[تعقيب على تعقيب 2 من 2] أدلّة جديدة على تورط الأتراك وبراءة بني خالد

عدنان السيد محمد العوامي

متابعة للحلقة السابقة

(كما جاء في وثيقة أخرى بتاريخ 22 شعبان 967هـ 3 أغسطس 1560م، موجهة إلى حاكم عام البصرة أن مراد حاكم عام الأحساء أرسل إلى السلطان “دفترًا” للقضايا كان مضمونه استيلاء إحدى قبائل البادية على محاصيل الأحساء والقطيف بعد اكتمالها، وإتلاف بعض المزارع، وتخريبها، إضافة إلى مهاجمة الكفار البرتغاليين ميناء القطيف، واستيلائهم على سفن التجار، ويطلب قوة عسكرية، إضافية، وقد نص الحكم على أن تسعف “تلبي؟” البضرة طلبه…) ([1])

هذه ذريعة تذرَّع بها عن الضعف والتخلي عن واجب الدولة في حماية المواطنين، كما سنرى، فقد عين مراد باشا حاكمًا جديدًا على المنطقة، ووصلت القوات والأسلحة من بغداد وديار بكر، ونجحت عند وصولها في إبعاد الثوار، وفرض النظام، فماذا حصل؟

(وثبت من التحقيق أن لبعض الضباط العثمانيين يدًا خفيَّة في تلك الثورة بينهم عثمان حاكم لواء العيون الذي كان مكلفًا بإدارة الأحساء والمحافظة عليها، أثناء قيام حاكمها العام مصطفى باشا بحملة البحرين، وكذلك حسين الدفتر دار أمين الأمناء، أي إن حادثة الاختطاف السابقة لم تكن إلا عملية تمويهيهة، فقد تسلم المتمرد سعدون بن حميد أموالاً من خزينة الأحساء تزيد على ستة أحمال أقجه) ([2]).

 

وهذه رشوة دفعها إلى سعدون كي يُنعم عليه بمنصب إذا نجح في ثورته، والبقية تأتي:

(ومع أنه قد أعلن عن فرض النظام إلاَّ أن ذلك انحصر – فيما يبدو – على إبعاد الخطر عن مدينة الأحساء، فقد استمرت ثورة سعدون حتى 22 صفر 968هـ، 14 نوفمبر 1560م، فقد جاء ضمن وثيقة بهذا التاريخ موجهة إلى حاكم عام الأحساء تتضمن أمرًا باستمرار سجن كل من عثمان بك وحسين دفتردار وتحصيل ما في حوزتهما من الأموال، والأمر بالقضاء على كل من يؤيد أو يتعاون مع سعدون، ومِن بينهم آغا تكلو الذي حاول – برجاله أيضًا – إطلاق سراح المسجونين السابقين، وإيصالهما إلى جهة سعدون، وكذلك “سلطان علي” أمير لواء القطيف المتفق مع المتمرِّد سعدون بن حميد، كما يرد تفويض السلطان لحاكم عام الأحساء بما يجب عمله مع أغوات القطيف المتعاونيين مع الثائرين، والذين أكثرهم من العجم والأجانب. . .) ([3]).

التفويض يتهم الأجانبَ بمساند الثورة وأكثرهم العجم، فأين أهال أهالي القطيف منها؟ هات البرهان. نعم، لا شك ولا ريب، فالقول بأن هذا الأمر: (يعني استمرار ثورة سعدون، ومساندة القطيف لها حتى تاريخ الخطاب) يحتاج إلى برهان، فهاكه:

(إن استياء الأهالي من بعض تصرفات الولاة العثمانيين، وجنودهم، كمصادرة الأراضي، ورفع الأسعار وفرض العديد من الضرائب، والاعتداء على الحقوق جعلهم “الأجانب والعجم” يساندون القادة المحليين، وعلى رأسهم أمراء بني خالد، في ثورتهم ضد الحكم العثماني، كما حدث في مساندة أهالي القطيف السابقة للثورة…) ([4]).

– لم تأت بالبرهان.

– لا تتعجل، فالراوي ثقة، وجلُّ اعتماده على الوثائق، فالوثيقة التي أوردت انضمام العجم والأجانب إلى ثورة أهالي القطيف، بتاريخ 22 صفر 968هـ، 14 نوفمبر 1560م، هي من دفتر المهمات 3  (مهمة دفتري) حكم رقم 1633 بتاريخ 22 صفر 968هـ، متعلقة بانضمام العجم والأجانب  إلى ثورة أهالي القطيف، أما هنا فينقل عن وثيقة أخرى من الدفتر رقم 3  حكم 1630 في التاريخ نفسه ومتعلفة بتعديات في الأحساء، فدعه يكمل، وخلاك ذم: (وكمثال على تلك التعديات تورد وثيقة في 22 صفر 968هـ، 14 نوفمبر 1560م موجهة إلى أغا العبيد، طائفة “ﮔـول” في الأحساء؛ إن رجال تلك الطائفة يحصلون من الأهالي على طعامهم وعلف دوابهم بالمجان، وقد نص الحكم على منعهم من الظلم والتعدي على حقوق الناس، ومن لم يستجب يرفع بأمره إلى حاكم الأحساء مراد ليتخذ اللازم بحقه)([5]).     

تتصرم سنوات ست لم يعثر محدثنا خلالها على وثائق، ويستنتج من ذلك أن الثورة مستمرة، ويرجح أن سعدونًا انسحب خلالها (عن القلاع العثمانية – وخصوصًا قلعة الأحساء – إلى الصحراء، فقد وردت الإشارة إلى تلك الثورة مرة أخرى بعد حوالي ست سنوات، حيث يرد في حكم موجه إلى حاكم عام “أمير أمراء” الأحساء ويختص بخطاب ورد منه إلى السلطان ذكر فيه ما تعانيه خزينة الأحساء من عجز، بسبب ثورة العرب، واستمرار اعتداءاتهم، وأنه بحاجة إلى مليون ونصف المليون أقجه لتسديد مخصصات الجنود، ونص الحكم على تأمين ذلك المبلغ من  خزينة ديار بكر على شكل قروض . . .)([6]).

 

يواصل راوينا عرض وثائقه المتعلقة باستمرار ثورة سعدون على المنوال نفسه حتى يوصلنا إلى سنة 982هـ، ثم: (نجد في 19 صفر 982هـ، 11 يونيه 1574م، أي بعد سبع سنوات تقريبًا من التمرد السابق حكمين يتضمنان مواجهة الأحساء لمصاعب كبيرة جدًّا، وأنه تم تعيين وال جديد على الأحساء يدعى إلياس بك، وجرى إمداده بقوة كبيرة من البصرة على وجه السرعة للمحافظة على الأحساء، وحمايتها من الاعتداء، ويبدو أن ما حدث كان على درجة كبيرة من الخطورة؛ إذ أصبحت البصرة تعاني من نقص كبير في الرجال؛ مما استدعى إرسال 300 فرد من الإنكشاريين من بغداد إليها على وجه السرعة، كما طلب من ولاية شهرزول إمداد البصرة بأربعمائة عسكري لتعويض النقص الحاصل بسبب الأحساء أيضًا. . .)([7]).

مرت سنوات عدة ابتعد فيها سعدون عن المدن، واتخذ الصحراء مقرًا له، ومع ذلك كان هو المسيطر على المنطقة، ويستبعد الأستاذ الوهبي قيام ثورة أو تمرد واسع في المنطقة ضد العثمانيين دون مشاركته، يذكر – كذلك – اضطرار العثمانيين لإعادة توليته لواء البادية، وصرف 40 أقجه لأخيه، ونتيجة لتنامي قوته أنيط التعامل معه بولاة بغداد مباشرة، إضافة إلى ولاة الأحساء، ويورد فحوى حكم موجه إلى الحاكم العام (أمير أمراء) بغداد في 26 شعبان 983هـ، 4 ديسمبر 1575م، أن ابن حميد من أعيان العرب، قد تم توجيه لواء إليه في الأحساء بمائتي ألف أقجه (000،200) في السنة بشرط أن يقيم في الأحساء مع عشيرته، ويقوم بمهمة حفظها وحراستها من أشقياء البدو، ولكنه يهمل ويتراخى في أداء واجبه، وقد نص الحكم على أن يوجِّه له والي بغداد خطاب استمالة وترغيب لتشجيعه على القيام بمهامه، ومع هذا لم يتقيد بتلك التعليمات، بل أصبح يتجاوز الأحساء، فبعد شهر من إعادته إلى منصبه ورد إلى السلطان خبر زحفه على بغداد. ثم ينقل تعليق مانداﭬـل Mandavelle: (وفي الحقيقة لقد كانت الدولة تدفع لسعدون ليعمل على الحفاظ على السلم، بين قبائل شرق الجزيرة العربية، وليعمل على منع النهب في الإقليم، ربما أن هذا كان يتفق مع غرض سعدون بأن تكون له اليد الطولى على قبائل المنطقة، وكان، في نفس الوقت، يحقق غرض العثمانيين، فإن كلا الطرفين كان قانعًا بهذا التنظيم) ([8]).

نعم. من واجبه حماية بلده وموطنيه من هذه الفوضى.

لم يتصد سعدون للعثمانيين وحدهم، بل معهم الحاكم المحلي لولاية البصرة حين قام  – يسانده العديد من القبائل من ضمنها شَمَّر – بمهاجمة الأحساء، فتصدى له وطارده في قلب الصحراء، ففر بجلده قانعًا بالسلامة، وحين استعانت عليه الدولة العثمانية بشريف مكة بقصد استدراجه إلى حرب صحراوية، واستعْدَت القبائل المتحالفة معها من جنوبي حلب حتى الحجاز لمساعدة حاكم الأحساء لإخماد ثورة سعدون – لم تفلح، ففي (خطاب موجه إلى الحاكم العام بالأحساء بتاريخ 19 ربيع الأول 992هـ، 1 مايو 1584م إلى حاكم الأحساء العام يتضمن التحقيق في الاضطرابات التي سببها كل من سعدون أمير البادية، ومحمد بك وموسى بك وداود آغا في المنطقة، ورفع نتيجة التحقيق إلى استنبول ليتم اتخاذ اللازم، ويتضح – من خلال ذلك – بقاء سعدون في منصبه كأمير لواء، وتواطؤ بعض القادة العثمانيين معه مرة أخرى) ([9]).  

ست سنوات أخرى تغيب فيها الأحداث بعدها تعود الوثائق تتحدث عن استمرار ثورة سعدون، ومحاولة الدولة استرضاءه، فتظهر رسالة مؤرخة في  16 رجب 998هـ، 21 مايو 1590م، نصها: (إلى الأمير سعدون، لقد كنت – سابقًا – خادمًا مخلصًا لهذه السلطة، ولكنك أصبحت – في الفترة الأخيرة – سببًا للمشاكل، يجب أن أفهم كل الظروف التي أدت إلى هذا التغيير، ولهذا فقد وجهت حاكم عام الأحساء أحمد للاتصال بك والاجتماع بك، فوضح له شكايتك بكل تفصيل وصراحة، وسيكتب لي بدوره بالتفاصيل كلها أيضًا، وإن شاء الله سنعمل بالعدل لإزالة كل المظالم التي وقعت) ([10]). أليس هذا إقرارًا بالظلم، والجور؟ لكن الأيام أثبتت أن هذا الوعد من مواعيد عرقوب. لندع الأستاذ الوهبي يكمل: (وتتضح قوة ثورة سعدون ونجاحه في السيطرة على معظم المنطقة في خطاب لاحق موجه إلى حاكم عام الأحساء عثمان بك في شوال 1001هـ، يوليه 1593م جاء فيه أن أمير أمراء الأحساء السابق يوسف قد بعث برسالة مفادها أنه لم يبق من ألوية الأحساء تحت السيطرة العثمانية سوى لواءي صفوى والقطيف([11]) . . . وبضم البصرة إلى الحكم العثماني المباشر بعد إقصاء يحيى آغا، آخر ولاة العهد الأفراسيابي، وتولية مصطفى باشا عليها هدأت الأوضاع، وسنحت الفرصة لبني خالد لضم القطيف، خصوصًا بعد أن قُلِّص الوجود العسكري في البصرة نتيجة – على ما يبدو – للضائقة المالية التي تواجه السلطة هناك، وتلك الضائقة دفعت بوالي البصرة مصطفى باشا، الذي أنيطت به معالجة أوضاع المنطقة، إلى مطالبة السلطة المركزية بتخفيض ما تدفعه خزانة البصرة لها من مستلزمات مالية بشكل مناسب، أو إعفائه من منصبه، وذلك لعجز موارد البصرة المالية عن الوفاء بتلك المستلزمات؛ مما ادى إلى تذمر الأهالي من زيادة الضرائب والرسوم التي فرضت لتأمين العجز. بالإضافة إلى تلاشي دور محمد باشا وأتباعه في المنطقة بعد عودة البصرة إلى السلطة المركزية، ووفاة وسيطه لدى استانبول شريف مكة زيد بن حسين أبانمي في محرم سنة 1077هـ، 1667م، وانقسام الأشراف حول خليفته، فاستغل براك الموقف واستولى على القطيف، وضمها إلى سلطته، وأنهى زهاء مائة وعشرين عامًا من الوجود العثماني([12]).

نتابع:

(وترد الإشارة إلى مشاركة العتوب أثناء نزوحهم من الهدَّار في مقاطعة الأفلاج النجدية، لبني خالد في الاستيلاء على القطيف، مما دفع براك إلى منح أحد زعمائهم أرضًا زراعية فيها لا زالت معروفة حتى وقتنا الحاضر)([13]).

هامش الأستاذ الوهبي رقم (1) يحيل إلى مقالة منشورة بمجلة الوثيقة([14]) بعنوان (دراسة في تاريخ العتوب)، كتبها رئيس تحريرها الدكتور علي أبا حسين، والهامش (*) يحيل إلى الصفحات: 94، 96، 97 من المقالة نفسها، وبالرجوع إلى المجلة وجدت في الصفحة 94 النص التالي: (وكان براك بن عريعر الخالدي أول من أسس حكم آل عريعر، وقد فتح الأحساء ثم استولى على القطيف سنة 1028هـ، 1671م، مستدلين في ذلك بقول أحد شعراء القطيف)، وبعد أن أورد بيتي التأريخ المنتهيين بـ:(طغى الما)، تابع: (وفي أغلب الظن أن العتوب ساعدوا آل عريعر في استيلائهم على القطيف حيث استقبلوهم عند هجرتهم من الهدار، وأسكنوهم بين ظهرانيهم حين كان لبني عريعر السيطرة على سواحل الأحساء، وحصلوا على نخيل لا زالت قائمة إلى الآن، ويحتمل نزوح العتوب من نجد في هذه الفترة التاريخية)، وفي الهامش (25) من الصفحة: (إن النخيل التي حصل عليها العتوب إثر مساعدتهم آل عريعر في استيلائهم على القطيف أوقفها آل خليفة على مسجد لهم في الكويت يسمى مسجد آل خليفة، ثم آل هذا النخيل إلى أبناء سلمان بن أحمد آل خليفة، إلى الآن…)([15]).  هذا ما على الصفحة، 94، وهو – كما ترى – تخرص يغلِّب ظنَّه فيه ولا يقطع بهذه المساعدة، كما أنه يحتمل مساعدة العتوب احتمالاً، ناهيك عن خلطه بين غرير، أبو براك، مؤسس دولة آل حميد، وعريعر، فالفرق بين براك وعريعر كبير جدًا، فبراك (1077 – 1093هـ) هو: براك بن غرير بن عثمان بن مسعود بن ربيعة آل حميد، أما عريعر (1116 – 1188هـ) فهو: عريعر بن دجين بن سعدون بن محمد بن غرير، فهو من أحفاد غرير. أما إحالته الثانية إلى الصفحة 96 فتضمنت صورة وثيقة مدرسة في المبرز بالإحساء بناها الشيخ علي بن محمد بن خليفة، أصالةً عن نفسه، ونيابة عن أخويه الشيخ أحمد والشيخ مقرن، وأوقف عليها نخلاً داخلاً على أبيه الشيخ محمد بن خليفة بالشراء سنة 1200هـ، هذا محتوى صورة الوثيقة (انظر صورتها)، وأما الصفحة 97، فعليها صورتان من مخطوطة لؤلؤة البحرين تأليف الشيخ يوسف البحراني، وبها بيت رجز يؤرخ لدخول العتوب البحرين سنة 1112هـ، ونصه:

قضية القبيلة المعتدية

وعام تلك شتتوها فاحسبه.

فأين هي الإشارة التي استنتج منها الأستاذ الوهبي : (منح براك أحدَ زعماء آل خليفة أرضًا زراعية في القطيف)، مكافأة له على مشاركة لم تحصل أصلاً، فالواضح أن الأستاذ الوهبي وثق بما في المقالة فاعتمد عليه دون تمحيص.

نتابع:

(أما بالنسبة لتاريخ الاستيلاء على القطيف، فليس لدينا مصدر محدد سوى تاريخ منسوب لأحد أدباء القطيف أورده على حساب الجُمَّل ضمن البيتين التاليين:

رأيت البدو آل حميد لما

تولوا أحدثوا في الخط ظلما

أتى تاريخهم لما تولوا

كفانا الله شرّهم (طغى الما))

وجملة (طغى الما) تحدد تاريخ استيلاء آل حميد على الخط، وهو اسم تختص به القطيف عن سائر المنطقة، ولا يمكن الاعتماد عليه في تاريخ الاستيلاء على الأحساء من قبل بني خالد. وقد اختلف في تحليل حروف (طغى الما) مما أدى إلى عدم اتفاقهم على تاريخ معين للاستيلاء مع أنه انحصر بين عامي 1080- 1083هـ، 1669 – 1672م، والأصوب أنه تم سنة 1082هـ)([16]). هو هنا -كما ترى – متذبذب، ولعل مردُّ هذا التذبذب إلى خلو فحوى البيتين من السند التاريخي الموثق؛ فضلاً عن الشاعر مجهول، وأقدم مصدر لهما هما المؤرخ النجدي حمد بن لعبون، المتوفى سنة 1260هـ([17])، وعثمان بن بشر (عاش من: (1210 – 1290) ([18])، وكلاهما بعيد عن القطيف مكانًا وثقافة، ولا صلة لهما  ببيئة القطيف الأدبية، ناهيك عن أن موقفهما من آل حميد موقف خصومة، والخصم لا يقبل حكمه على خصمه حتى وإن اشتهر بالعدل. ومن نافلة القول إن الأستاذ الوهبي ربما أنساه التدقيق في جملة (طغى الما) ما نقله عن الوثائق العثمانية قبل سطور، والذي هذا نصه: (بالإضافة إلى تلاشي دور محمد باشا وأتباعه في المنطقة بعد عودة البصرة إلى السلطة المركزية، ووفاة وسيطه لدى استانبول شريف مكة زيد بن حسين أبانمي في محرم سنة 1077هـ، 1667م، وانقسام الأشراف حول خليفته، فاستغل براك الموقف واستولى على القطيف، وضمها إلى سلطته، وأنهى زهاء مائة وعشرين عامًا من الوجود العثماني([19]). فالوثائق العثمانية المعاصرة تحدد نهاية الحكم العثماني بسنة 1077هـ، وليس جملة (طغى الما) المجهول قائلها.

فرار فردي وجماعي، واختفاء أسر بأكملها من مسرح الحياة

باستعراض سيرة الطرفين العثماني والخالدي توضحت لنا الصورة جلية في هذه الجولة، فعرفنا خلالها مسلكهما، وعرفنا مَن وقف الأهالي معه، ومن وقف ضده، فهل انتهت الرحلة؟ لا. لم تنته، بقيت أخبار الفرار الجماعي، واختفاء أسر بأكملها. فلا بد من عرضها.

حدد لنا الشاعر الخطي سنة 999هـ، تاريخًا اضطر فيه أعيان القطيف وعلماؤها غير المحاربين، وعلى رأسهم زعيمهم الشيخ عبد الله بن ناصر المقلد وشاعرهم الشيخ جعفر الخطي إلى الهجرة إلى البحرين([20])، هذه هجرة جماعية، لكنها إلى البحرين، والمهاجرون معروفون.

في ديوان الشيخ جعفر الخطي نفسه ترجمة لشخصية من القطيف نزحت للمدينة المنورة سنة في القرن العاشر الهجري، بدليل أرجوزة يمدح فيها السيد حسن بن شدقم المدني بعث بها من المدينة المنورة إليه في الهند سنة 993هـ([21]). لا يقل لي أحد أنه موجود في المدينة المنورة في زيارة حج أو عمرة، فالأرجوزة جوابٌ لأرجوزة بعث بها ابن شدقم إليه في المدينة، ولم ينشئها ابتداءً، كما أنه ضمنها أسماء ذوي السيد، ومعارفه، وأصدقاءه، وهذا لا يتسنى لغير المستقر المقيم.فهذه أسرة هاربة من العثمانيين.

أسر اختفت بكاملها من الوجود، آل الصنديد مثالا

نعود إلى وثيقة أوقاف عز الدين ابن أبي السعود، المؤرخة في العاشر من ذي القعدة سنة 1119هـ، فنستفيد منها فوائد عدة، أولاها الشهود، و يهمنا منهم واحد له صلة بعنوان الفقرة، وهو صاحب الإمضاء في يمين الزاوية العليا، فنصه هو: وقعت الصدقة والوقف وتابعهما من الإيجاب . . . والإقباض ورفع اليد للتقي الشيخ عز الدين بمشهد من . . . ([22]) السيد إبراهيم بن السيد يحيى بن السيد أحمد بن السيد محمد الصنديد. عفى الله عنه.

هذا علم من أعلام أسرة الصنديد القطيفية؟ فأين هي هذه الأسرة؟ الخبر اليقين هذه المرة ليس عند جهينة، وإنما عند الشيخ علي البلادي، وإليك نص خبره عن هذه الأسرة: (وقد كان بيت الصنديد جماعة كثيرة من السادة الموسويين، أصحاب إباء وغيرة في الدين، وجرى لهم مع عسكر السلطان الذين في القطيف، وكانوا يعرفون بالمغاربة، والظاهر أنهم من أهل مصر، وكانت القطيف والأحساء من قديم الزمان ملكًا لملك الروم، وإنما يتغلب عليها بعض الأعراب والوهابية أو غيرهما غفلة أو إرضاء من المأمورية ولبعد الشقة في ذلك الزمان، ولعدم ضبط الممالك كالآن، قضية (معركة) عظيمة، فقتل أولئك السادة المذكورون أكثر العسكر الذين هم الحاضرون، وبعد مدة تتبعوا هذا العسكر فقتلوا منهم جماعة في الطرق والأسواق وهم غازون، فلما سمع بذلك حاكم صنعاء اليمن، وكان زيديًّا قام في طلب ثأرهم؛ لاعتقاده إمامتهم؛ لأن الإمام عندهم كل فاطمي قام بالسيف فهو إمام، وكاتب السلطان بما جرى، وأنه ثائر بثأرهم، فأرسل إليه ديات عدد من قتل منهم، فأرسل جماعة من جهته بالديات لورثتهم، فلما وصلوا القطيف اختفى بقية من سلم منهم خوفًا من العاقبة بعد، ولم يقبض أحد منهم شيئًا من الديات خوفًا وتقية، فأخذ تلك الديات جماعة من السادة من غير ذلك البيت…)([23]). هل بقي لآل الصنديد أثر في القطيف؟

أسرة آل مجلي، لا يعرف منها سوى الشيخ حسن مخمس عينية السيد الحميري، هذا الشيخ من سكنة بلدة باب الشمال، بالقطيف، حقق الشيخ فرج العمران تخميسه([24])، وترجم له الشيخ علي المرهون، وفي ترجمته له قال: (وآل مجلي من أهالي القطيف لهم مكانتهم وأهميتهم في المجتمع برجالهم الأماثل، غير أنهم، ويا للأسف! قد انقرضوا حتى لا نكاد نعرف أحدًا منهم في زماننا هذا غير الشيخ حسن المذكور…)([25]). هذه الأسرة لم تنقرض، كما وهم الشيخ، فلحسن الحظ بقي لها أعقاب موجودون الآن في الفرع بالمدينة المنورة، ولكن من يدلني على بيت أو فرع منها بقي في القطيف منذ نزوحها؟

الخلاصة

في هذه الجولة عبرنا قرنًا ونيفًا من الزمن، عانى فيه سكان المنطقة بدوًا وحضرًا، شيعة وسنة حالة من الفوضى والقلق، من النهب والسلب، لم يسلم منه أحد، فصودرت التركات، ونهبت الأعلاف، ولم يستقر للسكان قرار إلا في ظل الحكم الوطني والمحلي، بعد أن تغلب بنو خالد على المنطقة وأجلوا منها الترك، في هذه الفترة شهدت المنطقة، فترة رخاء، واستقرار وازدهار، فأوقفت التعديات وخفضت الضرائب حتى أن المكوس في عهد آل حميد صارت لا تتجاور: 1% فقط([26])، وردت الأملاك المغتصبة لمالكيها، وألغي ما نسميه اليوم التمييز المذهبي، وأقِر الشيعة على أسلامهم، واتخذوا لهم واليًا (الوزير ناصر الشيعي) وفي آخر عهدهم عرفنا من ولاتهم أحمد بن غانم.

وبعد زوال دولة آل حميد، دخلت المنطقة في ظل الحكومة السعودية، فسارت السيرة نفسها في القطيف ، وأقر أحمد بن غانم واليًا في القطيف، كان أحمد بن غانم هذا آخر وآلٍ لآل حميد في القطيف، وأول وال لآل سعود فيها في دولتهم الأولى، وفي الدور الثاني كان واليهم عليها ابنه عبد الله، ثم ولده علي، وقد فصلت ذلك في الحلقة (3) من مقالي (سوق الخميس، سوق البضائع ومعترك الوقائع)([27])، فلا داعي للتكرار، وفي الدور الثالث تعدد الولاة، فكان الشيخ علي بن حسن علي (أبو عبد الكريم) الخنيزي معتمد الملك عبد العزيز في القضاء والسياسة، وصالح الفارس وحسن الفارس وعبد الله بن نصر الله وعلي بن اخوان والسيد مكي المشقاب في المالية والجمارك، ولن أدخل في التفاصيل؛ إذ ليس هنا مكانها.

ولكن ثمَّة نقطة لعلها غابت عن بال صديقي العزيز أبي طاهر، وهي أن اتخاذه تواريخ الوثائق الثلاث التي فحصها واستنتج منها أنها توافق فترة حكم آل حميد، هذا صحيح، لأن الوضع في هذه الفترة قد استقر واطمأن الناس على ممتلكاتهم، فشرعوا يتبايعون ويتشارون، ويوقفون، ويهبون، إذ ليس لديهم ما يخشون منه، ولهذا السبب ظهر العديد من وثائق البيع والوقف في تلك الفترة، ومما غاب عن باله، أيضًا، أن قبيلة بني خالد ومنها آل حميد كانت هي التي تحمي قوافل التجارة والحج وغيرها؛ المتنقلة عبر الصحراء، حتى زمن متأخر، حيث ساد الأمن في العهد الحالي([28]). أما اتهام العهد الذي ردت فيه المغتصبات بأنه العهد الذي اغتصبت فيه، فأمر يعجز عن استيعابه عقلي القاصر.

____________

([1]) بنو خالد وعلاقتهم بنجد، عبد الكريم عبد الله المنيف الوهبي، دار ثقيف للنشر والتأليف، الرياض، الطبعة الأولى، 1410هـ، 1989م، ص: 120.

([2])نفسه ص: 129.

([3])نفسه، ص: 129.

([4])نفسه، ص: 130.

([5])نفسه، ص: 130.

([6])نفسه، ص: 130.

([7])نفسه، ص: 132.

([8])نفسه، ص: 133.

([9])نفسه، ص: 136 – 137.

([10])نفسه، ص: 138.

([11])نفسه، ص: 139.

([12])نفسه، ص: 139.

([13])\ ص: 179.

([14])مجلة الوثيقة: دورية نصف سنوية تصدر عن مركز الوثائق التاريخية بدولة البحرين.

([15])مجلة الوثيقة العدد الأول، السنة الأولى، رمضان 1402هـ، يوليو 1982م، ص: 93 – 97.

([16])بنو خالد وعلاقتهم بنجد، سبق ذكره، ص: 179 – 180.

([17])ابن لعبون؛ شيخ المؤرخين، ومؤرخ الدولتين، صحيفة الشرق الأوسط، الخميس، 24/1/1440هـ، 24/1/2018م،العدد: 14555، وعنوان المجد في تاريخ نجد، الشيخ عثمان بن عبد الله بن بشر، النجدي الحنبلي، حققه وعلق عليه عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ، مطبوعات دارة الملك عبد العزيز، الرياض، الطبعة الرابعة، 1402هـ، 1982م،، جـ1/17.

([18])نفسه، ص: 132.

([19])نفسه، ص: 139.

([20])ديوان الشيخ جعفر الخطي، تحقيق عدنان السيد محمد العوامي، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى 2005، جـ1/268.

([21])نفسه جـ2/286.

([22])النقط مكان كلمة مطموسة، لا تتجاوز كلمة واحدة.

([23])أنوار البدرين في تراجم علماء القطيف والأحساء والبحرين، الشيخ علي بن الشيخ حسن البلادي، مطبعة النعمان، النجف الأشرف، 1380هـ 1960م، ص: 337.

([24])تخميس ابن مجلي الخطي، تحقيق الشيخ فرج العمران، مطبعة النجف،1387هـ.

([25])شعرا القطيف، الشيخ علي ابن الشيخ منصور المرهون، مطبعة النعمان، النجف، 50هـ ص: 51.

(([26]دليل الخليج، ج. ج. لوريمر، طبعة جديدة معدلة ومنقحة، أعدها قسم الترجمة بمكتب أمير دولة قطر، وطبع على نفقة الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر، القسم التاريخي، دون تاريخ ، جـ3/1422.

(([27] الرابط: https://chl.li/VY9CF

(([28] انظر: يوميات رحلة عبر الجزيرة العربية من القطيف في الخليج، إلى ينبع في البحر الأحمر، جورج فورستر سادلير، ترجمة عدنان السيد محمد العوامي، مراجعة عبد المجيد سعيد الجامد، مؤسسة النتشار العربي، بيروت، ودار أطياف، القطيف 2016هـ، ص: 58 وما بعدها.

  

اقرأ الحلقة الأولى

[تعقيب على تعقيب 1 من 2] ظلمت آل حميد أيها الصديق الجنبي..!

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×