[الحلقة الأخيرة] ثُنائية “السادة” و “العَوَام” في مجتمع القطيف قراءة لغوية في مجتمع ما قبل النفط

حبيب محمود

في مجتمع معجون بالتديّن العفويّ، مأخوذ بعاطفة الحبّ للبيت النبويّ الشريف؛ تتّسع الدائرة لتشمل كلَّ ما يمتّ أهل البيت بصلة من الصلات، فيخفض الناسُ لهم جناح الذلّ من المودة والرحمة. وهو ما منح السادة نفوذاً روحياً عميقاً في الحواضر الشيعية، والقطيف واحدة من هذه الحواضر.

لم يحصل السادة على نفوذهم الاجتماعيّ بغير قوة “المودة في القربىْ”. التأثير روحيٌّ صرف، لم يصنعه مال ولا بساتين ولا سُفن ولا لؤلؤ ولا حتى قوة سلطة سياسية.  بل إن السّلطة الروحية، لدى بعضهم، استحالت سُلطةً مادية في بعض الظروف، فانتقل سادة فقراء إلى “اشْيوخ” ومُلاّك وتُجّار. لكن الغالبية من السادة ما برحوا مواقعهم الطبقية، مع احتفاظهم بالحوافّ الروحية التي تجلّلهم وتميّزهم.

وطبيعيٌّ أن يؤول هذا الشغف الروحيّ الحميم، في المجتمع، إلى نرجسية فئوية يشعُر فيها السادة بشيء من التعالي العرْقيّ، حتى وإن كانوا أقلّ حظاً في خريطة المجتمع الرأسماليّ شبه الإقطاعي. وهذا بدوره؛ أوجدَ “رغبات” اجتماعية في الالتحاق بالنسب الهاشميّ “بلا نسب” حقيقي.

الصورة الاجتماعية للسادة جاذبة، شأنها شأن القوى الاجتماعية الأخرى. ومثلما سعت أسر ضعيفة إلى الانتساب “بلا نسب” إلى أسر قوية عشَرياً أو مادياً؛ سعت أسر “عاميّة” إلى الانتساب إلى بني هاشم، لأسباب روحية جاذبة.

وفي القطيف نزاعات “عرْقية” كثيرة مسكوتٌ عنها في الظاهر، وهي متصلة بالتحاق أسر بأسر أخرى. والانتساب إلى آل البيتِ جزءٌ من هذه الظاهرة المنتشرة في مدن القطيف وبلداتها.

وقد أسهمت الأوضاع السياسية التي مرّت بالساحل الخليجي في خلط الواقع السكاني خلطاً، جرّاء موجات الهجرة المتتالية التي جعلت من القطيف جاذبة في أوضاع السلم طاردة في أوضاع الحرب واضطراب الأمن.

وعليه؛ فإن إثبات النسب النبويّ، لأية أسرة أو عشيرة، يُشكّل واحداً من أكثر القضايا السكانية تعقيداً وحساسية. وهو أمرٌ ينطبق ـ بدرجة التعقيد والحساسية ذاتها ـ على قضية نفي النسب النبوي عن أسرة من الأسر أيضاً.

وبين النفي والإثبات؛ بقي “السادة” في موقعهم الاجتماعي المبجّل بين السكان، ولم يحرص المجتمع، كثيراً، على مجادلة السادة في نسبهم. بل تُرك الأمر لنزاعات أسر السادة الداخلية فيما بينهم.

لكنّ المجتمع؛ انتبه ـ بطبيعة الحال ـ إلى تعالي السادة عليه، ومبازاتهم بالنسب، وفرض بعضهم النفوذ فرضاً. ولذلك أنتج المثل الذي يبدو أنه جزءٌ من نص شعريٌ ضائع:

يدخلْ النارْ سيّدْ قرَشي

ويدخل الجنّهْ عبدٍ حبَشيْ..! (1)

إذ الغاية ليس في ابن من أنت، بل من أنت؟ وما أنت.. وهو ما تشير إليه حكمة شعبية أخرى تُقال كثيراً حين ينبت جدلٌ حول السادة.. وببساطة تقول الحكمة: السيدْ سيدْ نفسه..!

—————-

(1) يبدو من إيقاع المثل أنه شعرٌ على وزن بحر الرمَل، مع دخول زحافات عروضية واضحة فرضتها اللغة الدارجة، وغيّرت بعض تفعيلات الحشو. ويمكن ملاحظة التقارب الإيقاعي بين المثل وبين أهزوجة شعبية أخرى:

يدخلِ النارْ سيّد قرَشي،

فاعلاتن فعولنْ فعَلُنْ

او يدخل الجنّهْ عبدٍ حبَشيْ

فاعلاتن فعولنْ فعَلُنْ

و:

سامعِ الصوتْ صَلّ عَلى النبيْ

فاعلاتن، فعولنْ فاعلنْ

أولْ محمدْ وبِنْ عمّهْ عليْ

فعْلاتُن فعولن فاعلن

ولا يُستبعدُ أن يكون البيتان من نص واحد ضائع.


اقرأ أيضاً

[الحلقة الأولى] ثُنائية “السادة” و “العَوَام” في مجتمع القطيف

[الحلقة الثانية] ثُنائية “السادة” و “العَوَام” في مجتمع القطيف

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×