[3 ـ 3] أليف شَافَاك.. العشق، الأسفار، وحقيبة إستانبول
محمد الماجد
كانت جانيت هي حجر الدومينو الذي لولاه لسقطت كل قطع الدومينو المكونة لرقعة الرواية ولما استطاعت أليف شافاك إعادة بناءها من جديد، فلطالما تكررت هذه الــــ (ليس) التي شهرتها جانيت في وجه أمها في أكثر من حادثة عائلية تخصّ الرومي، أو تخص تجمّعاً ما في سوق قونيّة، أو في حانة من حاناتها، أو حتى تخص حديثا ثنائيّا بين اثنين، ولم تكن (ليس) فيما تعنيه مغايرة في الوجوه والأسماء، فلا أحد يتحدث عن ذلك، وإنما تعني المغايرة في الأفكار والسلوك المفضيين إلى عدم قبول الآخر، فـــــ كيرا زوجة الرومي كانت نصرانية، أي (ليست) مسلمة، ثم أسلمت وأصبحت تذكر مريم العذراء على توجس وخوف من أن يقدح ذلك من إيمانها الجديد، التوجس ذاته الذي لازم الغانية (زهرة الصحراء) بعد أن تصوّفت وكفّت عن أن تكون بغيّاً، فمن سيصدق انها (ليست) هي بالأمس، وهكذا، حتى تنحل كل خرزات السرد: الشيخ ياسين (ليس) صوفيّاً، وسليمان السّكير (ليس) هو المحارب بيبرس، وسلطان ولد الابن الأكبر للرّومي (ليس) هو علاء الدين الابن الأصغر حين يتعلق الأمر بالتسامح، و كيميا (ليست) ابنة جندرية للرومي.
وشمس التبريزي، المحور الذي تدور حوله الرواية، حتى شمس (ليس) هو الزوج الذي كان من الممكن أن يلبي الحاجات (الفطرية) لزوجته الصغيرة كيميا، فنزعته البتولية، إذا لم أقل تطرّفه الصوفي، حالت دون تقبله الفكرة، مهما بالغت أليف في تبريرات ذلك بسبب مفهومها (الاستثنائي) للتصوف، فهذا التطرف هو ذاته من حمل إيلا على رفض زواج ابنتها جانيت، وكأن أليف وضعت كل مبادئها و(نسوياتها) تحت أقدام شمس متخلّية عن الدفاع عن عاطفة كيميا الصغيرة، هذا في الوقت الذي امتلكت فيه الشجاعة لترسل اعتراضاً لبوتين على خلفية موقفه (السلبي) من المثليين.
كانت هذه الــــــ (ليس) الأخيرة التي تخص شمس هي الأخطر على الأطلاق، مع رجائي أن لا أكون مجازفاً هذه المرة بالقول بأن شمس، وبالقدر الذي أنقذ فيه حياة إيلا من التحطم، إلا أنه تسبب – وبمساعدة من عزيز زاهارا- في تحويل عائلتها وعائلة صديقه الرومي إلى عائلتين بائستين ومهزومتين!!، بعيداً عن المعالجات النقدية الحالمة التي تضع شمس ومفهوم التصوّف (الروائي) فوق المسائلة، إما بسبب ما يملكه العمل الروائي من حصانة، أو بسبب ما ذكرته عن (المفاهيم الاستثنائية)، ومع ذلك، هناك رواية رائعة دون شك، كما أن هناك مفاهيم للتصوف يمكن أن يُساء فهمها أو استثمارها بحجّة (الأدب الرفيع) لتمرير صور غائمة للحقيقة.
والآن جاء دور (المنصة)، سأسمي التقنية التي اتبعتها أليف شافاك في هذه الرواية بتقنية (المنصةّ)، وسأستعين بمواطنها أورهان باموق في روايته (اسمي أحمر) في سبيل فهم أعمق لهذه التقنية، فكلاهما حضّر مسرح الرواية جيداً، وبعد أن ملئه بالجمهور، تأكد من إغلاق الأبواب، ثم وضع منصّة وحيدة على الخشبة فيما اقتصر وجود الممثلين على غرف معزولة في الكواليس، ولا تسمح هذه التقنية سوى بتواجد ممثل واحد فقط على خشبة المسرح، ينتهي من الإدلاء بشهادته ثم يدخل آخر، وهكذا يمكن للجميع تداول هذا الحضور المونودرامي على الخشبة عدة مرات حتى ينتهي العرض دون أن يصادف أحدهما الآخر.
وهنا تحديداً، سيبرز الدور المحوري للجمهور، فهو الذي ستقع عليه مهمة جمع كل تلك الشهادات التي أدلى بها الممثلون ليحولها إلى صورة بانورامية جامعة وقابلة للتمدد، وكأن كل شخصية من شخصيات الرواية، أو كل ممثل على المسرح، لم يكن سوى قطره في نهر الرواية، وكان عليه في كل مرة يظهر فيها من جديد أن يحول تلك القطرة إلى موجة أو تيّار، دون أن يلاحظ أحد من الجمهور، وحتى قبل نهاية العرض بقليل، أن أصابع ذلك النهر الرطبة بدأت تتسلل إلى جيوبهم ومخابئ أرواحهم الأكثر سرّية، وهذا بالتحديد ما كان يبرع باموق في فعله مع شخوص روايته: يصعد قرّة أولاً ثم يغادر، ويصعد أورهان ثم يغادر …. ثم يأتي دور استر، وشكورة، والفراشة، والحصان …الخ.، الأمر ذاته التي كانت تقوم به أليف مع كاست الشخصيات الخاص بمسرحها الروائي: إيلا، وشمس، والرومي، وكيميا، وحسن الشحاذ والآخرون، باختصار انها ليست رواية الفرد الواحد، انها رواية الجميع، ونموذج ساطع من نماذج البطولة الجماعية، نموذج لا يعاني من وصاية أو تغول الراوي الأوحد.
إلى الآن، يبدو أن كل شيء قد سار على ما يُرام فيما يتعلق بقصتي مع استانبول ورواية أليف: كذبتي البيضاء على أبي، صبايا تقسيم، (ليس) وأخواتها، والمنصّة، غير أن التاريخ وحده لم يكن في أحسن حالاته، حيث كان يمشي طيلة الوقت بعكازين إلى جوار المؤلفة، فهناك ثلاثة أخطاء تاريخية على الأقل قد وقعت فيهما أليف، ربما بسبب انشغالاتها بالحركات النسويّة والدفاع عن المثليين، ولا أدري ما إذا كانت هناك هفوات أخرى أيضاً.
أوّل هذه الأخطاء أثبته مترجم الرواية محمد درويش، وهو يتعلق بذكرها الفرق الصوفية: القلندريون، والحيدريون، والجاميون، حيث ذكرت المؤلفة أنها عاشت في وقت زمن الرواية وهو القرن الثالث عشر الميلادي، بينما برزت هذه الفرق بعد ذلك التاريخ بقرنين!!، أما الخطأ الثاني فيتعلق بذكرها لقصة مبارزة عمرو بن ود -دون أن تذكره بالاسم- للإمام علي في معركة الخندق، حين أحجم الإمام علي عن الإجهاز عليه، الأمر الذي كان سبباً في صداقتهما لاحقاً!!، أما الخطأ الثالث ففاجأتنا فيه أليف بخبر مفاده أن امرؤ القيس قد تخلى عن ثروته ولبس جبة الدرويش في آخر حياته، وحمداً لله، ومن أجل صحّة الرواية من اجتهادات أليف التاريخية، أن الروائية الشهيرة لم تتبّع كل الأحداث المشابه في التاريخ العربي والإسلامي!.
ولإضفاء حس من الدعابة على حرص أليف على الاحتفاظ بذاكرتها التاريخية الهشة، عادت المؤلفة وأكدت هذه الوصمة بما نقلته في روايتها الأخرى (الفتى المتيَّم والمعلم) على لسان بوسبك سفير النمسا في استانبول: “أن الأتراك لا يفقهون شيئاً في التسلسل الزمني … إنهم يخلطون الأحداث التاريخية. اليوم يعقب الغد، والغد قد يأتي قبل الأمس!”
اقرأ الحلقتين السابقتين
ملاحظات جميلة وقراة لطيفة ل أليف