مقهى وكوب إهانة كامل الدسم

محمد عبدالمحسن آل يوسف

أظنُّ أن مقهانا الصغيرَ ينقصُه بعضُ الموادِّ التي يتطلبُها أيَّ مشروعٍ يعتمدُ على تنوعِ الأذواقِ ، موادُّ منزوعةُ الكافِيين (Decaf) حَليب منزوعُ الدَّسَم (Skim milk) ثلاجةٌ لِعرضِ الحَلوياتِ ، هَكذا فِي أغلبِ الظنِّ يكونُ مَشروعُنا مُتكامِلًا ، فَالعمِيل يَهفُو لِتلكَ الخدماتِ المُتكاملةِ.
تَختلفُ الأهدافُ باختلافِ الثقافاتِ , إذ لا يُمكنُ أن تَجدَ مثلَ ذلكَ الحوارِ أعلاهُ على رأسِ الأولوياتِ في الدُّولِ الناميةِ التِي تَهتمُّ بإرضاءِ العَميلِ , لَا نقولُ بِأنَّ ذَلك لَيس مُهِما بَل ليسَ عَلى رأسِ الأولوياتِ, فكلُّ تِلك الأمورِ مُهمةٌ مِن أجلِ كَسبِ رِضا العُملاءِ , رُبَما لَا يكونُ هَذا الاختلافُ مُنصبًّا فِي صَالحِ تِلك المشاريعِ التِي أصبَحت فِي عَددِها كَأعدادِ مَراكِز التسوقِ أو مَا يُطلقُ عَليهَا فِي لَهجتِنا الدَّارجةِ (البقالات).
فنحنُ شِئنا أم أبينا نحتاجُ لِلغةٍ واحدةٍ وسياسةٍ مُشتركَة فيمَا يَخصُّ المقاهِي التِي تُقدمُ القَهوةَ , وَقبل اختيارِنا لنوعِ المُنتجِ الذي سَنُقدمُه لِزبائننا لَابدَّ لنَا قبلَ ذَلك مِن العِناية بِاختيارِ الطَّاقَم المُميزِ في عَملهِ والمِهَني فِي تَعاطِيه مَع الزبائِن , فكما هو معلومُ وَمُتعارفٌ أنَّ الزبون فِي عُرفِ هَذه المشاريعِ دائمًا عَلى الحَقِّ وِإن أَخطَأ.
ولَا بأسَ في هذا المقامِ مِن التَّعريجِ عَلى مَوقفٍ يُوضِح مَدى افتِقارِ البَعضِ مِن أصحابِ المشاريعِ التِّجاريةِ لِأبجدياتِ العَملِ الحُر, والحدثُ فِي أَحدِ المَقاهِي المُتناثرةِ فِي مَدينتِي الجَميلَة سَيهَات حيثُ:
دَخل ذلكَ الزَّبون بِكتابهِ الفَلسفيِّ قَاصِدًا جَوَّ الرَّاحةِ و السُّكونِ لِيقرَأَ , وَكان طلبُه الوَحيدُ كوبًا مِن الشَّاي , تِلك التّجرِبَة بَدت رائعةً وَتستحقُّ التَّكرار , وَأصبحَ ذلكَ المَقهى هُو المحطةَ الدافئةَ ومُلتقى الحبِّ الَّذي تَتغازلُ فِيه الأفكارُ مَع العقلِ . إِنَّ ذَلكَ الزَّبون عَاشق للتنويعِ , فَفي كلِّ مرةٍ يَطلُب مُنتجا وَيركُن فِي زاويتهِ إِمَّا معَ كتابٍ يُطالِعه أو رِسالةٍ يَقرؤُها عَبر هَاتفِه, وَمن شِدةِ حُبِّ ذلكَ الزَّبون للمكانِ وتعلُّقه بهِ فإنهُ حَملَ على عاتِقه رِسالةً تَسويقِيَّة لِأحدِ الرِّفاقِ وَجذبَه عَبر امتِداحِ المَكانِ وَدِفئهِ وَتّميُّزِ مُنتجاتِه, فَأصبحَت الطَّاولةُ التِي يَشغلُها شَخصُ وَاحدٌ بالأمسِ مشغولة ًبِشخصَينِ, وَبدلَ كُوبِ الشَّايِ كُوبانِ , وَتِلك هِي فَلسفةُ تِلكَ المشاريعِ التِي لا تنمو إلا عبرَ ثقافةِ الترويجِ , فَليس مُهِمًّا كَم سَأدفعُ وَبِكم سأشترِي بِقدرِ كَم مِن المديحِ سَيشيعون بِحقِّي وكم مِن الزبائِنِ سَيدعُون بِفضلِ خَدماتِي , جَاء الرَّفيقُ بِوجبَتهِ الصِّحيةِ عَلى اعتبارِه يَتناولُ أدويَةً مُتزامنةً مَع وجباتِ الطَّعامِ , وَلم يكُن يعرفُ بقوانينِ المَقهى التِي تَمنعُ اصطِحابَ الأطعمةِ داخِلهُ، فَقد بَدأ بِتناوُل طَعامِه بِكلِّ ثِقةٍ وراحةِ بالٍ فِي وَسطِ ذَلكَ الهُدوءِ، والكلُّ مُنشغِلٌ بِتناولِ مَشروبِه وَإذا بِرجُل مَفتولِ العَضلاتِ (مدير المقهى) يَدخُل مِن البَابِ الرئيسيِّ لِلمقهَى مُتجهًا لِذلكَ الرّفيق وَبكلِّ صلافةٍ وَلُغةِ احتقارٍ وَباللهجَةِ السُّوقيَّةِ الجَافةِ (لَو سَمحت بتاكل قوم اطلع برة) وَإيحاءاتُ الوجهِ تَحكِي عَن عَدمِ الرِّضا والارتِياحِ , كَان المَوقفُ مُحرجًا بالنسبةِ للضيفِ الجديدِ الَّذي لَم تتجاوَز زِياراتُه لِلمقهَى سِوى ثلاث أو أربعُ مراتٍ وَما زَاد المَوقفَ حَرجًا هُو أنَّ كلَّ مَن فِي المقهَى مِن الزبائنِ كانُوا شُهودَ عِيانٍ لِتكَ اللهجةِ السُّوقيةِ التِي تَركت أَثرهَا في المَكانِ وَفِي نفسِ الزَّبون وصاحبهِ , بَعد عِدةِ دَقائقَ وَصلت الرِّسالةُ للزَّبونِ الأولِ والمُضِيفِ حيثُ إِنَّ مُديرَ المَقهى لَا يرغبُ فِي وُجودهِ لِأنهُ بِزعمِه يَأخُذ حَيِّزًا زَمَكانِيًّا (الزمانُ والمكانُ) وَلا يَشتري كَثيرًا , وَكانت شَطيرةُ الطعامِ هِي (القشةَ التِي قَصمَت ظَهر البَعير) وَأظهرَت هَذا التعَاطِي البَعيدَ عَنِ المِهنيةِ والأخلاقِ والقَريبَ لِلُغةِ الشَّوارِع.
مِن خلالِ هذا المَوقفِ نَصلُ للاختلافِ الذِي تَحدثنا عَنه فِي بِدايِةِ المَقالِ والذِي كَان يَنبغِي أَن يكُون سِياسةً مُشتركةً في مثلِ تِلك المشاريعِ وفِي كُلِّ العالَم ،الَّتي تَعتمِد عَلى التَّسويقِ الشَّبكي لِأن العميلَ يجلِبُ عَميلًا آَخر , فاختيارُ المُديرِ المُناسِب لهذهِ المُنشآتِ و الذي يَتمتعُ بِروحِ التَّسامحِ وبشاشةِ الوجهِ هُو اللبِنةُ الأُولى لاستمراريتهِ ونُموهِ كَونَ سُمعةِ المكانِ وما يتناقلُه الناسُ رَاجعٌ لِمشاهداتِهم.
هُنالك مصطلحٌ دارِجٌ فِي اللغةِ الإنجليزيةِ بَينَ أصحابِ الأعمالِ التِّجاريةِ Words of mouth الكَلماتُ الخارجةُ مِن الفَم والتِي تُبثُّ وتُشاعُ بِمجردِ خُروجِ العَميلِ مِن المُنشأةِ التِّجاريةِ لِذلكَ هُم حريصُون تَمامَ الحِرص عَلى إِرضاءِ عُملائِهم سَواء فِي تقديمِ المُنتجاتِ المُميزةِ أو فِي طُرقِ تقديمِ تِلك المُنتجاتِ مَع مُلاحظةِ الجَودةِ واختصارِ الوقتِ, والأهمُّ من ذلكَ في توظيفِ كوادرَ وأيدٍ عاملةٍ تكونُ لديهمُ الأخلاقُ وحسنُ التعاملِ والسلوكِ مَع العُملاءِ مِن أساسياتِ الوظيفةِ.

التّاجرُ وصاحبُ المطعمِ الذَّكي مُستعدُّ لِتقبيلِ يد العميلِ لِكيلَا يُشيع خبرًا حِيال حَشرةٍ وجدَها فِي طبقِ الطعامِ , مَالك الفندقِ الحَصيفُ مَن يهتمُّ بتقييماتِ العُملاء حَول الخدماتِ التِي قُدمت لَهم مِن طَاقم الفُندقِ , أَما التاجرُ الذِي يُهين عُملاءَه ويطرُدهم بطريقةٍ مُذلةٍ ظَنَّا مِنه بِأن خُسرانَ عَميلٍ أو عَميلَينِ أمرٌ غَيرُ مُؤثرٍ فَهَذا ضربٌ مِن الحَماقةِ يُؤدِّي لِهلاكِ المنشأةِ عَلى المَدى البَعيدِ.
مَا يجِبُ أن يعرِفهُ أصحابُ الأنفَةِ مِن ملاكِ تِلك المَشروعاتِ الصَّغيرةِ أنَّ النَّموَّ لَيس حَليفَهُم فِي ظِلِّ وجودِ المُنافسةِ وَأن تَوجُّهَ المملكةِ العَربيةِ السعوديةِ يحمِل فِي طَياتهِ تَغييرًا جَذريَّا فِي السياساتِ والأنظِمةِ وَيولي اهتمامًا بَالِغًا فِي تَجويدِ حياةِ المُواطنينَ والمُقيمينَ , وَأنّه لابدَّ مِن التغييرِ مِن أجل البقاءِ والمُنافسةِ ،فَبدلَ أَن تُعطِي عَميلكَ كُوبا مِن الإِهانةِ أَكرمهُ بالحُبِّ وَحُسنِ المُعاملَة حَتَّى وِإن أخطأَ بِغيرِ قصد منهُ.
مِسكُ الخِتامِ هُو القولُ: بِأن الحديثَ عن مقاهِي القَهوة كَان مِن أجلِ ضربِ المِثالِ وَإلَّا فإنَّ فلسفةَ الكَلماتِ الخَارِجةِ مِن الفَمِ قَد تُنعشُ أَيَّ مشروعٍ وَقد تُسهمُ في قتلِ آخَر, وكلُّ الأعمالِ الحُرةِ خاضعةٌ لِتلكَ القاعِدةِ.
وَأي مشروعٍ لِكي يبقَى لَابدَّ مِن تركيزهِ عَلى الفِكرةِ الجَديدةِ المُبدعةِ إِضافةً لِما تم ذِكرهُ آنِفًا وَإلا فإنَّ كَلِمةً خَارجَةً منَ الفَم بِدونِ تَكلِفةٍ قادرةٌ عَلى تَدميرِ مشروعٍ كُلفتُه مَلايين.

‫2 تعليقات

  1. مقال جميل و في غاية الأهمية لصاحب اي مشروع. تجربة العميل و ارضاؤه من أولويات أي عمل خدمي سواءاً كان ربحياً أو خيراً و هي (التجربة الجيدة) من تصنع التسويق عبر نشر التجربة عبر المعارف.
    تسلم إيدك أستاذ محمد

  2. مقال هادف وعلى الجرح وتسلسل أفكار يكشف عن كاتب متمرس وأديب
    والأهم الحركات?
    مدير المقهى ماعنده سالفة بصراحة?

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×