[3 ـ 4] الأمريكي الذي قرأ جلجامش.. ردّ اعتبار الشرق المعتمد على الغرب
زكي اليحيى
من الممكن أن ننظر في بناء الشخصيات بما يتوافق والرؤى الموجودة في الرواية، كمستويات يتبع الأول منها الثاني لنصل للنهاية حيث تكتمل الشخصية. فإذا ارتضينا أن “الأمريكي” هي محاولة رد اعتبار للشرق مقابل معظم السرديات منذ عصر التنوير، والتي تجعل الشرق معتمدا على الغرب وينقاد له مستنيرا بالعلوم والتقدم المعرفي، فلا توجد طريقة لرد الاعتبار، إذا ما استثنينا استحضار فترات تقدم العلوم من تاريخ الشرق، إلا من إضافة أبعاد كالضمير، الحق، الحب، الجمال أي القيم المجردة. وإلا فالعلوم والتكنولوجيا مازالت في الغرب!
فيستنير ديفيد بالشرق منذ عصر جلجامش إلى رجب سمعان، ولكن فقط على المستوى الإنساني. فدائما يُذَكِر ديفيد نفسه بعبارات رجب سمعان فهو تارة الضمير وتارة القرآن وتارة الخبير، والأهم أن الغربي يستنير بالشرقي، وأظنها رغبة حقيقية للمؤلف على عكس روايات الاستغراب منذ “أيام” طه حسين مرورا بـ “الحي اللاتيني” لسهيل إدريس و “موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح إذ يتفوق الغرب فيها حتى في القضايا الأخلاقية والإنسانية. أقول رغبة للمؤلف، لما وجدت من أحلام ورؤى مندسة بين صفحات الرواية بين حين وآخر، فمثلا في صفحة ١٣٠ يتنبأ/يتمنى ديفيد مغادرة الجيش الأمريكي مستعينا بجلجامش وكأنه وهو الأمريكي يتطلع لحرية العراق! في حين أن صوته حيال “الاحتلال” ظل محايداً بلا نكهة في المجمل، إلا إذا حملنا اتهامات هنري لديفيد وكأنها نتيجة لموقف ديفيد من كل ما جرى. لعلنا نفتح قوسا هنا لنضع هذه الأمنيات على لسان ديفيد وكأنها تعبير عن مأزق المثقف.
بهذه الاستعدادات، لابد لديفيد أن تكون شخصيته منسجمة مع هذه النظرة للشرق. فلا يمكن أن يكون مثلا أنجلوسكسونيا يضمر أو يظهر تفوقه على الشرق، أو “ريد نيكس” أو حتى “نيويوركر” عادي. فبيئة ديفيد هي سان فرانسيسكو. المدينة التي تحمل شخصية ليبرالية بامتياز وبانفتاح مخالف لكل جهود الجمهوريين، وبالذات جامعة بيركلي والتي تعتبر معقل التحرر والفنون والعلوم الإنسانية. ثم ننتقل لمستوى أعلى لنكتشف أن أصوله إيطالية. أي جنوب القارة العجوز والتي يطلق عليهم بعرب أوروبا! كل هذه المستويات طبعا تجعل من ديفيد منسجما تماما لما أراد له المؤلف. ولنكمل تتبع المستويات لتكون أصول ديفيد ليست من أي مكان، بل من فلورنسا مايكل انجلو ودافينشي. وليس من أي عائلة وإنما “بوكاتشيو”! جميل أن يكون البطل المتخيل المولود على يد المؤلف هو حفيد لشخصية واقعية لها تأثيرها على تاريخ إيطاليا من خلال ملحمة “الديكاميرون”. حيث تعبأ دماغه من قصص أمه الأسطورية عن تاريخ آل بوكاتشيو والتي شكلت رافعة حقيقية لمجموعة القيم التي ساعدت ديفيد أن يشتري بضاعة “رجب سمعان” وبكل أساطيرها طالما أن القيم الإنسانية واحدة! بهذا التكوين لديفيد لا أستغرب لو أظهر تفهما وانسجاما مع ثقافة الشرق، بل حتى معتقداته، بالذات وأن الأم صوفيا تمارس “الانتظار” للحفيد القادم من أسرة بوكاتشيو الذين “لم ينصفهم التاريخ” والذي “سيكشف الأسرار”!
الطريقة التي بدأ المؤلف يرسم فيها ملامح ديفيد كانت مكثفة في البداية فلم يتركها تنمو عبر الرواية إلا بعد أن قدم جرعة بيوغرافية مركزة في الصفحات الأربعين الأولى. بنفس الطريقة قدمت باقي الشخوص وفعلا نجح المؤلف في السيطرة على ذاكرة القارئ بحيث تعدد الشخوص لا يربك هذه الذاكرة. طبعا وكما هم البشر في حياتنا، تنتاب شخوص الرواية كدمات يتم علاج بعضها بينما يستعصي البعض الآخر. كما أن السفر وعدم الثبات حد التطاير في حياة ديفيد خلق شرخا في الشخصية مقابل علاقته بلورا فلم تكن العلاقة نمطية من جهة، ولكنها أيضا غير مكتملة وكأنها توليفة اجترحها المؤلف ليطلق لديفيد حرية الحركة بدون موانع الحياة الحقيقية. وذات التوليفة استعانت بثراء أسرة ديفيد لكيلا يسال القارئ عن وظيفة محددة أو أي وسيلة للعيش، تقيد حركة ديفيد أو يضطر الكاتب لكي يجعل مصدر رزقه عائق للتكوين الخاص لديفيد. كما أن علاقته بلورا لابد أن تكون هكذا مرتبكة متأرجحة بين الحب وما يقتضي من تواصل، وبين القلق وعدم الاستقرار، ليتمكن من التحكم بمآلات ديفيد. ولكن مهما كانت هناك بعض الإقحامات في شخصية ديفيد إلا أنها نجحت ليلمسها القارئ ويعيش معها ويفرح لفرحها ويتألم لما جرى عليها.
اقرأ الحلقات السابقة
[2 ـ 4]الأمريكي الذي قرأ جلجامش.. توتُّر الثنائيات في لغة رشيقة