[1 ـ 3] أليف شَافَاك.. العشق، الأسفار، وحقيبة إستانبول
محمد الماجد
منير البعلبكي صاحب قاموس (المورد الكبير) هو أول من أوقعني في شِراك إستانبول، فلم أكن أتخيّل ـ وأنا في مطلع الثمانينبات من القرن الفائت ـ أنني سأقع في حب مدينة عوضاً عن أن أقع في حب فتاة. والآن، أستطيع القول بأن تلك الصورة لإستانبول والتي كانت تزين إحدى صفحات المورد الكبير كان عمرها حينها أكثر من سبعين عام، أي أنها التقطت في بداية القرن العشرين، كانت ملونة وحيّة للدرجة التي ستصيب الناظر إليها بالصدمة، حيث أنها أظهرت إستانبول وفي مثل ذلك التاريخ وكأنها أكثر تمدّنا حتى من معظم عواصمنا العربية الآن.
كنت حينها طالباً في السنة التحضيرية في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، حيث تخصصت في حقل العمارة لتتوطد علاقتي باستانبول أكثر فأكثر، أوزجنار التركي كان أحد ألمع أساتذتي، ومُقَرَّر (تاريخ العمارة الإسلامية) لم يكن ليصبح تاريخاً دون فتوحات المعمار (سِنان)، أعظم معماريي الإمبراطورية العثمانية على الإطلاق، هذا وأنا ما زلت أنعم بالدراسة في المبنى الأكثر جاذبية في الحرم الجامعي (مبنى ناينتين)، يقع المبنى مباشرة إلى جوار السياج الفاصل بين الجامعة وشركة أرامكو، وهو السياج الذي كنا نطلق عليه تندراً اسم حائط برلين، لأن أرامكو بوصفها (المانيا الغربية) كانت تقع إلى الغرب منه، فيما تقع الجامعة أو(المانيا الشرقية) إلى الشرق منه.
في السنة النهائية لدراستي، كان لا بد من تقديم مشروع تخرج، وهنا وجدت الفرصة، أو بالأحرى الذريعة، للسفر إلى إستانبول، فأنا لا أؤمن كثيرا بالعشق دون مشاهدة، على عكس ما ينصح به شمس التبريزي في هذه الرواية، (قواعد العشق الأربعون) لــ أليف شافاك، ولأنني لا أستطيع أن أبيع مبرر العشق على والدي رحمه الله، فقد سقت له حجة أخرى مفادها أن سفري إلى إستانبول سيكون ضروريّا لإكمال مشروع تخرجي فوافق على الفور، المشروع الذي كان عبارة عن مقترح لتصميم متحف حضاري في قلب القطيف، حي القلعة.
كان الحي قد خرج للتّو من محنة عاطفية استنزفت كل قواه، وما زلت أذكر عمق الحزن الذي كان يعتصر قلوب أعضاء هيئة التدريس بكلية العمارة في الجامعة نتيجة لخسارة الحي كواحد من أثمن الكنوز المعمارية في المملكة، تصحّر الحي نتيجة لتلك المحنة، وعشنا ألم رؤية غابة من الرواشن الجصية، والأقواس، والقناطر، والنقوش المهاجرة، وهي تحترق وتتحول إلى رماد دون أن نمد لها يد المساعدة، لم نكن لنستطيع، وتحت وطأة الخذلان هذه، لم أجد من هي أكثر فتنة من استانبول لمواساتي، فربما تعلمت منها درساً في فن انتشال الحواضر الآيلة وترميمها ومن ثمَّ بعثها إلى الحياة من جديد، ولو على شكل متحف متواضع، كنت أعرف مسبقاً أن مصيره لن يكون أفضل من مصير الغابة.
مضت ثلاثون سنة منذ كذبتي البيضاء على أبي وحتى قراءتي لرواية (قواعد العشق الأربعون)، لأعود بعدها لتذكّر قصتي مع استانبول، وربما إعادة رسم علاقتي معها، ولكن من زاوية الكتابة هذه المرة، حيث أن جسد اسطنبول ومطاويه الحجرية يخبئان من الحكايات أكثر بكثير مما ذكره سرقان أوزبورون في سردياته القصيرة والحالمة عنها، وإذا ما سلّمنا بأنها لم تكن أكثر من بيت للخيال بحسب أوزبورون، فأنا مقتنع تماماً بأن أليف شافاك قد استثمرت في توسيع ردهات ذلك البيت، بل وتحويله إلى قصر، وأنها قد أعادت صياغة فكرتها عن استانبول بشقّيها الشرقي والغربي في هذه الرواية، وإن لم تكن قد ذكرت حرفاً واحداً عن المدينة، وبالرغم من أن هذا الأمر سيبدو غريباً بالنسبة للبعض، إلا أن محاولة إثبات الشبه بين بناء الرواية وبناء استانبول -المدينة الملهِمة لدى الكاتبة- سيشكل بالنسبة لي فرصة ثمينة للنضال من أجل اثبات أن هذين الفنين بينهما من الحميمية والألفة ما يكفي لاعتبارهما فنّاً واحداً.
لن أفضح سرَّاً حين أقول بأنني، وقبل هبوط الطائرة التي كنت استقلها، لمحت ثعباناً مائيّاً يتلوّى وكأنه أنثى أناكوندا عملاقة راحت تشق جسد استانبول إلى جزئين: أوروبي وآسيوي، وكلنا يعرف الآن بأن أنثى الأناكوندا هذه لم تكن سوى مضيق (البسفور)، فيما بدا لي أن تيار المضيق المتدفق من المياه كان مشغولاً طيلة الوقت برواية ما كان يجري بين ضفّتيه من حوار أثني وثقافي تعددي، ظل حيّاً وحاراً في عروق المدينة منذ ولادتها، وكانت الحروب بالطبع إحدى مظاهر ذلك الحوار القاسي، وإلى أن سكن دخان تلك الحروب وصار بوسعنا أن نتحدث عن الانتصارات البيئية، والحركات النسوية، وعن تيارات الأنسنة، وغيرها من الأحاديث ذات الطابع المستجد والحالم، أصبحت استانبول ربما الصندوق الأغلى بين صناديق واستثمارات اليونسكو، والذراع الأنثروبولوجية الأطول بين أذرع المهتمّين بالفحص التاريخي والمعرفي.
وفيما يتعلق بهذا الأخير، أعني الفحص المعرفي، فمشهد أنثى الأناكوندا وهي تشق جسد استانبول أثار لدي غريزة (المصطلح)، مصطلح المدينة/الجسد، فلم أكتشف أن لاستانبول جسداً حتى تلك اللحظة الاشراقية الخاطفة التي وهبتني إياها نافذة الطائرة، وما إن هبطتُ حتى أخذني تاكسي المطار ودون أن يسألني حتى عن وجهتي -في تقليد يبدو أنه خبيث ومدروس- إلى شارع الاستقلال حيث نزلت في أحد فنادق منطقة (تقسيم) على الجانب الأوروبي من المدينة، وللمفارقة، وأثناء كتابتي لهذه السطور ينتشر خبر بين وكالات الأنباء مفاده أن الحكومة التركية منعت مظاهرة لمجتمع (الميم) في نفس المنطقة، وكان هذا الخبر سيمر من أمامي بهدوء لولا أمران: اكتشافي عند سكني في منطقة تقسيم بأنها كانت وجهة محببة لكثير من زوار استانبول، وأن أليف شافاك، صاحبة هذه الرواية، كانت ومازالت إحدى المدافعات عما بات يعرف بـــــ (حقوق المثليين الجنسيين).
القراءة التي تخرج من أطراف صفحات الكتب، وتنفض عنها عوالق المؤلفين والكتّاب، لتبدأ سردًا قرائيًا يحمل الكثير من المفاتيح والأقفال معًا .. تستحق أن نبقى معاها وقتًا أطول
تحياتي
بالرغم من عدم اهتمامي بالعمارة وأسطنبول وعدم إيماني بصنع قواعد للعشق وعدم حبي للروايات إلا أن جمال هذا السرد السمين الغني الممتلئ حبب إلي المدينة والرواية