[2 ـ 4]الأمريكي الذي قرأ جلجامش.. توتُّر الثنائيات في لغة رشيقة حضور السينما والحاجة لجراحة موضعية
زكي اليحيى
تفنن المؤلف في بث التوتر في ثنائيات قد لا ترقى تكوينيا لمثل هذا المستوى، ولكن بفعل البناء الخاص لشخوص الرواية كان التوتر حاضراً وعلى عدة مستويات. فكما ينتظر القارئ فهماً أكثر لـ “رجب سمعان” يظل على أطراف قدمه لما يجري بين ديفيد وهنري. بل وحتى بين هنري والكولونيل أو الجنرال. ففي كل لقاء بين هنري وديفيد نجد توتراً جديداً وكأنه الأخير أو كأن القارئ سيقع الآن على نهاية لهذه العلاقة المأزومة أو الحصول على الموافقة بالسفر. طبعا كان ذلك وقوداً نمطيا تشكل بعدة أوجه وساعد على تصاعد في مستوى التشويق ظل إلى النهاية. أظن أن هناك أيضا قارئاً سينتظر لورا لتحمل!
بالرغم أن المتعة والتشويق والإثارة هو الشعور البسيط أو السطحي الذي انتابني، إلا أن ذلك لم يخفِ جمالياتٍ امتلكتها الرواية جعلت أي من خواصرها الرخوة مقبولة، وأي من آثارها السلبية محدودة الأثر على الصورة العامة للرواية. وأولها اللغة الرشيقة والتي واصلت للنهاية وإن وهنت في بعض الصفحات. ولكن لم تكن منخفضاتها تحتاج لأكثر من جراحات موضعية. على سبيل المثال لم ترق لي “دوّخ” في صفحة ١٩. أو أن يرد تعبير “السكان المحليين” وكأن الراوي هو ديفيد! هناك أيضا أخطاء تحريرية لا يجب أن تهمل بالذات والعمل بهذا المستوى الرائع، كأن يستبدل اسم هنري بديفيد ولورا بصوفيا. لا أظن أن تسليط الضوء على أمثله كهذه يغير في البناء الرائع للرواية بالذات كون هذا العطب هو على مستوى الإنتاج العربي بشكل عام فما زالت الكتب تصدر والأخطاء الإملائية والنحوية والتحريرية بالكثرة التي جعلت أحد الأصدقاء يقرأ ثلاثية نجيب محفوظ باللغة الإنجليزية!
ولكن هذه اللغة الرشيقة المنسجمة مع الأحداث والشخوص بشكل عام عانت من استهلاك يصل إلى حد أن يكون خللا بنيويا. فتكرار التفاصيل والتي قد يفهم منها في البداية أنها إحدى الحيل لتركيز الشخصيات في ذاكرة القارئ، استنفذت تشبيهاتها ومجازاتها، بل مخزونها اللفظي للحد الذي لا أقول إنه أفقد اللغة جمالياتها، ولكن بالتأكيد أظهر شيء من النشاز بالذات وأن اللغة بدون هذا الخلل واصلت بنفس رائع لآخر صفحة. فلو تجاوزنا مثلا عن تكرار حلم ديفيد بمعنى أن (التكرار) هنا متعمد ليكون أحد مفاتيح الرواية، فلا معنى لتكرار عين هنري الزرقاء والوشم على ذراعه. وطاولة صوفيا والخياطة وقضبان التريكو. والعلم الأمريكي في الثكنة ومنظر النخيل وقلق العم ليوناردو على ديفيد بسبب رجب. ولمعان جزمة أوجو فيتالي الذي كان مملا حتى وبعد أن اتضح أن ذلك كله كان فقط ليقول انها اتسخت بالروث في مزارع آل بوكاتشيو في وادي نابا. بعد كل ذلك، وجدتني أتوقع مواطن التكرار ودائما ما أصيب! فما أن يذكر هنري إلا وأتخطى الأسطر التي بعده إذ ليس فيها إلا لون عينيه ووشم ذراعه ومشيته. حاول المؤلف أن يبرر هذا التكرار أو هكذا يبدو وكأنه – أي الراوي – هو رجب سمعان يكرر قصة الصيد ودائما تبدو طازجة، بل وكأنه يشير لأن السياق افترض هذا التكرار! لكن أي سياق سيبرر وصف العلم الأمريكي في غرفة الاجتماعات صفحة ٢٦٩ مرتين في فقرتين متتاليتين.
بدون هذا التكرار، تكون اللغة سمة جميلة لامست العمق من الرؤى المنثورة في الرواية بدون أن يكون فيها نشاز حاد أو انخفاضات جوية قد تسبب فيما أسميه “غثيان القراءة”. يصاحب هذه اللغة عدسة رائعة، بل في بعض الأحيان تشعر وأن المؤلف له من (الإخراج) نصيب. ولا أبالغ أن المؤلف “هَلَيَد” بعض المشاهد بصورة نمطية. فكنت لأقول وأنا أتخيل مشاهد الطوافات، أو الثكنات والأرتال، أو أرصفة مرسى الصيادين، أو زوايا منزل بوكاتشيو: تمهل، لامس الأرض، دعنا في الورق!
على سبيل المثال، سلوك رئيس التحقيق في صفحة ٢٣ هو أقرب ما يكون لأحد محققي مسلسل “القائمة السوداء”. ولعل اللاوعي للمؤلف في هذا المشهد بالذات انكشف بهذه العبارة: “يقف هناك وكأنه يتأمل مشهدا سينمائيا”. أما شكل المداهمات للجنود فكأنك تشاهد برومو فلم “Green Zone”. وحوارات هنري وديفيد أشبه بعلاقة إيروين والكولونيل في “The Last Castle” والمأخوذ أصلا من رواية جاك فانس. أما الطفل الذي داعب الماعز، وهو الذي قُتل لاحقا، وكذلك العجوز الذي رأى الجنود في أحد المشاهد، ثم يُداهم منزله في مشهد آخر، كانتا أقرب لحيل الإخراج السينمائي! وكأن المؤلف حرص على الميزانية الخاصة بأجور الممثلين؛ فقلل عددهم وراعى ذاكرة المشاهد لكيلا يزعجها بتعدد الشخصيات!
شخصية المكان كانت حاضرة وبقوة مكونة أبعاداً رئيسية في الرواية. فسان فرانسيسكو وجسرها الذهبي ورصيف الصيادين والشاطئ الشمالي وحتى وصف الحي ومنزل ديفيد وقربه من محل بيع الزهور شكلت للقارئ بيئة ديفيد بشكل رائع. وفي الجهة الأخرى أرامكو، والدور الأهم في تكوين شخصية المنطقة الشرقية الحديثة. طبعا الحضور الكبير لـ “كيني روجرز” وعلى ما فيه من حمولة تاريخية مستبطنة ومهمة للمنطقة ولتكوين ثقافتها فيما بعد يدركه من شهدوا تلك الحقبة ويتوقفوا عنده بشكل لافت. أتذكر أحد الشخصيات، من ذلك الجيل، ممن كان يعمل في أرامكو في بداية السبعينات، وهو يتذكر تاريخ زواجه مؤرخا إياه بحفلة كيني روجرز! حيث لم يحضر الحفلة لأنها كانت في يوم زواجه. هذا التأثير الكبير يتمثل في حوار رجب سمعان وديفيد. فالشاب العشريني، عربي اللسان لا يتوقف عند “لوسيل”، الأغنية الإنجليزية بمعناها الطربي أو الترفيهي، بل يخترق النص ليعقد مقارنة بينها وبين قصيدة “زوجة تاجر النهر” للشاعر الصيني “لي باي”. يقول رجب سمعان: “الفقد الذي عاناه الفلاح الأمريكي والفقد الذي عبر عنه الشاعر الصيني…”. وحين ذكر النص المترجم للقصيدة الصينية وجاء ذكر الطحالب التي نمت عند النهر في الصين تذكرت الفقد والخضرة التي نمت على شباك محبوبة مظفر النواب حيث سقتها الدموع:
“سهرنا لك دهر ما جيت
ورزة وباب
وشبابيك خضر من مدامعنا
يا ريت العمر بس وياك
بلايها الاوادم كلها والجنة”
ولكني لم أقترحها بديلا عن النص الصيني. لأنها كتبت بعدها.
اقرأ ايضاً
[1ـ 4] الأمريكي الذي قرأ جلجامش.. الحب.. الشك.. الفقد.. السفر