[3] حسن البريكي.. الطب حجب مواهبه في الشعر والثقافة والترجمة مناكفة تحت الحساب

عدنان السيد محمد العوامي

بِأَبِهِ اقْتَدَى عَدِيٌّ في الكَرَمْ

وَمَنْ يُشابِهُ أَبَهُ فَما ظَلَمْ

رؤبة بن العجاج

مرَّ – في ما نقلته من شهادة السيد علي العوامي في الجزء (1) من الحلقة (22) السالفة بحق الشيخَ محمد صالح البريكي – أنه: (كان شخصًا محبوبًا وكريمًا، ويتمتع بأخلاقٍ فاضلة، ومحترمًا لدى الناس. وكان هو – وبضعةُ أفراد من القطيف – أولَ من قام برحلة للحج على ظهور الجمال عام 1353هـ لسَبْر الطريق، والتأكد من سلامته بعد انقطاع طريق الحج، وتوقُّف أهل القطيف عن الذهاب للحج لعدة سنوات؛ بسبب عدم اطمئنانهم لسلامة الطريق، ومنذ ذلك العام أصبح طريقُ الحج – بالنسبة لأهل القطيف – سالكًا وآمنًا، وقد أصبح الشيخ محمد صالح، بعد ذلك، أحدَ الأشخاص الذين يتعاقدون مع الحجاج؛ لنقلهم إلى الحج، والعودة بهم “حملة دار”)([1]).

وأرجح أنَّ الحجَّة المعنية هي التي دوَّنها الشيخ فرج العمران (رحمه الله) في كتابه الموسوم بـ(الأزهار الأرَجية في الآثار الفرَجية)، فقد كان الشيخ فرج قد تلقى رسالةً من الشاعر محمد سعيد ابن الحاج أحمد الجشي تتضمن مقطوعة شعرية عبَّر فيها عن إعجابه وتقديره للشيخ ميرزا حسين البريكي، أخي الشيخ محمد صالح، وبرفقة الرسالة موشَّحة نظمها الشيخ محمد صالح عن عودة حجاج القطيف من تلك الحجة، فيحسن أن أنقل ما دونه الشيخ العمران عنها.

عودة حجاج القطيف لسنة 1355 هجرية:

  تحت هذا العنوان كتب الشيخ العمران([2]): (هذه قصيدة جميلة لفضيلة الخطيب الشهير الأستاذ الفاضل الجليل المرحوم الشيخ محمد صالح البريكي، وقد نظمها بمناسبة عودة حجاج القطيف، وكانت العودة في عام 1356هجرية، وكان على رأس الحجاج حجة الإسلام والمسلمين، فقيد القطيف، وزعيمها وقاضيها العظيم الشيخ علي ابن الحاج حسن علي الخنيزي “عطر الله رَمْسَه”، وقد صحبه – في هذه الحَجَّة من أهالي القطيف – جمٌّ غفير ممن استطاع إلى الحج سبيلا، فلقد تبادر ليحج بحجه شِيبٌ وشباب من نساء ورجال، مما كوَّن موكبًا فخمًا مهيبًا يتألَّق فيه سماحة الحجة تألُّقَ النجم اللامع، حتى يخيَّل للإنسان – عندما يحطُّ الركبُ – أن هناك مدينةً آهلةً بالسكان، لا ركبُ مسافرين، وكان الخطيب الفاضل  المرحوم، ناظم القصيدة ممن حج في تلك السنة على رأس جماعة خاصة به([3])، ومن الحظ الحسن أني كنت من حجاج تلك السنة، فقد سمح إليَّ والدي “رحمه الله” بعد امتناع شديد، وذلك للقيام بخدمة الوالدة المرحومة، ورعايتها في تلك الحملة الميمونة، وكان السفر إلى الحج حتى عام 1355هـ بواسطة الجمال، كما كانت هذه آخر سنة يسافر فيها الحجاج على الجمال، ففي السنة التي تلتها بدأ السفر إلى الحجاز بواسطة السيارات، كما هو اليوم، هذا بالإضافة إلى الخطوط الجوية للسفر على الطائرات، وكان يوم سفر الحجاج المشار إليهم بصحبة ذلك الشيخ العظيم يومًا تاريخيًّا عظيمًا، حيث هبَّ لتوديع الشيخ والحجاج جميع المواطنين، يتقدمهم العلماء، وعلى رأسهم المرحوم أبو الحسن الخنيزي، والحجة السيد ماجد العوامي، وكبار وأعيان البلاد، ولقد صوَّر الفاضل المرحوم الشيخ محمد صالح البريكي  الموكب أجمل تصوير، وبأحسن تعبير، حين قال واصفًا حِلَّه وتَرحالَه:

الشيخ فرج العمران

غرَّ د القمري بلحنٍ مطربِ

مخبرًا عمَّن أتى من يثربِ

خير ركبٍ قد سرى خيرَ مسير

أنجمٌ يقدِمها البدر المنير

قد أقرَّ الله منهم أعيُنٰا

ولقد سُرُّوا وفازوا بالمنىٰ

قد هداهم ربُّهم سُبْلَ الصلاح

ولقد آبوا جميعًا بالنجاح

وإذا حلوا بأرضٍ أزهرت

وإذا ما فارقوها أقفرت

هم كرامٌ لهمُو عَزَّ النظير

أُلْهِموا رُشدًا من المولى النصير

* * *

عُد إلى وصفِهمُ بالاتحاد

في عفاف وحياء وسداد

فإذا نادى المنادي للصلاة

أقبلوا شوقًا إليها كالظماة

وأقاموها بشكر وخشوع

فتراهم كالقسِي عند الكوع

لست أحصي وصفهم في المجتمع

بينهم (سيدهم) بدرٌ لمع

يشربون الشايَ مع طيب الحديث

فكأنْ لم يُؤذِهِم سيرٌ حثيث

يشكرون الله ما بين الكلام

مطمئنين، لقد نالوا المرام

                                * * *

صاحِ، قُم بشِّر أهالي الوطنِ

بقدوم الموكب المؤتمن

نادِ فيهم، قل لهمُ: بُشراكمُ

قدم الحجاج فليهنكمُ

قد أقرَّ الله منكم أعينا

قدمت حجاجكم فهو المنى

                                * * *

بشِّر الأحكامَ والشرع الشريف

بقدوم الحجة المولى المنيف([4])

بَشِّر الخطَّ بروح العالم

سوف يأتي، فهو خير قادم

بشر السائل في المحافل

بقدوم الفتية الأفاضل

بشر المنبر والنادي الرحيب

مستعدًّا فليكن، جاء الخطيب([5])

بشر السادة ثم العلما

بقدوم الفقهاءِ الحكما

                           * * *

انتهت رواية الشيخ لتلك الحجة.

السفر عبر جزيرة العرب؛ كيف كان؟

يخبرنا الرواة أن السفر عبر جزيرة العرب كان – منذ القِدم – يتم بطريق البر بواسطة قوافل الجمال، وكانت القوافل غالبًا مَّا تتعرض للنهب من قِبل قطاع الطرق، لكن منذ النهضة الصناعية الأوربية، وابتكار السفن الضخمة ذات القلوع المتعددة، وبعدها ابتكار السفن البخارية، أصبح البحر هو السبيل الأمثل للسفر؛ لأنه الأكثر أمنًا ونجاةً من قطاع الطرق، لكن كما قال المتنبي:

كلَّما أنبتَ الزمانُ قناةً

ركَّب المرءُ للقناة سنانا

فما إن شحت موارد الصحراء على قطاع الطرق بتحول السفر عن البر إلى البحر، حتى هرع القراصنة إلى البحر ينهبون السفن، ويقتلون ركابها وبحارتها، ناهيك عن مخاطر أخرى قد تتعرض لها السفينة، منها العواصف، والأعاصير، والارتطام بالأفشات([6])، أو الوفاة في عرض البحر، وقد حفظ لنا التاريخ بعض حوادثها منها ما سبق أن أوردته في سلسلة (ميناء القطيف مسيرة شعر وتاريخ)([7]) عن حملة حج بحرية متوجِّهة من القطيف إلى بيت الله الحرام عام 1340هـ، توفي أثناءها أحد الحجاج، وهو الشيخ محمد علي بن علي النهاش (رحمه الله)، عند عبور الحملة بالبحر الأحمر، قرب جزيرة قمران، قبالة ساحل اليمن الغربي، فقد كانوا في الأسفار الطويلة آنذاك – إذا مات أحد الركاب- أن يتخلَّصوا من الجثمان برميه في البحر خوفًا من أن يتفسخ، ولقد سجل هذه الحادثة المعلم الملا علي بن محمد الرمضان الخطي، (رحمه الله)، في مطولته: (ماضي القطيف وحاضرُها)، وهذا نص ما جاء فيها عن الحادث:

(والفاضلُ النهَّاشُ شيخُ أُوليِ النُّهى

وسَمِّيه الَجشِّيُّ ذاك اللوذعي

الملا علي الرمضان

وفي شرح البيت قال: >34 -الشيخ محمد علي، المتوفَّى في أواخر شهر ذي القعدة الحرام، قريبًا من قمران، وألقِيَ في البحر، وذلك عام 1340هـ، ابن الحاج علي النهاش. 35 والشيخ محمد علي المتوفى في البحرين ظهر يوم الجمعة 8 – 8 – 1361هـ. . .)([8])، وذكر الحادثة الشيخ فرج العمران، أيضًا في ترجمة الشيخ رضي الصفار([9]).

وقبل هذه الحادثة وقفت على خبر عدة حملات سلكت البحر سبيلًا إلى حج بيت الله الحرام:

أولها – حملة من البحرين كان فيها الشيخ جعفر بن كمال الدين البحراني، من أهل القرن الحادي عشر الهجري، فقد اتخذ البحر سبيلاً إلى جدة، وبعد أن أدى المناسك، أبحر إلى اليمن، ومنها إلى الهند([10]).

الثانية: حملة من القطيف كان فيها فضيلة الشيخ محمد علي ابن الحاج حسن علي الخنيزي، قاضي القطيف الأسبق، كان سفره من ميناء القطيف في 14 شوال سنة 1324هـ، 20/11/1906م، إلى البحرين بالسفينة الشراعية، ثم إلى جدة فينبع في الباخرة، ومن ينبع إلى المدينة على الجمال([11]).

الثالثة – الشيخ فرج بن حسن العمران، كانت الحملة الأولى على الجمال سنة 1355هـ، كما مر([12])، والثانية سنة 1360هـ كانت على الجمال كذلك([13])، والثالثة سنة 1361هـ، لم يشر فيها إلى واسطة النقل([14])، لكن الراجح أنها على الجمال؛ إذ إنه  – في ذكره لحجته الرابعة – نصَّ على أنها كانت: (في البحر من القطيف إلى العقير، في ليلة الأحد 21 ذي القعدة سنة 1364هـ، ومن العقير إلى الحساء على الأباعر، ثم منها إلى مكة المكرمة، ثم إلى المدينة المنورة بالسيارة([15]))، وهي أول مرة – في العهد السعودي – يسلك الحجاج فيها طريق البحر. هذه السفرات لم تكن فردية بطبيعة الحال، كما إن المصادر التي أوردتها ليست كل ما اشتملت عليه مصادر التاريخ، فلا أحد يقطع بعدم حصول غيرها لم يدونها أحد.

ما تبقي من عين الخنيفسانية، البدراني، غرب الجارودية.

كانت محط قوافل المسافرين إلى الأحساء ونجد والحجاز. (أرشيف صُبرة)

محطة قوافل الحجاج أين كان موقعها؟

حدثنا الآباء عن حجهم في أيامهم الماضية؛ أنَّ محطة قوافل الجمال، للحج وغيره، كانت في برَّ البدراني المحاذي للبلدات: الجارودية وأم الحمام، والجش، كان ذلك حتى بداية العهد السعودي، ففيه عرف الناس السيارة، فامتطوها طلبًا للأمن والراحة والسرعة، ومع ذلك بقيت المشاقِّ والمصاعب – وانعدام الأمن لكثرة قطاع الطرق، فالقوافل لا تسير إلا جماعات، وبحماية قبيلة مرهوبة الجانب تتقاضى الإتاوات الباهظة من المسافرين، ومع ذلك فلا ضمان للوصول الآمن، فلربما تعرضت القافلة لاعتداء القبيلة التي استأجرتها لحمايتها نفسها، أو ابتزازها في أحسن الأحوال، ولذلك كانت أكثر القوافل تعتمد في حمايتها على قبيلة بني خالد؛ لأنها القبيلة الأقوى في المنطقة بشهادة الرحالة كارستين نيبور([16])، وهو حال شهرت بها الصحراء منذ القدم، كما قلت، لكنها تفاقمت إبَّان الحكم العثماني، نختار من الشواهد قريبة العهد حادث النهب الذي تعرض له أحد أعيان القطيف ووجهائها وهو الشيخ جعفر بن علي بن أبي سنان، ورفاقه، (وكانوا في سفرٍ، فاعترضهم قوم من الأعراب فعاثوا فيهم نهبًا وسلبًا وقتلاً، فأصابته جراحات قاتلة، وبقي ملقىً بين الأحساء والقطيف، فنقل بعد يومين إلى القطيف وبه رمق، فشُلَّت يداه معًا، وسقطت بعض أنامله)([17]).

الدكتور حسن البريكي

كفى تسكُّعًا في أقبية التاريخ، وهات الزُّبدة

مهَّدت – في أول أجزاء (الحلقة 22) هذه المخصصة للدكتور حسن – بهذه التوطئة: (سميرنا – في هذه الحلقة – الدكتور حسن ابن الشيخ محمد صالح البريكي، هو رابع الشخصيات المسماة بحسن([18])، والأول كان الأستاذ حسن بن صالح الجشي (رحمه الله)([19])، ثم المرحوم حسن الشيخ فرج العمران، ولعل من الصدف الجميلة أن جمعتني بالحسنين؛ العمران (رحمه الله والبريكي (حفظه الله) اتفاقات، وفصلتني عنهما فوارق، وزاد البريكي بأن العلاقة بيني وبينه لم تخلُ من مناكفات . . .)([20])، ويخامرني إحساس بأن السادة المتابعين ضاقوا ذرعًا بهذا الإغراق في نبش التاريخ وأحداثه بعيدًا عن سيرة الدكتور ودوره، ويتطلعون إلى المناكفات، والاتفاقات والفوارق التي وعدتهم بها، وكُرْمى عيونهم سأدخل في ما وعدت.

مناكفة أولى تحت الحساب

في سنة 1956م كنت أعمل مفتِّشً نظافة (Sanitary inspector) بمبنى الإدارة العامة (Administration head quarter building) لدى أحد مقاولي شركة الزيت العربية الأمريكية (أرامكو) بالظهران، وكان من ضمن مهام عملي التفتيش على مقر مجلة قافلة الزيت، وكان بمثابة  المركز الإعلامي للشركة، حيث ترد عليه الصحف من كثير من بلاد الله الواسعة، ومنها البلدان العربية، وبعد قراءتها نرمى في براميل القمامة. آنذاك كان الدكتور من طبقة المثقفين المرموقين، و كنت لا أفقه شيئَا مما تحتويه تلك الأوراق، فتعليمي لم يجاوز تلاوة القرآن الكريم، وشيئًا مما كنت مولعًا بقراءته من القصص الشعبية الشائعة لدى العوام كألف ليلة وليلة، وفراخها الزير سالم، والمياسة والمقداد، وتغريبة بني هلال، وعنتر وعبلة، والسندباد البحري، ومجنون ليلى، إلخ. فكنت أتخيَّر من تلك الصحف المقدار الذي يتحمله كتف يافع صغير مثلي، واحضره، في نهاية الأسبوع، إلى مجلس آل الفارس في القلعة حاضرة القطيف، حيث كان حسن وأخوه عبد الحميد (رحمه الله) من مرتادي ذلك المجلس. وسميرنا العزيز ينكر بشدَّة أنه قد عرفني أو سمع بي، بعدُ، في تلك الفترة، فضلاً عن أنه التقى بي في ذلك المجلس أو غيره. فهذه أولى المناكفات بيننا، وهي تغريني بالانتفاش زهوًا وغرورًا، لتغلب ذاكرتي على ذاكرته الحديدية.

موافقات ومفارقات

فاِفخَرْ، فما الفخرُ إِلّا ما خُصصتَ به

وفخرُ غَيرك مكذوبٌ ومُختَلَقُ

فالمجدُ وَقْفٌ على دارٍ حللتَ بها

وما عداك فشيءٌ منك مُستَرَقُ

وَاِسعَدْ بِذا العزِّ والتّخويلِ إنّهما

توافقا والسّعودُ الغُرُّ تتَّفقُ

الشريف الرضي

في مقابلة أجرتها معه صحيفة صُبرة الإلكترونية ذكر أنه حج بصحبة والده الشيخ مرتين، الأولى كان عمره 10 سنين، وأنَّ الحملة سلكت طريق الجبيل([21])، وهذه من الموافقات، والفروق في آن، فالموافقة أن الدكتور حج بصحة والده حجتين؛ الأولى وعمره 10 سنين، وحججت بصحبة أبي وأمي حجتين كان عمري في الأولى 9 سنوات، ولأنه يكبرني بعام (ميلاده سنة 1356هـ، وميلادي 1357هـ)، يكون حجنا الأول والثاني في ذات السنتين اللتين حج فيهما مع أبيه، أما الفارق بيني وبينه هو أنه (لا يتذكَّر المكان الذي انطلقت منه سيارات حملة والده) في حين يتذكر فريق صبرة ومتابعوها أنها بتاريخ 16 أغسطس سنة 2018م بدأتْ تنشر لي سلسلة مقالات تحت عنوان: (ذكريات حاج صغير) سردتُ فيها كثيرًا من التفاصيل عن الحج في ذلك  الزمن، بدئًا من الاستعداد له بالتعاقد، وتجهيز مستلزمات السفر، ونصب المراجحين (الأراجيح) للأطفال، وتزيين غرفة أو عشة الحاج، وخياطة الكراجو (تماثيل للحاج وحرمه) ونصبها فيها، واحتفالات يوم السفر، واحتشاد الناس منذ الصباح الباكر في (لستيشن)، عند الواجهة الشرقية لسور الدبيبية، حيث تقف الشاحنات ((الدمنتيات والماكات)، وهو من الأماكن المقررة لتجمع الحجاج، وما يفعله الحجاج بعد انطلاق السيارات من إطلاق الأغاريد والتكبير والتهليل، مما نسي أخي الدكتور كثيرًا منه، وبالوسع الرجوع إليه في موقع صُبرة، وهذا رابط الحلقة الأولى([22]).

الدكتور وأنا في رُماح

من ذكريات الدكتور مرور حملة أبيه برماح، ولم يذكر عن تلك المحطة شيئًا ذا بال، فهي مجرد محطة عبور، أما ذكرياتي فيها فهي من الذكريات التي لا تنسى، فالمكان المأهول الذي باتت القافلة فيه بعد الأحساء هو غيضة) المزيرع)، وكان بها بعض الرعاة، ومنها اشترت عزبتنا([23]) خروفًا سمينًا بثلاثة ريالات (ثلاثه أﮔْـحشات) بتعبير أهل القطيف  يقولونه تفاخرًا بقيمة الشرائية آنذاك.  ذبحوه وطبخوه صبيحة ذلك اليوم قبل أن قُوِّضت الخيام، وسارت القافلة متجهةً غربًا نحو بلدة  )رُماح(، فوصلتها عند الظهر، وما أن أطفئ محركا السيارتين حتى تحلَّق حولها جمعٌ من الناس لا يدري إن كانوا من أهل البلدة أم من البدو المتشردين، وبعد لأي نجح الحجاج في إبعادهم، ونصبوا الخيام، وبعد أداء الصلاة، رنت أصداء الصواني مبشِّرة بوجبة دسمة من لحم الخروف الهرفي اللذيذ، لكنهم تفاجأوا بأنَّ اللحم كان خامًّا ([24])، فنفضوا أيديَهم منه، وقاموا .حمل اثنان من العزبة الصينية إلى أولئك المتحلقين حول الخيام، وطرحوها أمامهم، وسرعان ما ازدحمت عليها الصفوف، واصطفقت الكفوف، واحتدم العراك، وياله من عراك! فكان الرجل الذي يتمكن من الإفلات ببعض الرز في طرف أسماله، يتبعه جمعٌ فيطيح به، وهكذا أصبح المشهد عبارة عن كتل بشرية متصارعة، وما انجلى غبار المعركةِ إلا وقد عجنت الصينية عجنًا، فتركت مكانها مغروزة في الرمال تشكو حظها العائر البئيس.

أين اللحم المشوي، من بنَّة الماء ونتن القديد؟

يتذكر الصديق العزيز رائحة اللحم المشوي حين شمّه، لأول مرة في حياته، وأكل منه، في مكة المكرمة في حجته الأولى، وأتذكر الماء الأحمر المشوب بروث الماشية، وبعر الجمال تستقيه دلاء الحجاج من الآبار العميقة على طول الطريق إلى المدينة المنورة، فلا يجدي غليُه، وشخله في محو بَنَّته المقرفة، أتذكر أن تلك البنة لم يمح فعلها بأنفي الصغير إلا طعم شيء لذيد يشبه الجيلاتين، تذوَّقته لأول مرة في مكة المكرمة، عرفت – بعد ما كثر عندنا بعد سنين – أنه الجلو، لكن ذلك التلذذ بمذاق الجَلو الحُلو، عاد فأفسده بخر القديد والجلود المفروشة تحت الشمس على أديم منى، والحمد والشكر لله أن ذا المشهد لم يعد له وجود اليوم.

———

([1]) الرابط: https://chl.li/pAvZt

([2])الأزهار الأرَجية  في الآثار الفرَجسة، منشورات دار هجر، بيروت، الطبعة الأولى، 1429هـ، 2008هـ، جـ14/146.

([3]) نفهم من هذا أن عدة حملات رافقت الشيخ، منها حملة الشيخ البريكي. 

([4]) هذا البيت والذي يليه بقصد بهما الحجة الخنيزي. من المؤلف. 

([5]) الخطيب هو العلامة الشيخ منصور  المرهون، شيخ خطباء القطيف، حيث كان حجاج تلك السنة أيضًا، كما كان منهم العلامةة\ الشيخ محمد علي الخنيزي، وشخصيات معروفة من البلاد. من المؤلف. 

([6]) جمع فشْت: جزيرة ضخرية منخفضة تغمرها مياه المجد، وتظهر للعيان إبَّان الجزْر. 

([7]) الحلقة 15، الرابط: https://chl.li/CyqMX  

([8])ديوان  وحي الشعور،  الحاج ملا علي بن محمد الرمضان، المطبعة الحيدرية، عني بنشره الفاضل علي المرهون، النجف، العراق، 1379هـ، 1959م، جـ2/103.

([9])الأزهار الأرجية في الآثار الفرَجية، الشيخ فرج بن حسن العمران، نشر دار هجر، بيروت، الطبعة الأولى، 1429هـ، مجـ2، جـ6/377.

([10])ديوان أبي البحر الخطي، سبق ذكره، جـ2/372.

([11])الأزهار الأرجية في الآثار الفرَجية، مر ذكره، جـ2/256.

([12])الأزهار الأرَجية  في الآثار الفرَجسة، سبق ذكره، جـ14/146.

([13])الأزهار الأرجية في الآثار الفرَجية، مرجع سابق،جـ1/100.

([14])الأزهار الأرجية في الآثار الفرَجية، مرجع سابق،جـ1/130.

([15])الأزهار الأرجية في الآثار الفرَجية، مرجع سابق،جـ2/270.

([16])يوميات رحلة عبر الجزيرة العربية، جورج فورستر سادلير، ترجمة عدنان السيد محمد العوامي، مراجعة عبد المجيد سعيد الجامد، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1437هـ، 2016م، ص: 21.

([17])ديوان أبي البحر الخطي، تحقيق عدنان السيد محمد العوامي، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2005، جـ1/313.

([18])وقع خطأ غير مقصود في عدد الشخصيات المسمَّاة بحسن وترتيبهم، والصحيح أنه السابع، وهم بالترتيب: 1 – حسن إبراهيم السبع، 2 – السيد حسن ابن السيد باقر العوامي، 3 – حسن صالح الجشي، 4- حسن ابن الشيخ فرج العمران، 5 حسن ابن الشيخ علي الخنيزي، 6 حسن بن أحمد آل عبد الجبار.

([19])حذفت الحلقة الأولى من الحلقات الخاصة به استجابة لرغبة ذويه.

([20]) الرابط: https://chl.li/MCxFc 

([21]) الرابط: https://chl.li/HeY6D  

([22]) الرابط: https://chl.li/fAHbZ

([23])العزبة، في اصطلاح أهل القطيف: مجموعة تشترك في السكن أوالأكل، أو فيهما معًا.

([24]) منتن.

اقرأ الحلقتين السابقتين

[1] حسن البريكي.. الطب حجب مواهبه في الشعر والثقافة والترجمة

[2] حسن البريكي.. الطب حجب مواهبه في الشعر والثقافة والترجمة

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×