[تعقيب على تعقيب 1 من 2] ظلمت آل حميد أيها الصديق الجنبي..! أملاك آل آبي السعود عادت إليهم في زمن حكم بني خالد

عدنان السيد محمد العوامي

قرأت تعقيب أخي وصديقي الأستاذ عبد الخالق الجنبي، المنشور في صحيفة صُبرة الإلكترونية بتاريخ 25 يناير الماضي([1])، بعنوان: (ملاحظات حول مقال الأستاذ العوامي – أملاك آل أبي السعود سُلبت في حِقبة آل حميد، وليس في حِقبة حكم العثمانيين والوثائق تؤكد).

وكان ذلك تعقيبًا ما عقبت به على التقرير الذي نشرته الصحيفة نفسها عن سوق الخميس، وضمنته ثلاث وثائق حول إرجاع أملاك مغتصبة لآل أبي السعود، وخلاصة رأيه فيها أن من اغتصبها هم آل حميد من قبيلة بني خالد، وليس العثمانيين.

استهل الأخ الجنبي تعقيبه بالثناء على جهودي المتواضعة، وعدها (عملية تنويرية) متجاهلا جهوده الكبيرة في خدمة تاريخ المنطقة وتحقيقاته القيمة لتراثها، وهي إحدى سجاياه الخيِّرة، فأشكر له هذا الإطراء، وإن كنت لا أستحقه. كما أشكر له تفضله بإتاحة الفرصة لي لتسليط الضوء على ما عاشته القطيف والأحساء أثناء ذلك العهد من معاناة.

عبدالخالق الجنبي

نزاع القرص

القُرْص المتنازع عليه بين الأخ الأستاذ عبد الخالق، وبيني هو الزمن الذي اغتُصبت فيه النخيل الآيلة للشيخ أبو السعود (رحمه الله)، الذي تعود النخيل المغتصبة إليه، وهو يرى أنه الجدُّ الأعلى للأسرة، ويَفتَرِض مولده في النصف الثاني من القرن الحادي عشر، وأدرك القرن الثاني عشر؛ (بدلالة أنّ أخاه محمد بن محمد بن بيات ورد كشاهد في وثيقة وقف لأحد أفراد أسرة آل عمران كتبت في 1111 هـ.)، وأن الوثائق في رأيه: (لا تشير إلى سلب العثمانيين لهذه الأملاك من آل أبي السعود، ولا تعنيهم أصلاً، فالاحتلال العثماني لم يكن له وجود أثناء تكوّن هذه الأسرة الكريمة، والتي تكوّنت بعد سقوط الدولة العثمانية بعقدٍ أو أكثر . . .).

بينما أرى أن من اغتصب النخيل هم العثمانيون، وأن آل حميد مِن بني خالد هم من رد تلك المغتصبات عليهم، فأقترح – قبل الولوج إلى المناقشة – أن نضع معيارًا نحتكم إليه في ترجيح أي من الرأيين على الآخر، وأرى أن أفضل المعايير هو عرض سيرة الطرفين، ومسلكهما في إدارة شؤون الحكم، ومدى رضى الأهالي عنه، وقبولهم به، أو تضررهم منه ورفضهم له.

عودة إلى ما سبق

ومن أجل ذلك أود أن أذكر بأن الوثائقَ المختلف في تفسيرها كان عرضها في سياق تعقيبي على تقرير صبرة عن سوق الخميس في القطيف، وقد تناولت فيه حادثةً تاريخية وقعت في ذلك السوق، هي الواقعة المعروفة في القطيف (بوقعة الشربة، أو سنة الشربة، أو سنة الحصارة)، ولأن تلك الواقعة حدثت في العهد العثماني، فقد لزمني عرض سيرة السلطنة العثمانية منذ بداية تأسيسها على يد مُنشِئها سليمٌ الأول، ابن با يزيد الثاني، مرورًا بأبرز سلاطينها؛ سليمان القانوني، الذي دخلت القطيف تحت سيطرته وجبروته بطلب من أعيانها، (ولات حين مندم)، ثم جيشها ونخبتُه (الانكشارية) المكون من الأطفال والصبية المختطفين من أحضان أمهاتهم([2])، وقدمت عينة من سيرة سليمان الخادم، وفظائعه في مصر واليمن، ومكة، منتهيًّا إلى معاناة أهالي القطيف في عهد ذلك السلطان، وأهونها مصادرة الممتلكات، وحرمان الورثة من تركة موتاهم، وثورات الزعماء المحليين مسنودين بالأهالي عليهم. إلى آخره، فلنر سيرة خلفهم المتهمين باغتصاب ممتلكات الأهالي، وهم آل حميد من بني خالد.

ظهور آل حميد في المنطقة

يرى أخي الأستاذ الجنبي أن أسرة آل أبي السعود لم تظهر للوجود إلا في أواخر القرن الحادي عشر الهجري، وهي فترة كانت المنطقة فيها ميدان صراع بين العثمانيين، المتهمين باغتصاب نخيل آل أبي السعود بزعمي، وآل حميد من بني خالد، المتهمين باغتصاب تلك النخيل في رأيي أخي الأستاذ الجنبي.

ولأن المعيار المقترح لترجيح أي من الرأيين على الآخر هو سيرة الطرفين، ومسلكهما في معاملة الأهالي ، وقد عرضت – فيما مضى – سيرة العثمانيين، فلنستعرض هنا سيرة الطرف الآخر، وهم آل حميد من بني خالد، وتجنبًا للإطالة لن أدخل في تفاصيل الروايات المتضاربة في كيفية وصولهم إلى المنطقة، وأكتفي بملاحظة واحدة عنهم، وهي أن آل حمييد فرع من قبيلة بني خالد وهي قبيلة عربية موطنها جزيرة العرب، وحرفتها الرعي، ولا جدال في أن الساحل الشرقي من جزيرة العرب كان خصيبًا، غنيًّا بالمراعي، فهي ترتاده فيمن يرتاده من القبائل العربية، وما يهمنا هو ظهورها كقوة ذات نفوذ مؤثر ملحوظ، وهذه القوة المؤثرة والنفوذ الملحوظ ظهرت بوادرهما بإصهار زعميها ابن حميد إلى الشيخ مقرن بن زامل الجبري، حاكم الأحساء والقطيف والبحرين، الذي قاوم البرتغاليين فقتلوه، واستولوا على إمارته سنة 927هـ، 1621هـ([3])، وهو الذي أخذت القبيلة اسمها منه.   

استيلاء آل حميد على الحكم في المنطقة

يرى مانداﭬـل Mandavelle أن بني خالد كانوا يحكمون الأحساء عندما غزاها العثمانيون، واستولوا عليها، ويشكك الأستاذ عبد الكريم عبدالله الوهبي في ذلك، ومع ذلك يرى في هذه الرواية (دلالة أكيدة على قوة نفوذ بني خالد) ([4])، وله كل الحق في هذا الشك، فالظاهر أن هذا النفوذ سببه كثرة القبيلة عددًا وعدة، وأن قوة شخصية ابن حميد ووجاهته، مكنتاه من تزعم القبيلة وقيادتها، وانضواء قبائل أخرى تحت لوائها، وإلا فالمعروف أن المنطقة – بعد مقتل حاكمها مقرن، وزوال إمارة الجبريين – استولى عليها راشد بن مغامس حاكم البصرة والقطيف والأحساء، وبقيت تحت سلطته حتى بعد استيلاء سليمان القانوني على بغداد وتسليمه مفاتيح البصرة إليه، وأنعم عليه بولاية البصرة، وبذلك دخلت المنطقة كلها تحت السيطرة العثمانية([5]).

متى ظهر العثمانيون في القطيف، ومتى انسحبوا؟

يُرجِع بعض المؤرخين الوجود العثماني في الأحساء إلى عهد مقرن بن زامل الجبري، مستندًا إلى اشتراك جنود أتراك معه في مقاومة الغزو البرتغالي للبحرين سنة 928هـ([6])، ويرجع الباحث عبد الكريم الوهبي – استنادًا إلى مانداﭬـل Mandavelle – وجودهم إلى سنة 957هـ([7]). ويتبلور وجودهم – بصورة أوضح – بظهور الأسماء والألقاب والمصطلحات الإدارية التركية منذ سنة 959هـ، فيظهر اسم سنجق الأحساء وواليه مصطفى باشا، وأمير الأمراء، وأمير لواء القطيف والعيون، وفاتح باشا، ومتصرف اللواء. إلخ([8]).

كما يؤكده إصدارهم (قانون نامه لواء القطيف) الشكلي([9])، الذي أصدرته الدولة لمنع ولاتها، ظاهريًّا، من الاستيلاء على تركة المتوفين من شيعة القطيف، وقد لاحظ الوهبي أن أهم السمات المشتركة بين الولاة العثمانيين هي قصر مددهم، وشدة الصعوبات التي واجهوها في المنطقة، فيعد من أهمها الثورات المتكررة عليهم من السكان المحليين، وتمرد الجند، وانضمامهم إلى الثوار بسبب المعاناة من الضرائب المتعددة، وارتفاع الأسعار، ووطأة التجاوزات التعسفية على الأهالي([10]).

ويواصل الأستاذ الوهبي عرضه للوثائق والتقارير العثمانية الصادرة بشأن طلب الإمدادات لتعويض النقص الحاصل بسبب ثورات الأهالي، وتمرد الجند، أو استقلال الولاة بالحكم، ولعل من المناسب أن نلم بنبذة عن أولئك الولاة المستأثرين بالحكم، وأبرزهم حسين باشا أفراسياب والي البصرة، وكيفية أخذه القطيف والأحساء، وإن كان فيه شيء من الإطالة للضرورة أعتذر عنه:

في بداية القرن الحادي عشر الهجري، ونتيجة لتردي الأوضاع ثارت القبائل المحيطة بالبصرة، وعلى رأسها ابن عليان أمير قبائل الجزائر، ضد والي البصرة العثماني علي باشا فغادرها وسلمها إلى كاتب الجند أفراسياب، وقد بقي فيها مستقلا بالحكم حتى وفاته سنة 1011هـ، 1602م، فخلفه ابنه علي بوصية منه، واستمر علي في الحكم حتى شهر شعبان سنة 1055هـ سبتمبر 1645م، فتولى بعده ابنُه حسين باشا إفراسياب، وكان قويًّا ذا طموح كبير، ولكنه لم يكن كأبيه حنكة وروية، فاستبد بالحكم، فاستاء منه الأهالي فحرضوا عليه عميه أحمد آغا وفتحي بك، وكانا طامحين للسلطة فأخذا يعملان ضده، ففطن إليهما ونفاهما إلى الهند، ولكنهما دخلا الأحساء، وطلبا الحماية من واليها، فأكرمهما، وضَمِن لهما الحماية، فأخذا يرفعان الشكايات ضده إلى إسطنبول وبغداد، فأزعجه ذلك، واعتبره عملا عدائيًّا موجها ضده، فقرر الاستيلاء على الأحساء، مستعينيًا بالقوى المحلية الثائرة على الدولة في المنطقة، وعلى رأسها قبيلة بني خالد، فعقد معها حلفًا([11]) يسميه محترفو السياسة (حلف التقاء مصالح), في هذه الأثناء استغلت الدولة العثمانية الخلاف بين حسين باشا وعميه فأوعزت لواليها في بغداد، مصطفى باشا، باستعادة البصرة، وتسليمها إلى عمَّي حسين باشا، فحاول هذا التصدي للقوات العثمانية لكنه فشل، فلجأ إلى المناطق الخاضعة لإيران، فاستعاد العثمانيون البصرة سنة 1064هـ 1654م، بترحيب من الاهالي، ورغبوا تولية أحمد باشا، ولكن قيام أهالي البصرة وما حولها بالثورة على مرتضى باشا انقلب لصالح حسين باشا، ونتيجة لثورة الأهالي هذه وتخلي بعض قوات مرتضى باشا عنه، وقتله وهو متجه إلى بغداد خلا منصب البصرة، فاضطر أهاليها لاستدعائه، فانتهز الفرصة وعاد إلى البصرة، وشرع في تصفية المعارضين لسلطته، ومصادرة أموالهم، وأخذ يتودَّد إلى العثمانيين ويتزلف إليهم، حتى رضوا عنه وفوضوا إليه ولايتها رسمِيًّا، فقوي مركزه، ولكن عينه ما زالت متجهة جنوبًا حيث واحة القطيف والأحساء، وسرعان ما ساعدته الأوضاع على اقتناصها مستفيدًا من تحالفه مع براك شيخ بني خالد.

نترك باقي الحديث للأستاذ الوهبي: (ولتنفيذ مخططه  باشر باحتلال القطيف برًّا وبحرًا عام 1073هـ، 1663م، فسير إليها قوات برية وبحرية استطاعت دخول البلدة، واحتلالها بالقوة، وعانى أهل القطيف من وحشية وفساد القوات التي أعلنت مطالبها الجائرة، وفرضتها على الجميع، وبهذا أصبحت ضمن سيادة حسين باشا، فعين على ولايتها أحد أتباعه، وهذا الاحتلال هو الذي أورده الكعبي في معرض حديثه عن أطماع حسين باشا)([12]).

وما ذا بعد؟

(ليكمل حسين باشا مخططه استدعى حليفَه براك بن غرير شيخ بني خالد، واتفق معه على إبعاد محمد باشا عن ولاية الأحساء وضمها إليه وزحفت قوات حسين باشا على بلدة الأحساء مقر الولاية واحتلت المبرز، وجددت مع أهلها مأساة القطيف، ثم واصل جيش حسين باشا المسير إلى بلدة الأحساء بقيادة شخص يدعى سليمان يدعمه براك آل حميد الذي مكنه مركزه المتنامي في المنطقة في تلك الفترة من الإمساك بزمام المبادرة، فسير الأحداث لمصلتحه) ([13]).

عجيب! أين ذهب – إذن – دفاعك عن بني خالد؟ وانحيازك إليهم ضد العثمانيين؟ أليس برَّاك هذا حليفُ العثمانيين هو زعيم بني خالد؟ ها هو يبطُش كما يبطشون، وينهب كما ينهبون. لم المحاباة والإنحياز؟ وباء تجر وأخرى لا تجر؟. أمَّا زعمك بأنه حلف مصلحة فغير مقنع، وخير لك من المماحكة أن ترفع الراية البيضاء وتسلم، فلن تجديَك المكابرة.

يا سادتي، لا أنا ولا غريمي الصديق العزيز الأستاذ الجنبي معاصر لتلك الأحداث، وإنما نحن نغترف مما لدينا من مصادر ووثائق، والخلاف يكون في القراءة بتعبير العصر، أو التفسير، بالتعبير القديم، وما لدي من مصادر تقول إن برَّاكًا لم يتحالف مع الدولة العثمانية، وإنما تحالف مع المتمردين عليها متربصًا سنوح الفرصة لطردهم معها، وإنقاذ البلد من شرٍّهما، فهاك اقرأ:

(ونتيجة لعدم تكافؤ القوة قررمحمد باشا والي الأحساء عدم المواجهة والتحصن في البلد، فحاصرته قوات كل من براك وسلمان، ولخشيته من حصول التمرد بين الأهالي، وإدراكًا منه لصعوبة موقفه اتصل ببراك وفاوضه على تسليم البلد بشرط سلامة الجميع، فالتزم براك بذلك الشرط، وجرت مراسيم النسليم بعد أن وُقِّعت وثيقة بين سلمان ومحمد باشا بحضور مشايخ البلد وأعيانها…

ويبدو أن محمد باشا قد فضل تسليم البلد إلى براك شيخ بني خالد المقبول من الأهالي بصفته ابنَ المنطقة، وشيخ عشائرها المتزن، بهدف سلامة أهالي البلد، وإبقاء مجال العودة إلى ولايته ممكنًا، بدلا من أن يسلمها لوحشية قوات خصمه الأول حسين باشا، ومن الأرجح أن محمد باشا كان يهدف – من تسليمه البلد بتلك الطريقة – إلى كسب الوقت، واستمالة براك إليه بتعيينه نائبًا عليها من قبله لكي يمنع سقوط البلد في يد سلطة الأفراسياب رسمِيًّا، ريثما يتمكن من أخذ أمر من السلطان بالعودة إلى حكمه، وذلك بمساندة صديقه شريف مكة.

حاول سلمان وقواته السيئة السمعة دخول البلد، فمنعهم براك، واستولى على أسلحتهم، بالقوة وأجبرهم على مغادرة المنطقة، وأعلن نفسه على أثر ذلك حاكمًا مستقلاً بالأحساء، وذلك سنة 1074هـ، وكان أساس حكمه العدل وتقريب أهل العلم، والفضل وإعزازهم)([14]).

هل وضحت الصورة؟ هل تبين من هو الدموي المغتصب؟ ومن هو المتزن المقبول لدى الأهالي؟ كنا –  في القطيف – نردد قولاً منغمًا لعله شطرُ بيت من أغنية شعبية: (وين أفارگ بيتكم والتمُر براﮔـي؟)([15])، هذا في القطيف، وتمرُها أقلُّ جودة من تمر الأحساء، فما ظنك بالإحساء؟ عاد يحي آغا فاستعاد الأحساء، واستبد به الغرور فتطلع نحو عُمان فلندعه وشأنه، وننتظر عودة برَّاك إلى الأحساء ثانية بعد خسارته لها:

(بعد أن اشتد صراع حسين باشا مع العثمانيين استدعى صهرَه يحيى آغا من الأحساء لمساعدته في معالجة الموقف والاستعداد لمواجهة حملة إبراهيم باشا المنتظرة، التي قامت سنة 1076هـ 1666م، وعين بدلا منه عمر باشا الحليبي في الأحساء – استغل براك تلك الأحداث لاسما خروج يحيى من الأحساء، وعدم استطاعة حسين إرسال قوات إصافية إلى الأحساء في تلك الفترة؛ لانشغاله بمواجهة حملة إبراهيم باشا، فأعلن الثورة، وبسط يده على معظم المنطقة. أدرك عمر باشا صعوبة موقفه واستحالة وصول الامدادات من البصرة فقرر تحصين البلد وطيَّن أبواب سورها، فحاصره براك بعد أن رفض التسليم.

طال الحصار على قوات عمر باشا وقلَّ قوتُها، فاضطرت إلى أخذه من الأهالي عن طريق القوة مما أدى إلى استيائهم. أما بالنسبة للقطيف في تلك الفترة فيتحدث عنه الشهابي بقوله:

وكانت القطيف في أيديهمُ

أنعم فيها خصمهم عليهمُ

من قبل ذا حين أتاه العسكرُ

لعل في هذا الأمور تسترُ

ويفهم من هذا أن حسين باشا قد ولى على القطيف أحد أتباع والي الأحساء السابق محمد باشا في محاولة منه لاسترضاء العثمانيين إثر قيام حملتهم على البصرة سنة 1076هـ، 1665م، وبعد أن عُقِد الصلحُ بين حسين والعثمانيين اتجه محمد باشا إلى ولايته في الأحساء تنفيدًا لشروط الصلح بواسطة السفن بصحبة مائتان (كذا!) من الجنود لحمايته.

(ومع أن حسين قد ناصب صاحب الأحساء العداء بعد الصلح، ولم يسلمه بقية المناطق، فإن من الواضح أن كلا من حسين ومحمد باشا لم يكونا قادرين على السيطرة على بقية المنطقة، وخصوصًا بعد تمكن براك من السيطرة عليها، وفرض حصاره الطويل على قوات حسين باشا التي قاومته في بلدة الأحساء. قرر حسين نتيجة لصعوبة موقف قواته في بلدة الأحساء، وتنفيذًا لشروط صلحه مع العثمانيين تسليم البلد إلى محمد باشا بواسطة أخيه عيسى باشا الذي احتفظ بأخيه رهينة عنده تحسُّبًا لما قد يحدث منه. بعد تسليم عيسى باشا اتجه عمر باشا بقوته إلى البصرة، ولم يتمكن عيسى باشا من الاحتفاظ بالبلد لعجزه عن المقاومة، إذ سرعان ما طالب براك بتسليمها له بصفته نائبًا عليها من قبل أخيه محمد باشا، فسلم عيسى البلد إلى براك بدون مقاومة، واتجه بأمان إلى القطيف، وبهذا نجح براك في الاستيلاء على بلدة الأحساء للمرة الثانية، ولم يبق خارج سيطرته من المنطقة سوى القطيف، وذلك في منتصف سنة 1077هـ، 1667م، ويمكن اعتبار هذا التاريخ بداية لإمارتهم)([16]).

بنو خالد في القطيف

مع أنَّ آل حميد قد بسطوا سيطرتهم على بلاد الأحساء قاطبة في منتصف سنة 1077هـ، 1667م،  إلا القطيف فقد بقيت في أيدي العثمانيين، ولم يضموها إليهم إلا لاحقًا، فالبدء يجب أن يكون ببداية ظهورهم فيها، ولكن قبل البدء بعرض الأحداث يجمل التنبيه إلى أن سعدونًا الذي يرد ذكره هنا سابق على سعدون بن محمد بن غرير (1103 – 1135)، الذي عين له وزيرًا شيعيًّا في القطيف اسمه ناصر من ولد مروان بن الحكم([17])، فسعدون هنا يمكن اعتباره الأول، تمييزًا له عن سعدون بن محمد بن غرير حتى لو كان هو نفسه، إذ لا دليل لدي على أنه هو.

كان سعدون (الأول) ابن حميد آل حميد الخالدي قد ولاه العثمانيون لواء البادية استرضاء له، لكنه ثار عليهم، ومنذ ذلك التاريخ بقيت المنطقة ميدان تنازع بين سعدون الأول والعثمانين. فلنتابع نشاطه لنتعرف العلاقة بينه وبين من ولاه، وعلاقته بأهالي القطيف:

(كان سعدون آل حميد على رأس بني خالد في فترة وصول العثمانيين للمنطقة، ويبدو أن بني خالد كانوا مضطرين للتعاون مع العثمانيين منذ البداية بسبب قوة العثمانيين، وعدم قدرة بني خالد على المقاومة، فكان من نتائج هذا التعاون قبول الشيخ سعدون أن يتولى لواءً في أحد ألوية المنطقة هو لواء البادية، بالرغم من هذا التعاون إلا بني خالد كانوا ينتظرون أي فرصة مناسبة للثورة والتمرد، فقد ثاروا بعد شعورهم بضعف الثعمانيين، وقلة جنودهم في المنطقة على إثر حملة الأحساء الفاشلة على البحرين وما أدت إليه من أسر حاكم الأحساء مصطفى  ومعظم جنوده سنة 966هـ 1559م) ([18]).

لأن الأستاذ الوهبي لم يعط تفاصل عن مصطفى هذا، ولأنني سبق أن تعرضت لحادثة انتحار مصطفى، وليس أسره، كما عند الأستاذ الوهبي ولارتباطها بموضوعنا فمن الضروري الوقوف عنده. في مقال لي عنوانه: ( الحركات الوطنية في القطيف والأحساء والبحرين في العصر البرتغالي – تأمُّلات في الوثائق والمخطوطات) كتنبت الآتي:

(أما القطيف فواضح أن الأتراك قد أحكموا قبضتهم عليها منذ ذلك التاريخ، وما نقف عليه من أنباء الصدام فيها فإنما يلاحظ وقوعه بين الأهالي والأتراك، ففي سنة 1559م 966 هـ، أقدم الوالي العثماني مصطفى باشا على غزو البحرين، لكنه فشل في احتلالها، وأبيد معظم رجال الحملة، وأسر الباقون، وصودرت السفن المشاركة فيها، وبسبب هذا الفشل انتهت حياته بالانتحار بعد أن عُزل من منصبه([19]). وقد تبدو هذه الحادثة خارجة عن سياق حديثنا عن الحركات التحررية الوطنية؛ لأنها – في الظاهر – صراع بين القوى الخارجية نفسها: بين مصطفى باشا والي الأحساء ومراد شاه حاكم البحرين([20]) مستعينًا بمرتزقة برتغاليين لحمايته، غير أن رسالة عثمانية مؤرخة في 18 رمضان 967هـ موجهة إلى والي  الأحساء تعيننا على فهم السبب الذي من أجله جرَّد مصطفى باشا حملته على البحرين، واعتمادًا على تعليلنا لمغزى الرسالة هذه يصحُّ أن تدخل هذه الحادثة ضمن حلقات الصراع الوطني، ومقاومة الأهالي لقوى الاحتلال، فهي تكشف عن أنَّ مصطفى باشا هذا كان قد صادر أموال أحد تجار اللؤلؤ الأثرياء من أهالي القطيف واسمه جمعة بن رحال (سماه المترجم جمعة بن رمال)؛ مما اضطره إلى الفرار إلى البحرين مصطحبًا معه جميع سفن الغوص وتجار اللؤلؤ؛ مما تسبب في شل تجارة اللؤلؤ في القطيف([21]).

وعلى الرغم من ادعاء الرسالة أن الأوامر الصادرة إلى الوالي تقضي بعدم التعرض لأموال ابن رحال، ولا لأموال أيٍّ من أقربائه، والاكتفاء بأخذ ما عليهم من حقوق قِبَل خزينة الدولة، فإنها أشارت إلى تجاوز مصطفى على أموال ابن رحال فصادرها خلافًا للتعليمات. فإذا تذكرنا  ما سلف من الحديث عن صدام محمد بن رحال، ومحمد بن مسلَّم مع حاكم الأحساء مانع، ولجوئهما إلى البحرين، ثم تطوعهما بتجهيز أسطول برتغالي للاستيلاء على القطيف، وتَذكَّرنا، أيضًا، ما قلناه عن صلة مانع بالعثمانيين بعد تسليم والده راشد البصرة لهم – لا نستبعد أن يكون غزو مصطفى باشا للبحرين عملية تعقب لآل رحال وأتْباعهم، لمنعهم من تكرار فعلهم السابق واستعمال ثرواتهم في استئجار الأسطول البرتغالي المتربص . . . )[22]).

نواصل: (وقد تمكن بنو خالد بزعامة سعدون في ثورتهم تلك من الاستيلاء على أجزاء عديدة في المنطقة، وجعلوا المبرز  مقرًّا لحكمهم، وحاولوا ضم بقية المنطقة والاستيلاء على قلعة الأحساء، ولكنهم فشلوا في ذلك وقد جاءت بعض تفاصيل تلك الثورة في حكم موجه إلى أمير أمراء الأحساء بتاريخ 23 شعبان 967هـ، 19 مايو 1560م، يتعلق بكتاب ورد منه إلى السلطان يذكر فيه أنه بعد هزيمة مصطفى باشا في البحرين ثار سعدون حاكم اللواء “200،000 أقجه”، وادعى ملكية الأحساء ووزع الأراضي على عشائره وأتباعه من البدو بختمه الشخصي، وقد وضع يده على بعض القرى والأرياف، واتخذ المبرز قاعدة لسلطته، وبينما عثمان حاكم لواء العيون المسؤول عن المقاطعة في غياب حاكمها العام وحسين الدفتر دار بالإنابة يفاوضان سعدون لحل النزاع ألقى القبض عليهما، وطلب  “600،000 أقجه”، فدية لهما، وأن سعدون لا يزال يقوِّي من مكانته، وأعلن أن الأحساء بأكملها ملكًا له، وأنه سيسترجعها تدريجيًا، وهو يحاول الآن الاستيلاء على الأحساء نفسها، وأنهم في حاجة عظيمة إلى قوات من البصرة لصد سعدون)([23]).

يتبع غداً الأحد

———–

([1])الرابط:  https://chl.li/yfNf9   

([2])الإنكشارية جريمة العثمانيين التي انقلبت لعنة عليهم، وليد فكري، سكاي نيوز العربية، 23 ديسمبر، 2019.

([3])بنو خالد وعلاقتهم بنجد، عبد الكريم عبد الله المنيف الوهبي دار ثقيف للنشر والتأليف، الرياض، الطبعة الأولى، 1410هـ، 1989م، ص: 110.

([4])نقسه، ص: 111.

([5])عرضت بالتفصيل إلى هذه المسألة في مقالة (الحركات الوطنية في القطيف والأحساء والبحرين في العصر البرتغالي في القطيف والأحساء والبحرين – تأملات في الوثائق والمخطوطات، مجلة الواحة ع 9، رمضان 1418هـ 1998م، وأعدت نشره في كتا: رحلة يراع، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، ودار أطياف القطيف، الطبعة الأولى، 1440هـ، 2018م، ص: 13.

([6])بنو خالد وعلاقتهم بنجد، عبد الكريم عبد الله المنيف الوهبيمرجع سابق، ص: 119- 120.

([7])نفسه، ص: 122.

([8])نفسه، ص: 123.

([9])قانونة نامه لواء القطيف لعام 959ه، فيصل الكندري، المجلة العربية للدارسات العثمانية، منشورات مؤسسة التميمي للبحث العلمي، والمعلومات، زغوان، تونس، العدد 15، و16، اكتوبر – نوفمبر، 1997م، ص: 357.

([10])بنو خالد وعلاقتهم بنجد، عبد الكريم عبد الله المنيف الوهبيمرجع سابق، ، ص: 122.

([11])نفسه، ص: 161 – 162.

([12])نفسه، ص: 161 – 162.

([13])بنو نفسه، ص: 162.

([14])نفسه، ص: 164 – 165.

([15])المعنى: أنى لي أن أفارق بيتكم، والتمر برَّاقٌ فيه؟

([16])بنو خالد وعلاقتهم بنجد، عبد الكريم عبد الله المنيف الوهبي، مرجع سابق، ص: 170 – 172.

([17])رحلة مرتضى بن علوان إلى الأماكن المقدسة، والأحساء والكويت والعراق، 1120 – 1121هـ 1709م، تحقيق د. سعيد بن عمر آل عمر، إصدار مركز دراسات الخليج والجزيرة العربية، جامعة الكويت، 1418هـ 1997م، ص: 79 – 80.

([18])بنو خالد وعلاقتهم بنجد، عبد الكريم عبد الله المنيف الوهبي، مرجع سابق،ص: 127.

([19])رسالة إلى حاكم البحرين مراد شاه، مجلة الوثيقة، العدد الأول، رمضان 1402هـ، يوليو 1982، ص: 149، وانظر أيضًا ص: 145 – 146، و148 منها.

([20])يتَّضح – من نعته بالشاه – أنه إيراني، ولا عبرة بزعم السلطان أنه ولَّاه البحرين، فمثل هذه الدعاوى مألوفة عن العثمانيين.

([21])وثائق تاريخية عن صيد اللؤلؤ في البحرين، د. علي أبا حسين، وب. ك. نارين، مجلة الوثيقة العدد:10جمادى الأولى 1987م، ص: 121، حكم موجه إلى أمير أمراء الأحساء.

([22])رحلة يراع: نشر مؤسسة الانتشار العربي، دار أطياف، القطيف، الطبعة الأولى، 1440هـ، 22018م، ص: 17 – 19، ومجلة الواحة العدد 9، رمضان 1418هـ 1998م.

([23])بنو خالد وعلاقتهم بنجد، عبد الكريم عبد الله المنيف الوهبي، سبق ذكره، ص: 127 – 128.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×