سيرة مرض لا ينام

أثير السادة*

يبتكر الصديق حسن دعبل من وحشته في ليالي المرض برزخا لغويا شفافا وهو يأخذنا معه في تماوج خواطره، ومخاوفه،و قلقه المفتوح على اتساع “وحشة البئر”، هذه الاستعارة التي تأخذنا قريباً من أحزان الراحلين.. مشغولا بتذكر لحظات الفرح وهو يزيح الغطاء عن مشاعره التي لم يرها أحد في لحظة التسربل بالأردية الزرقاء والبيضاء.

هي مرثية لحي، حاول أن يلقن المرض درسا أدبيا بعد أن أخطأ طريقه إليه، فالسرير ليس إلا قبر مستعار بحسب الدعبل، والأنبوب الأبيض المتدلي لتمرير الدواء ليس إلا مشنقة، حتى نداء “الشارة الوظيفية” في كل زيارة سيستحيل في ذاكرة المرض إلى نفخ في الناقوس، استعارات لا يحصيها إلا الألم في هذا النص، حيث صورة الموت تستيقظ على وقع الإعلان عن إصابته بواحد من أمراض اللوكيميا.

في سيرة المرض، يتبادل الخوف من لحظة الانكسار موقعه مع الخوف من الموت كلما تصاعدت موجة الألم، هناك ينسى كل شيء إلا الدموع المذخرة في عيون بناته الأربعة وأمهن خديجة، يطير به التشاؤوم في مطلع الأوجاع إلى فتح نافذة على الكثير من الصور السوداوية التي تريد أن تتعجل الجواب عن مرض مازال في أوله، تلك هي عينها وحشة البئر التي أحالت حتى النهارات مكابدة طويلة كما هي الليالي التي غادرتها فسحة النوم.

هذه المراوحة بين الموعد والموعد، وبين الدواء والدواء، هي التي سترسم المسافة بين الحياة والموت، وبين المحطات السردية التي ستتكيئ على اللغة أكثر من شيء آخر لحملنا على التأمل في مرايا هذه المناجاة الطويلة التي ستأخذنا إلى طريق الأمل، حيث تكاتف العائلة والتفاف الأصدقاء أول الدواء، وآخره ابتهالات وصلوات، وبين هذا وذاك طبيب يبلل مرضاه بمطر من التطمينات.

ستصبح فاصلة “التخدير” داخل النص ذريعة الدعبل للابحار في ذاكرته، فهذا الغياب المؤقت سيحملنا إلى سيرة المكان التي يحبها ويكررها، إلى زمن أشرعة السفن في البحر، وأسقفية دارين، إلى العملات الساسانية، وكل المواضيع الأثيرة التي تشاغل في البحث فيها وعنها، لا يمكن أن تقرأ لأبي صبا ولا ترى ذكرا لمراكب الغوص والسيف و”بحة النهام”، وفي وحشة المرض كان يهرب إليها راكضاً من زحام الطعون الطويلة للألم.

“وحشة البئر” سيرة مرض لا ينام، وأمل لا ينقطع، وكائنات صيرها الله لترويض الألم، وسيرة قاص لون الليل بلذيذ حروفه بعد أن غادر الألم إلى خزانة الذاكرة.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×