[7] تحوّلات “أبو لمعه”.. من “لجنة” صنع الله إبراهيم.. إلى المثقف الداندي
محمد الماجد
لو نجحت في أن أستعير تلك الخبرة الفرعونية الحديثة التي رصدها صنع الله إبراهيم مع اثنين آخرين في كتاب (انسان السد العالي)، الكتاب الذي كان ثمرةً لرحلة حماسية جرت أحداثها في صيف 1965 لهدف تسجيل يوميات بناء السد، ولو تمكنت أيضاً أن أضع هذه الخبرة على عجلات وأدفعها في سكة بيروقراطية توصلها إلى غير هدفها، فلا أدري إلى أي درجة سأكون قد اقتربت من تلك الكوميديا السوداء التي نجح صنع الله ابراهيم في بناء نموذج لها في روايته (اللجنة).
ذلك أن افتتاح السد العالي في أسوان جنوباً 1971، وتأميم قناة السويس شمالاً قبل ذلك بخمسة عشر عاماً، كانا يبدوان وكأنهما قد ربطا جنوب مصر بشمالها بآصرة من الآمال العريضة التي سوف توقظ مصر يوماً ما على دوي فتوحات لنهضة غير مسبوقة، ليس في الجانب المدني والصناعي فقط، وإنما في شتى حقول المعرفة، ثورة ستكون تقليداً حرفيّاً لما زرعه أجدادهم المصريون في صحراء الجيزة قبل 4500 عام.
ولكن بعد مضي وقت ليس باليسير على هذين الحدَثَين، وبعد ثلاثة عقود على قيام ثورة يوليو، وهي المدة التي كانت كافية لدولة مثل اليابان كي تنتشل روحها من آثار هيروشيما، كانت أغاني الشيخ إمام وكلمات محمد فؤاد نجم الناقمة لا تزال تصدح في صدور المصريين، الدليل الذي سوف يقودنا إلى أن شيئاً لم يحدث، وأن الآصرة التي كان من المخطط لها أن تربط الجنوب بالشمال قد ذابت، وبعد خيبات سريالية ليس من بينها (الانفتاح الاقتصادي) وتكميم مصادر الثروة، وبعد انكسارات لا أمل في جبرها، جاءت رواية (اللجنة) في العام 1981 لتضع بيت القصيد لمرثية طويلة مؤداها أن فاكِهَتَي الثورة (السد والتأميم) قد أصبحتا ورقتي خريف يابستَين.
أعرف أن من السهل علينا أن نحسب صنع الله إبراهيم على أدبيات اليسار العربي، وأن نبني دفاعاتنا الأيدلوجية على مبدأ اتهامه بتضخيم الصورة ومحاولة النيل من هيكليّة المؤسسة، ولكن هذا لن يصمد كثيراً حتى أمام فصاحة القارئ البسيط، ذلك الذي يجلس متّكأً على كرسيّه في قهوة الفيشاوي ويريد أن يتأكد من سلامة أوراق الشاي حتى قبل أن يتأكد من سلامة أوراق الرواية، أو ذلك الذي يرتدي البيجامة غير عابئ بشيء سوى طقس الشرفة التي يطل منها كل مساء على لسان الحارة المليء بالفكاهة، أو حتى ذلك الذي نجح للتو في انهاء صفقة تجارية وأحب أن يكافئ نفسه بعمل ذي حس شكسبيري ساخر. فكل هؤلاء يبحثون عن (فشّة خلق) ولا وقت لديهم للتنظير والتصفيات الأيدلوجية. على أن ما قام ويقوم به صنع الله إبراهيم لم يكن مقتصراً على كواليس الصفقة التجارية، ولا على لون البيجامة التي تجلس في الشرفة، ولا بمزاج الجالسين في قهوة الفيشاوي، هو كل تلك الأمور مجتمعة، مضافاً إليها وجوه طالما عانت من الشحوب والتوتر، سحنات سمراء مقهورة وغاضبة على الدوام، وهي إلى ذلك لا تملك أي وسائل واقعية للتعبير عن غضبها، فيستحيل معها الغضب إلى عُقَد في السلوك والاجتماع عصيّة على الحل، وحمداً لله أنها ما زالت تنعم بخيال متوقّد، فتحتال للتنفيس عن مآزقها بالمسرح والفيلم والرواية، وبغيرها من الفنون المصممة سلفاً للقيام بوظيفة فرق الإطفاء وغرف الطوارئ.
رواية (اللجنة) ربما كانت من الروايات القليلة التي لن نجدها في أي مكان سوى “مقبرة الكتب المنسيّة”، العنوان الذي توسّل به الكاتب كارلوس زافون ليكون عنواناً لرباعيته الشهيرة، وأراد من ورائه التعبير عن ذلك النوع من الكتب التي يخشى عليها من الانقراض والتلف إما بدافع الإهمال أو بدافع (الطبيعة)، الخشية التي لن تقتصر عليها بل ستنسحب حتى على مرتادي المقبرة من أولئك المهووسين بالنبش ومطاردة الأرواح، من هنا نستطيع القول بأن رواية (اللجنة) لم تأخذ نصيبها من اهتمام الجمهور، ولا من الرعاية الإعلامية إلا مؤخراً (كان من المخطط أن تصدر على شكل فيلم من اخراج رامي عبد الجبار في العام 2017)، فقد كتبت الرواية بشكل مبكر في أوائل الثمانينات، ولكنها لم تستغرق وقتاً حتى أصبحت بين رفوف مقبرة زافون.
تعد هذه الرواية الرابعة لصنع الله، المقل إجمالاً في اصداراته الروائية، وهي سردية من الواقع التهكمي يغلب عليها الطابع المونودرامي، ضمير المتكلم أو الراوي هنا أشبه بسلم خلفي في عمارة مأهولة بكل الطبقات الاجتماعية التي تتحدث عنها الرواية، من مسؤولي الصحف، مروراً بمدير المكتبة، وأعضاء اللجنة، وحتى رأس المؤسسة أو (الدكتور) كما أحب أن يلقّبه. وقد استخدم الكاتب هذا السّلم في التلصص على كل أدوار وغرف العمارة دون أن يلتفت أحد لوجوده، فالراوي الرئيسي مجرد من الاسم، وكذلك باقي شخصيات الرواية، لا أتذكر أنني صادفت اسماً واحداً عدا أسماء الكتب والروايات والأعمال الموسيقية التي كان بطل الرواية يضطر لسردها تحت تهديدٍ اسمهُ الحبكة الروائية، وبالمقارنة مع غابة الأسماء التي بناها ماركيز على أرض ماكوندو في (مئة عام من العزلة) تعتبر هذه صحراء قاحلة، صحراء لم أعبر مثلها من قبل، ولهذا أكثر من دلالة، فالكاتب كان قد وضع الأولوية للمواضيع التي سوف يكتب عنها، وأراد أن يرفعها من كونها مجرد مواضيع إلى كائنات وذوات حيّة، زيادة على أن غياب الأسماء يعني ـ فيما يعنيه وفي ظل الرقابة ـ إعطاء مؤشر لمستوى الأدرينالين العالي في مجتمع الرواية، وهي القنبلة الضوئية التي أراد صنع الله من ورائها أن يكشف ليل العمارة وشبابيكها بالكامل للمارّين ممن لا يملكون كشّافات خاصة بهم.
(أبو لمعه)، تعبير دراج استخدمه بطل رواية صنع الله للتندر على الطلب الذي تلقاه من اللجنة المؤلفة من أعضاء ذوي مراكز وظيفية (مرموقة): “ننتظر دراسة عن ألمع شخصية عربية معاصرة”، وبعد بحث مضني عن معنى “ألمع” في قواميس اللغة، ومن بين كل الفئات التي وضعها على قائمته الطويلة للدراسة بدءاً بالعلماء والكتاب والمهندسين، ومروراً بالفنانين والمغنين وسواهم من فعاليات المجتمع، انتهى إلى أن تكون إحدى الراقصات هي موضوع البحث، ولكنه عدل عنها أخيراً إلى شخصية “الدكتور”، ثم بدأت رحلة البحث عن المصادر التي تعينه على كتابة الدراسة، وما كان يميز أبو لمعه أو “الدكتور”، بالإضافة إلى مواهبه (الفطرية) بالطبع، وعدا أنه الشخصية التي سيتوقف عليها صلاح المجتمع، هو قدرته على استخدام المفاهيم والمصطلحات في الاتجاهين، وتوظيفها لأهداف غالباً ما تكون خفيّة!!.
والسؤال الملح: كم (أبو لمعه) يمكن الحديث عنه في مجتمعنا؟
لعقود مضت كان (رجل الدين) هو المتهم بالقيام بدور “أبو لمعه” وذلك على خلفية صراع أيديولوجي محتدم، ولفترة طويلة ظل هو الهدف الأسهل والدائم لحملة ليبرالية منظمة مازالت آثارها ممتدة إل الآن، والغريب أنه لم يتم الحديث عن سواه، لم تُطرح أي بدائل محتملة، ربما كانت تملك من المؤهلات ما يفوق مؤهلات (رجل الدين)، وعل طريقة (صنعو) -الاختصار الشعبي لــــ (صنع الله ابراهيم)- كنت سأضع قائمة طويلة بالمرشحين كبدلاء: رجال أعمال، رياضيين، سنابرز، مغردين، اعلاميين، ولكني لم أجد أيّاً من هذه الفئات من الممكن أن يصمد أمام كل تلك المؤهلات الداندية التي يملكها “المثقف”!!.
و”الداندي” وصف صكه بودلير في يومياته للتعبير عن انسان أعلى مفارق وجامع للأضداد، الأمر الذي سأعتبره تأصيلاً تنويرياً متقدّماً لما أنوي القيام به من حديث عن “أبو لمعه” الجديد، أو ما سوف أصطلح على تسميته بــ (المثقف الداندي) ، فمنذ سقوط السلطة الكهنوتية في القرن الثامن عشر وهو ما برح يستثمر كل ما يقع في يده من فرص في سبيل شتم الأنظمة الثيوقراطية، وتمجيد العقل، وعدم الركون إلى نظرية، او الاستقرار في حيّز، لنتبيّن ـ بعد برهة من تجاربه وممارساته ـ مدى تضاؤل سلطة (رجل الدين) أمام سلطته المطلقة، فبحجّة العقل والتفكير الحر لم يضع سقفاً لطموحاته، وصار عليه وحده أن يفحص سلوك المجتمع، ويقترح أنماطاً للحياة، وكأننا أمام شريعة جديدة، عصية على الترويض هذه المرة، ورافضة لأي جوار أو شراكة، ولا أدري ما إذا كان الوقت قد حان لتأخذ دورها هي الأخرى في التقييم والفحص.
في كلام طالما اعتبرته شاعريّاً لخزعل الماجدي، الباحث في علم الأديان والحضارات القديمة، يقول فيه ما مضمونه بأن الشحنة العاطفية التي كانت تمتلكها الآلهة في الأسطورة ذهبت مع مجيء الإسلام إلى الأنبياء والأولياء والملائكة، ليتضح لي الآن – وبناء على محاكاة سأبنيها مع نموذج الماجدي – أن ما قام به “أبو لمعة” المثقف لم يكن أكثر من تغيير مسار (الشحنة) لا غير!!،
أي أن الشحنة انتقلت من (رجل الدين) إلى (المثقف) دون أدنى إضافة أو ميزة سوى ما ذكرناه من تغول هذا الأخير في استخدام النفوذ، وتحطيمه لكل أرقام رجل الدين القياسية في هذا السياق لينفرد وحده بقمة الأوليمب، وكما استرسل الماجدي في تقسيم حياة الأسطورة بين (ربيع) الحضارات القديمة و(صيف) الأديان التوحيدية، سأسترسل أنا الآخر في القول بأن خطاب (رجل الدين) يبدو لي الآن (ربيعاً) بالمقارنة مع (صيف) المثقف، دون أن يعني هذا تعميماً يجرف في طريقه كل ما هو خيّر واستثنائي من أعمال قام بها أولئك النفر من المثقفين الذين لم يتورطوا كما تورط (أبو لمعه) حين استعجل في اشهار بنوته لبودلير، وقام بدور الداندي حتى دون أن يتأكد بأن خشبة المسرح من تحته ليست باريسية بالكامل.
أكرر بأن هذا لا يمكن أن يكون تعميماً، هناك دائماً قاعدة بقياسات داندية فضفاضة، وهناك دائماً استثناءات، أو مثقفون منشقون كما يحلو لتشومسكي أن يصفهم، ليعود ويؤكد بأن القاعدة العامة ليست لصالح أكثر المثقفين.
1/9/2020 م