـه بن جعـفـر وهو من هـواة الموسـيقى المعـدودين بيته معـهداً للموسـيقى، وكان يعيش في كنفـه أغلب مشاهـير موسـيقيي عصـره، ومنهم (طويس، وسائب خاثر، ونشـيط، وعـزة الميلاء) وغـيرهم.
كان لقيام دولـة بني العباس على أنقاض بني أمية، بداية لعصر جديد للعرب، حيث قام بنو العباس بوضع أسس الحياة الفكرية العظيمة لعـدة قـرون. وانتقل مركز الخـلافـة من دمشق إلى بغداد، ودخلت الموسيقى مع سائر الفنون والآداب في عصرها الذهبي خصوصاً في عهد هارون الرشيد الذي أصبح اسمه يقترن، في الفكر العربي والعالمي دون استثناء، بالأمجاد العربية في الفنون والآداب والتي صُورت أحيانا كالأساطير.
ومن أهم الموسيقيين في هذا العصر إبراهيم الموصلي، ابن جامع، زلزل واسحق الموصلي وغيرهم. كما لمع نجم الفيلسوف الكندي في الموسيقى وكان له أول تدوين موسيقي في كتابه “رسالة في خبر تأليف الألحان”.
كما تناول ابن سينا الموسيقى في كتابه “الشفاء” وخصص جزءاً هاماً لهذا الفن في كتابه “النجاة”، وقد ورد ذكر هارون الرشيد مئات المرات في قصص ألف ليلة وليلة التي كانت كلها حافلة بأعظم ما يصوره الإنسان من عظمة الرقص والغناء.
كذلك كان شغف معظم الخلفاء العباسيين عميقاً بالفن والموسيقى. فقد كان الواثق أول خليفة يعتبر موسيقياً حقيقياً. ويشهد حماد بن إسحق الموصلي بأنه أعلم الخلفاء بهذا الفن، وأنه كان مغنياً بارعاً وعازفاً ماهراً على العود. وقد لقي الفن من التشجيع والكرم في بلاطه ما يجعل المرء يظن أنه تحول إلى معهد للموسيقى على رأسه إسحق الموصلي، بدلاً عن كونه مجلسا لأمير المؤمنين.
وكان هارون ابن الخليفة موسيقياً موهوباً وعازفاً لامعاً، والملاحظ لهـذا السبب بصـورة خاصـة إن كل مغـنّيي وموسـيقيي العصـر الذهـبي كادوا يكونون عـرباً عـنصـراً وولادة، وموطنهم الرئيسي الحجـاز، مسقط رأس الفن العـربي الأصيل.
اقرأ الحلقة السابقة
https://www.sobranews.com/sobra/category/cultures
كله كلام بدون أي مصدر. كل شخص يستطيع حشو الكلام وتأليفه بما يخدم مصلحته.