[تعقيب] السيد الخباز بين القراءة المتسرعة والموضوعية

محمد علي جليح

عندما تريد كباحث أو محلل ناقد أن تحاكم فكرة ما أو تقرأها قراءة نقدية فهذا حق، والفكر النقدي من شأنه الارتقاء بالفكر الإنساني، لكن بشرط أن تكون رؤية المنتقد رؤية شمولية وواسعة للفكرة التي يريد أن ينتقدها، وأيضا حتى تهدم ما قد شيده الغير وأتعب نفسه في بنائه لابد من قراءة ما شيد الغير بقراءة موضوعية ومتزنة لا قراءة ارتجالية ومتسرعة، قد تؤسس لظواهر فكرية ربما تعنون بأنها معدومة الفائدة، فالارتجال في النقد الفكري سيجر إلى التأسيس لظواهر مماثلة ارتجالية تفضي إلى فوضى علمية ومعرفية نحن في غنى عنها في ساحتنا الفكرية.

ومن هنا وفي هذا الصدد قرأت مقالا للكاتب محمد الشافعي بعنوان “ملاحظات نقدية السيد منير الخباز ومفهوم دولة الأمة والدولة الحديثة”، حاول من خلاله تسليط الأضواء على بعض الجوانب من محاضرة سماحة العلامة السيد منير الخباز وتوقف معه عدة وقفات، لكنه في الحقيقة والواقع ابتلي بما رمى به السيد الخباز في مقدمة مقاله من عدم التأني في قراءة المحاضرة، وعدم تماسك أطراف نقده لما بنيت من خلاله المحاضرة.

وأهم تلكم الوقفات ثلاث:

الوقفة الأولى:

بداية كانت لديه وقفة مع السيد الخباز حول عدم تسليطه الأضواء على مفهوم وظيفة الدولة ومجالات اختصاصاتها، الذي تأسس على مبدأ السيادة ودشن عام ١٦٤٨م في صلح ويستفاليا القاضي بحصر معنى ومفهوم الدولة ضمن أرض وشعب وسلطة لها سيادة ضمن نطاق جغرافي محدود ولمواطنين محدودين، بينما الدولة الإسلامية كانت أشبه بالامبراطورية التي لا تحدها الحدود الجغرافية بل هي في توسع وتنام دائم، ولا يجمع بين أفرادها الاشتراك في الأرض بقدر ما يجمع بينهم الاشتراك في العقيدة. وبحسب تعبير الشافعي فإن هذه الدولة ومنظومتها كانت ظاهرة جديدة ولا تشترك مع الدولة التي يناقشها السيد الخباز إلا في مساحات ضيقة.

ويجاب على هذه الوقفة أن أحدا لم يدع وحدة مفهوم الدولة المدنية ودولة الأمة، بل ذكر سماحة السيد في محاضرته بأن الدولتين تتحدان في بعض المبادئ وتختلفان في بعض المبادئ الأخرى، فالاشتراك هنا بين الدولة المدنية ودولة الأمة في بعض المبادئ وهناك اختلاف أيضا في بعض المبادئ الأخرى هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإن سعة الدولة أو ضيقها لا تعني الاختلاف بينهما في كل المبادئ كمحورية المواطن المسالم وتأمين حقوقه وتوفير حاجياته الحياتية، بغض النظر عن عقيدته في هذه الدولة، وعندما نسلط الأضواء على دولة الأمة فإنه من الطبيعي أن تكون هناك علاقة بين اتساع دائرة الأمة واتساع رقعة دولتهم وحدودها الجغرافية وأطرها المكانية الظرفية، والموضوعية تقضي بغض النظر عن اتساع الدولة أو ضيقها ملاحظة و نقاش المشتركات والاختلافات على مستوى المبادئ والأسس لكلا الدولتين.

الوقفة الثانية:

كانت مبنية على عدم تأمل كافٍ ووافٍ في كلام سماحة السيد فإنه ـ أي الكاتب الشافعي ـ قد فهم رهان السيد الخباز على توظيف مناقب الإمام علي عليه السلام وعدالته في الحكم والإدارة، وسحبها بمعنى إسقاطها على إدارة اجتماع بشري له وظيفة دينية على إدارة الدولة الحديثة، وأيضا بناء على ذلك فإنه وصل إلى نتيجة هي أنه بما أن إقامة الدولة الإسلامية من جوهر الدين وصميمه فيجب تعميم نموذج و صورة هذه الدولة على الدول في جميع الأزمنة، قديما وحديثا مع ملاحظة أن الدولة الحديثة مختلفة الوظائف والأدوار كليا.

وجواب إشكالية تعميم مناقب الإمام علي عليه السلام وسحبها على إدارة الحديثة مما قد يسبب إرباكا في إدارة الدولة الحديثة، على اعتبار أن الشخصية المعصومة لا يمكن محاسبتها وبالتالي فإن الأمة لن يكون لها أي دور في دولته نقداً و محاسبة ومحاكمة، هو:

أولا: إن الكاتب لم يلتفت إلى الفرق بين حكم الإمام عليه السلام وهو رأس الدولة وبين حكومته فالإمام ـ عليه السلام ـ معصوم تنظيراً وتطبيقاً وتبليغاً. ولكن هذا لا يعني عصمة حكومته فإن بعض أفرادها قد يصدر عنهم الخطأ والاشتباه، إما على مستوى النظرية أو على مستوى التطبيق. والإمام ـ عليه السلام ـ قد عزل بعضهم لما وجد ووجدت الأمة أن أخطاء قد انبعث منهم وحُسبت عليهم، ونحن لسنا فعلا بصدد ذكر هذه المصاديق.

ثانيا: إن كلام السيد منير الخباز في أن إقامة الدولة الإسلامية من صميم الدين مبني على التفريق بين إدارة شؤون الناس في زمن حضور الإمام أو زمن الغيبة، فإنه في زمن الحضور لا بد أن يستلم السلطة ويتولى شؤون الحكم الإمام المعصوم، عليه السلام، وهذا من أوليات وأبجديات الفكر الإمامي، وما اتفق عليه الإمامية كابراً عن كابر وهم الذين يعرفون الإمامة على أنها رئاسة في أمور الدين والدنيا، وأما في زمان غيبة الإمام الثاني عشر عليه السلام فإن فقهاء وعلماء الإمامية أنفسهم قد اختلفت نظراتهم وتفاوتت نظرياتهم في النظرية التي تعنى بإدارة شؤون الدولة من منظار فقهي وتخصصي، فمنهم من وسع مساحة صلاحيات الفقيه المجتهد الجامع للشرائط ومنهم من ضيق.

وعليه فإن الحديث الذي تحدث به سماحة السيد الخباز في تلك المحاضرة وقال فيه “إن مسؤولية إدارة الدولة هي من صميم الدين” فإنه يقصد من ذلك تولي النبي الأكرم والرسول الأعظم ـ  صلى الله عليه وآله ـ أو أمير المؤمنين الإمام علي ـ عليه السلام ـ السلطة في زمن الحضور، حيث إن دولتهم كانت ـ بحسب تعبيره ـ دولة أمة، أي الدولة التي رأس هرمها المعصوم، عليه السلام.

وفي هذا السياق فإن سماحة السيد الخباز كان بحثه بحثا توصيفياً بحتاً وما كان الباعث منه هو الدعوة إلى تأسيس دولة دينية في زمن الغيبة، وإنما هو مجرد بحث وصفي تحليلي أراد به الإجابة بشكل مختصر وبمقدار ما يسع الوقت له عن التساؤلات المرتبطة بمعالم الدولة الدينية، في المدرسة الفكرية الإمامية فهو مجرد بحث فكري خالص.

الوقفة الثالثة:

كانت منصبة حول إلغاء دور الأمة في زمان الغيبة وذلك في ظل جامعية الفقيه لمواقع الإفتاء والقضاء والولاية. ويُجاب عن هذا:

أولاً: بأن كون الفقيه في زمن الغيبة جامعا للسلطات الثلاث فإن هذا لا يلغي حق الأمة في الرقابة، فالفقهاء يقولون: إن حكم الحاكم نافذ ما لم يُعلم خطؤه في الاستناد أو المستند، وبالتالي فإن الأمة إذا اكتشفت ـ بطريق علمي وعقلائي ـ خطأ الحاكم فإن حكمه لا ينفذ، مضافا إلى أن هناك خلافاً بين الفقهاء أنفسهم في أن حكم الحاكم هل ينفذ على حاكم غيره أم لا؟

ثانيا: هناك خلاف بين الفقهاء العظام ـ أدام الله ظلال الباقين وقدس أرواح الماضين الزكية أنفسهم ـ في رقعة ومساحة الولاية الثابتة للفقيه في عصر الغيبة وميادين إعمالها و مجالات تفعيلها، فبعضهم يوسع والآخر يضيق كما أشرنا إلى ذلك سابقا، فعلى الباحث المنصف أن لا يغفل عن هذا الجانب حتى لا يقع في محذور التعميم.

خاتمة:

قد يفضل بعض الباحثين الأنظمة والقوانين الوضعية على الدينية، وذلك لإشكالية لا يستطيعون تفكيكها؛ هي الانتقال من فلك التنظير إلى الواقع. ولأجل ذلك فإنهم يرون أن الدولة المدنية قد قطعت شوطاً كبيراً في هذا المضمار على حساب الدولة التي تعتمد على التشريعات والقوانين الإسلامية. ولكنهم ـ في الوقت نفسه ـ قد يجدون أنفسهم أمام مأزق خطير؛ هو أن الأنظمة والقوانين التي وضعها البشر وإن كانت وضعت في قالب إنساني وعادل ظاهراً، إلا أنها لا تخرج عن كونها تنظيراً لا واقع له ولا وجود في الخارج.

وهنا نجد أنفسنا أمام سؤال وجودي لا بد من الجواب عنه لكي تكون رؤيتنا أكثر شمولية وأكثر اتساعا.. السؤال هو: ما الباعث من الأنظمة والتشريعات الوضعية وما هو الباعث من الأنظمة والتشريعات الدينية؟ إذا علمنا أن الدين ينطلق في تشريعاته وقوانينه من المصالح الواقعية للإنسان لا الذاتية التي لا تعدو كونها تنظيراً أمام الأزمات الكبرى والمنعطفات المصيرية التي قد تمر بها الإنسانية، فإننا نصل إلى نتيجة مهمة؛ هي أن الرهان ليس على قالب القانون وشكله وإنما هو على جوهره وحقيقته والباعث منه وهذا ما يميز القانون الديني عن غيره.

اقرأ الموضوع الأصل

ملاحظات نقدية.. السيد منير الخباز ومفهوم دولة الأمة والدولة الحديثة

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×