عبدالله صفر.. مهندس في زمن لم يعرف مهندسين تتلمذ على يد "علي بن حبيب".. وشارك في بناء الأحياء الحديثة المحيطة بالقلعة
القطيف: صُبرة
لأنه تربّى على احترام تقاليد المهنة؛ طلب من أستاذه “علي بن حبيب” وضع أساس بيت العائلة، قبل أن يشرع هو وأخوته في البناء. القصة بسيطة، ولكن لا يفهمها إلا الآتون من طينة المهنة وروحها. وهذا ما كان عليه “أستاد” البناء العربي الحاج عبدالله علي صفر الذي اختاره الله في يوم العيد، ليُغادر عالمنا عن عمر ناهز الـ 84، تاركاً إرثاً عريضاً من أعمال البناء في محيط قلعة القطيف، وصيتاً طيباً عن “بنّاء” بارعٍ من رعيل “الأستاديّهْ” الكادحين.
تحوّل
اضطرّ “حجّي عبدالله صفر” إلى هجر حرفة “البناء العربي”، في أواسط ثمانينيات القرن الماضي، في مرحلة التحول السريع إلى “البناء المسلّح”، ودخول مؤسسات “المقاولات” الفردية التي جلبت العمالة الآسيوية إلى سوق مشاريع البناء، وصدور تشريعات جديدة مُلزمة في مواصفات البناء والإنشاء، تبدأ بوضع “خارطة منزل”، وتحديد ارتدادات، ومواد بناء، وتفصيلات كثيرة فرضتها البلديات والدفاع المدني وشركة الكهرباء والمياه..
كأن “حجّي عبدالله” أدرك أن الزمن لم يعد زمان “البَنيْ العربي”، ولا زمان نظرائه من “الأستاديّ” وعمّاله الذين لم يعد أحد يطلب عملهم “التقليدي”. ترك مهنة البناء القديم التي أمضى شبابه فيها، وحاول اللحاق بالطريقة الحديثة في البناء.. البناء المسلح والطابوق والبلاط.
من البحرين
ولد الحاج عبدالله صفر عام 1355هـ، أي بعد 4 سنوت من إعلان توحيد المملكة العربية السعودية، وبعد 24 سنة من دخول القطيف في الحكم السعودي. كان ميلاده في قرية “الجراري” التي نزح إليها جده الحاج عباس من قرية “النويدرات” البحرينية، في مرحلة سابقة. أنجب الحاج عباس ولداً واحداً، هو الحاج علي.
وفي محافظة القطيف؛ فرعان لأسرة “آل صفر” البحرانية، حسب ما يفيد الملا حسين آل صفر.
أحد الفرعين في العوامية التي سكن فيها الجدّ الأول “محمد صفر”، وأنجب ثلاثة من الأبناء: أحمد، حسين، علي. وقد تفرّعت ذرية الثلاثة وتكاثرت، في العوامية.
والفرع الثاني بدأ بـ “علي آل صفر” الذي يلتقي مع “محمد” في الجد الخامس، تقريباً. وقد استقر في قرية الجراري التي نزح إليها والده. كانت “الجراري” قرية حرفيين، اشتهروا بصناعة الفخاريات من الجرار والأواني المصنوعة من الطين. وقد تعلم الحاج علي عن المعلمين التقليديين، وصارت مهارات جعلت منه في مدة وجيزة صاحب “مهنة” في تجارة الفخاريات المحلية والمستوردة من إيران. كان يُجيد القراءة والكتابة، ولديه خبرة طويلة في الغوص، تحصّل عليها من نزول البحر مع بعض نواخذة دارين.
عاش “الحاج علي” في “الجراري”، واشتغل في التجارة، وافتتح محلاّ للمواد الغذائية في القطيف، وعمل في المهنة ذاتها في الثقبة التي كانت مدينة ناشئة في أواخر أربعينيات القرن الماضي، وكذلك في رحيمة التي ـ هي الأخرى ـ بدأت في استقطاب سكان سعوديين وأجانب، لتتكون منها مدينة راس تنورة.
بنّايْ صغير
وفي هذا البيت؛ وُلد “عبدالله”، وفي الجراري نشأ. وحين اشتدّ عوده؛ اتّجه إلى العمل في البناء. السيرة الذاتية التي سردها لـ “صُبرة” أخوه الملا حسين؛ لم تقف على تاريخ بداية عمله. لكن الملا حسين يرجّح أن أخاه الراحل بدأ مع “أستادْ” البناء المعروف في القلعة “علي بن حبيب”. كان “بن حبيب” يتمتّع بصيتٍ واسع في المهارة والحرفية والقيادية. وحين أراد أبناء “عباس صفر” بناء بيتٍ لهم في الجراري؛ جاء “بن حبيب” حتى “يسيّس” البيت لهم، ثم بنوه على الأساس الذي حدده ووضعه. وكان “أستاد” البناء الحاج عبدالله.
كان ذلك في أواخر السبعينيات الهجرية من القرن الماضي، الموافقة لأواخر الخمسينيات الميلادية. تلك مرحلة بكر، ما زال محيط القلعة أخضر، والجراري؛ تبدأ تغيير حالها الريفيّ إلى حال عمراني جديد وقتها. والمستقبل واعدٌ بتغييرات كثيرة، والشاب “عبدالله” يستعد لأن يكون واحداً من صُنّاع التغيير.
بناء بيت العائلة
بنى بيتهم بمشاركة أخوانه، ثم راح يبني بيوتاً أخرى للناس. بيت في الجراري، بيت آخر في باب الشمال، وآخر في القلعة، أو الشريعة، في المدارس، في المدني، في البستان، في باب الساب. راح عمله يتوسع، وعمّاله يتكاثرون.
عمل معه أخوه الملا حسن في بداية شبابه، في الإجازات. وكان يعطيه أجرة يومية قدرها 8 ريالات. كان ذلك قبل زمن بعيد. وهو يتحدث بلسان المعجب بهدوئه وحزمه، ومهارته في القيادة، فضلاً عن مهارته في العمل نفسه. يقول الملا حسن إنه دقيقٌ جداً في “صف الحصى”، و “صف الجدوع”، ولديه مهارات وزن “النقايل” و “الصلوخ” و”المسّاح”. وكان يُشرف على التفاصيل الكثيرة بنفسه، ويشارك “البنّاية” كـ “قائد” لا “مدير”. أمور كثيرة يقوم بها بنفسه مباشرة.
أما معاملاته مع أصحاب المنازل؛ فكانت تقوم ـ حسب كلام الملا ـ على “اليومية” لا “المقاولة”. كان يكتفي بـ “شغل اليد”، ولا يدخل في تعقيدات المشروع الشامل. ربما قصد من ذلك تحاشيَ المغامرة التجارية القابلة للربح والخسارة. في “شغل اليد” يحصل على أجره وأجور عمّاله، وتنتهي القصة. أما في “المقاولة”؛ فهناك تكلفة المواد مختلطة بتكلفة العمل، منتهيةً إلى هامش ربح أو هامش خسارة. التزم هذه الطريقة في البناء العربي وفي البناء المسلح.
تقاعد
ربما لم يكن مغامراً، لكنه كان بارعاً وكدّاداً، وخلّف صورة طيبة عن أدائه ومعاملاته. واستمرّ كادحاً في الأعمال الجديدة التي لا تقل عن الأعمال القديمة في الصعوبة، إلى أن سقط ذات يوم من “سكلة البناء”، وسقطت قائمة حديدة على ركبته فكسرتها كسراً مضاعفاً. توقف مدة طويلة عن العمل، وحين شمّ العافية حاول العودة إلى عمله. إلا أن الزمن وأثر الإصابة قالا له “توقف”.. وهذا ما حدث، فمنح نفسه تقاعداً في منتصف التسعينيات، وترجّل عن العمل، وأمضى ما تبقّى من حياته في هدوء.
رحمة الله على عمي الحاج عبدالله كان طيب القلب حنونا
تصحيح.. الملا حسين و ليس حسن