أسطورة الخبز المدنّس حكاية مسخ الأم وصغيرها في الميثولوجيا القطيفية والخليجية والعربية
زكي علي الصالح
ونحن صغار كانت أمهاتنا وجداتنا يحكين لنا حكاية القوم الذين مسخهم الله إلى حجارة، عقاباً ونكالاً لهم على بطرهم بالنعمة، حيث تروي الأسطورة المتداولة في الميثولوجيا القطيفية بأن امرأة من أهل جبل الحريف (بلدة مندثرة تقع جنوب العوامية وشرق القديح)، كانت تخبز “إرقاق”، وإلى جانبها طفلها الصغير، وحينما تغوّط قامت بمسح مؤخرته بالخبز؛ فمسخها الله هي وولدها وجميع سكان البلدة وحوّلهم إلى حجارة.
هذه الأسطورة كانت تروى لنا لتحذيرنا من عدم احترام النعمة وإهانتها، وإلا تعرضنا لسخط الله وعقابه، على غرار مسخوطي جبل الحريف، ولذلك كنا إذا لقينا في الشارع كسرة خبز مُلقاة على الأرض أو دسنا عليها بأقدامنا – دون أن ننتبه – نقوم على الفور برفعها من الأرض وتقبيلها، ثم وضعها على حافة جدار أو نافذة، وهو سلوك تلقينا تعاليمه مبكراً من أهالينا. وكانت لهذه الأسطورة سطوة كبيرة على عقولنا الصغيرة. فكان يسكننا الخوف الشديد من أن نلقى مصير أصحابها، و”ننقلب” إلى حجارة إذا صدر منا أي خطأ غير مقصود تجاه النعمة عموماً، والخبز على وجه الخصوص، أو نصاب بالعمى كما في التعبير الشعبي الشائع: “اللي يدوس النعمة يعمى”. وهو لا يخص مجتمعنا فقط؛ فهو سلوك معروف ومحافظ عليه في كثير من المجتمعات الشرقية والعربية.
مسجد جبل الحريف في صورة قديمة له قبل إعادة بنائه (المصدر: صفحة القطيف حضارة منسية)
وأنا صغير كنت أحرص عند مرافقة والدتي أثناء ذهابها إلى مدينة القطيف لمراجعة المستشفى الحكومي “مستشفى لسويچة”، أو لزيارة أقاربها، أن ألقي نظرة من نافذة سيارة الأجرة على كومة الأحجار (الأحجار المتبقية من جبل الحريف الذي هُدم في عام 1369هـ، ومكانها حالياً محطة بنزين الغانم)، فهي – حسبما تلقيته من خلال السرد القصصي لتلك الأسطورة – تمثل قوم المرأة التي أهانت نعمة الله، فاستحقت هي وقومها هذا العقاب الشنيع والمصير المخيف، ولذلك خوفنا من الخسف يمتد من خوفنا على أنفسنا إلى خوفنا على أهلنا، فلا نريد لهم أن ينالهم الغضب الإلهي الذي نال قوم المرأة.
عندما كبرنا ونضجنا أدركنا عدم صحة هذه الأسطورة المزعومة، وذلك رغم إيماننا بقضايا المسخ المذكورة في القرآن الكريم، حيث استقر في وعينا بأن قصة مسخوطي جبل الحريف إنما هي من وضع جداتنا، من أجل إخافتنا وإرهابنا؛ لردعنا عن التعدي على النعمة بإهانتها والاستهتار بها.
وإلى عهد قريب كنت أظن أن هذه الأسطورة محلية الصنع؛ اخترعها أسلافنا الأولون لوظيفة محددة، وهي الحث على تقديس النعمة والتحذير من التجرؤ على إهانتها؛ حتى اكتشفت أثناء حوار مع الصديق الباحث والأديب الدكتور حسين اليحيى بأن هذه الأسطورة لها وجود عندهم في مملكة البحرين من خلال ما يروى عن جزيرة “خصيفة” التي تقع على مسافة كيلومتر واحد شمال مدينة الدير، عندها أيقنت بأنني أمام أسطورة عابرة للبحار والأكيد أنها منتشرة في أماكن أخرى في المنطقة.
تقول الأسطورة – حسب رواية أصدقاء من بلدة الدير – “إن امرأة قامت بإزالة نجاسة ولدها الرضيع بخبز “لرقاق”، فمسخها الله وولدها إلى حجارة”. وسميت الجزيرة بهذا الاسم نسبة إلى هذه الأسطورة اشتقاقاً من الخسف.
وفي بلدة الحجر بالبحرين أيضاً (تقع على شارع البديّع بين قريتي القدم وأبو صيبع)، يتداول الناس ذات الأسطورة عن التركيب الصخري الواقع خلف مسجد الخسفة، وقد دون الكاتب توماس فيبيكر هذه الرواية نقلاً عن مترجمة بحرانية اسمها زينب أحمد “التي ذكرت أن الأسطورة المرتبطة بهذا الحجر تدور حول امرأة نظّفت طفلها بقطعة من الخبز، لأنها لم تجد ماءً، فمُسخت إلى حجر، عقاباً لها على هذه الفعلة” (رمال الصحراء تروي حكاية الأسطورة، توماس فيبيكر، ص 45).
وقد قام الباحث البحراني حسين محمد حسين بالتعرض لها ومناقشتها في مقال له منشور في جريدة الوسط البحرينية (العدد 3316، 5 أكتوبر 2011).
بالسؤال والبحث وجدت حضوراً لهذه الأسطورة في مدينة سيهات (تقع بين مدينتي الدمام والقطيف)، تدور حول جبل القرين شبيهة بأسطورة جبل الحريف، وأيضاً في بعض بلدات محافظة الأحساء؛ تقول روايتها: “إن امرأة تخبز، وبينما هي كذلك تغوّط ولدها الصغير، فنزلت عليها من السماء قطعة قماش جميلة، فآثرت عدم استعمالها في تطهير ولدها من النجاسة، فقامت بأخذ قطعة خبز ومسحت بها مؤخرة طفلها، فمسخها الله وولدها إلى قردة”.
كما لهذه الأسطورة انتشار في الحجاز، وهي كما روتها لي زميلة من أهل مكة المكرمة “بأن امرأة تسكن بالقرب من الحرم المكي، وأثناء جلوسها مع أفراد أسرتها على مائدة الغداء، وإذا طفلها الصغير يقضي حاجته، فلم تجد الأم حولها ما تزيل به القذارة، إلا أحد أقراص خبز الغداء (عيش حب كما في اللهجة الحجازية)، فمسخها الله وولدها إلى قردة”.
وفي فلسطين تتردد مثل هذه الأسطورة في بلدة الصرة (14 كيلومتراً جنوب الخليل)، مع تفاصيل أكثر تراجيدية؛ حيث يقول ملخص القصة “إن جماعة قبل مئات السنين، كانوا يزفون إحدى بناتهم إلى شاب من قرية مجاورة. وكعادة أهل القرية في ذلك العصر، فقد جلست العروس في هودجها على ظهر جمل، وتبعتها النساء بزغاريدهن، وأهازيجهن.
كان العرس سيتم على خير لو لم تقدم إحدى النساء المشاركات في العرس على تنظيف ابنها الصغير بقطعة من الخبز؛ لأنها لم تجد شيئاً آخر تنظف به صغيرها.
ما إن فعلت المرأة فعلتها، حتى أنزل الله غضبه على كل من كان موجوداً في العرس، فحولهم إلى صخورٍ ضخمة بقيت حتى اليوم شاهدة على جريمة انتهاك حرمة وقيمة الخبز والنعمة” (نقلاً عن وكالة الأخبار الفلسطينية في 18 سبتمبر 2016م).
كل القصص حول هذه الأسطورة تدور حول الخبز.
وينقل الباحث الفلسطيني المرحوم نمر سرحان في كتابه (حكايات شعبية فلسطينية) رواية لهذه الأسطورة فيها اختلاف عما ذكر، وهي مسخ المرأة إلى سلحفاة، وابنها إلى قرد (نقلاً عن مدونة محمد الرديني).
فيما ينقل الباحث السوري في كتابه “الحكاية الشعبية الفراتية” رواية تختلف في بعض تفاصيلها عما سواها، حيث إن الله بعدما قامت به المرأة من خطيئة تجاه النعمة “الخبز”، دمر البلد وحولها إلى أطلال وخرائب، ومسخ المرأة إلى بومة، وابنها إلى قرد محروق المؤخرة” (نقلاً عن الباحث حسين محمد حسين).
أما الروائية السورية مها حسن؛ فإنها تروي عن جدتها قصة فيها بعض الاختلاف، وهذا أمر طبيعي، خصوصاً في بلد متعدد الأعراق والديانات والطوائف؛ حيث الإهانة فيها انتقلت من الخبز إلى الطحين؛ إذ قامت “المرأة بمسح مؤخرة ابنها بالطحين، فحوّلها الله إلى قردة” (اللامتناهي ـ سيرة الآخر ص 56).
وفي العراق يوثق الكاتب علي الفتال في كتابه “التواصل في تراثنا الشعبي ـ كربلاء نموذجاً” حضور هذه الأسطورة بالقول: إن القردة “كانت يوماً ما امرأة، فبينما هي ذات يوم تخبز في تنور دارتها، إذا بوليدها قد تغوط بالقرب منها، فلما لم تجد خرقة تمسح به فضلاته، أرسل الرب إليها قطعة قماش بدت لها جميلة، فطمعت بها، وتناولت بدلاً منها رغيف خبز، فمسحت الوليد، فأحالها الله بقدرته إلى قردة” (ص 364).
وحسب إفادة صديق – من بلدة برج قلاويه من جنوب لبنان – إن الأسطورة المتداولة لديهم تروي: أن المرأة تخبز على الصاج، حينما لبى ولدها نداء الطبيعة، فقامت بمسح مؤخرته بخبز الصاج، فمسخها الله إلى سلحفاة.
ولا يختلف عن ذلك ما ذكره الكاتب جودت نور الدين في كتابه “قرية الأمس في الجنوب ـ خربة سِلم نموذجاً”، إلا في جزئية واحدة، وأظنه مشتبهاً فيها، وهو ما يتعلق بفعل الصبي، وأن والدته نظّفت له بعجينة خبز “امرأة كانت تخبز وبجانبها طفلها، فبال هذا بقربها، فما كان منها إلا أن تناولت رغيفاً من العجين، ومسحت له به، فمسخها الله سلحفاة” (ص 221). والاشتباه هنا بأن بول الطفل لا يستدعي تنظيفه وإزالته بالخبز ولا بعجينه. وأظن الكاتب إما وقع في الاشتباه خطأً، أو قام عامداً بالتعديل على الرواية، من أجل تلطيفها وتخفيف وقعها على القارئ.
وفي ليبيا وتونس تتخذ هذه الأسطورة بعداً عنصرياً، بجعل المرأة في رواية أسطورتهما زنجية سوداء، والعقاب الذي نالته على كفرها بالنعمة يختلف عن باقي الروايات المحكية في البلدان والمناطق التي سبق ذكرها، ففي ليبيا يذكر الكاتب محمد عقيلة العمامي: “ظللت مثل أطفال ليبيا خلال خمسينات وستينات القرن الماضي مقتنعاً أن في ذلك الخيال الذي أراه في قمر الليالي الصافية هو لتلك الزنجية الكافرة التي أساءت للنعمة، فمسحت مؤخرة ابنها بكسرة خبز منها، فعلقها الله من شعرها في القمر، حتى يتذكر الناس سوء فعلتها” (جريدة بوابة الوسط الليبية 12 يناير 2018). هنا الرواية الأسطورية تفسر وجود مناطق داكنة في القمر على أنها هي تلك المرأة.
تعزو رواية شمال أفريقيا السواد في القمر إلى أسطورة المرأة الزنجية التي دنست الخبز.
أما في تونس؛ فالروايات تختلف في نوعية المادة المستعملة في المسح والإزالة، بين أن يكون طحيناً كما مر في رواية الكاتبة السورية، أو فطيرة للعشاء، وذلك كما هو موضح في المقال المنشور في مجلة الفيصل “يحكى أنه في زمن قديم مغرق في القدم كانت تلك المرأة السوداء مشغولة ـ كما يقولون ـ بطحن الحبوب في واحدة من الطواحين الحجرية،…. وكان طفلها يلهو قربها، ولما رأته متسخاً؛ لأنه قضى حاجته، بحثت عبثاً عما يمكن أن تمسح به مؤخرته، ولما لم تجد شيئاً استخدمت قبضة من الطحين… لقد دنست هذه المرأة نعمة ربي، وعقاباً لها نفيت إلى القمر نفياً أبدياً، وشنقت بحبل قصير على القمر من رموشها، ويقول آخرون إن المرأة السوداء لم تكن مشغولة بطحن الحبوب، وإنما بصناعة الفطائر للعشاء، وأنها مسحت مؤخرة الطفل بواحدة منها” (مجلة الفيصل، العدد 364، ص 107).
ما تقدم هو ما استطعت رصده من روايات لهذه الأسطورة في البلدان العربية، ولربما توجد في بلدان أخرى كمصر، فرغم عدم عثوري على نصٍ يثبت بشكل قاطع وجودها فيها؛ إلا أن إشارة أحمد تيمور لها في معجمه “معجم تيمور الكبير في الألفاظ العامية” (مادة لَمُون) تدل على أنها معروفة لديهم.
وهي ـ أي الأسطورة ـ وإن اختلفت في تفاصيلها من مكان إلى آخر؛ إلا أنها تجمع على هدف واحد؛ وهو تكريس الاحترام والتقديس للنعمة عموماً وللخبز المصنوع من القمح خصوصاً، باعتبار أن القمح غذاء مبارك لدى أغلب الشعوب، ونبتة مقدسة لدى الحضارات الشرقية القديمة. وحيث لا يمكن الجزم بالموطن الأساسي لهذه الأسطورة إلا أن تعدد مواطن انتشارها يدل على الصلات القديمة بين شعوبها قديماً.
والسؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن: ما أهمية تتبع واستقصاء مثل هذه الأسطورة؟ الجواب: إن الغرض من هذا التتبع والاستقصاء هو أولا: لترسيخ نظرة التقدير والاحترام لما لدينا من موروث ومعتقدات شعبية، والنظر لها باعتبارها دلالة على غنى المجتمع ثقافياً، وعلى جذوره الحضارية. وثانياً: للرد على من يرمي المجتمع بسهام الجهل من زاوية تلك المعتقدات التي هي في نظر الأشخاص ضحلي الثقافة بأنها مجرد خرافات لا قيمة ولا وزن لها، بينما ينظر لها المثقفون الواعون والدارسون الاجتماعيون والانثربولوجيون على أنها دلالة على أصالة المجتمع الحضارية؛ فكل معتقد شعبي لا يقل عمره عن مئات وآلاف السنين، وهذا ما ينطبق على هذه الأسطورة، فتاريخها موغل في القدم، وربما يعود إلى عهود نشوء الديانات السماوية الثلاث، وربما سابق عليها، ويتصل في تاريخ الحضارات القديمة وهذا ما أرجحه.
من السطور الاولى لقرائة المقال تظن انك امام محتوى لاسطورة محلية فقط لا تتعدى حدودها حدود محافظتنا الغنية بمثل هذه الاساطير والتي في غالبها ما نستطيع ان نطلق عليه بالاساطير الحسنة.. الا ان القاريء يتفاجئ ان ما يقرأه ليس بمقال عابر انما دراسة مستفيضة اجتهد كاتبها كثيرا وتوسع في البحث عن وجود هذه الاسطورة على مستوى الوطن العربي تقريبا.. وان جائت باختلافات طفيفة هنا او هناك الا ان خلاصتها كانت واحدة وهي ان المسوغ الاساس لكل هذه الاساطير كان لتكريس مفهوم الحفاظ على النعم في اذهن العامة من الناس..
كم كنا بحاحة للمزيد من هذه الاساطير للحفاظ على بقية النعم المتوفرة آنذاك .. الماء كان احدها.. ربما لم يظن ذلك المجتمع البسيط ان يوما ما رواخين تلك النعم ستتوقف عن جريانها..
شكرا للكاتب وشكرا لصبرة على النشر
رواية المرأة مُدنّسة الخبز موجودة لدينا في الجاروديه أيضاً ومرتبطة ( بجبل البرّاق ) والخسف الذي كنا نشاهد بعض الأحجار هناك يتصور لنا على هيئة إمرأه وجمل بارك في الأرض
اتذكر سمعت هذه القصة ( الحزايه ) من جدتي لأمي رحمها الله ومن ثم من أمي حفظها الله