ملاحظات نقدية.. السيد منير الخباز ومفهوم دولة الأمة والدولة الحديثة
محمد الشافعي
استمعت إلى محاضرة السيد منير عن دولة الأمة في الخلافة العلوية التي ألقاها هذا الموسم، و فوجئت بالطرح المتعجّل الذي قدمه السيد في هذا الموضوع.
و يبدو أن موضوع عقد المقارنات بين نماذج دينية معيارية من التراث، و نماذج حديثة، هو الدافع وراء التنظير المختزل الذي نراه على بعض المنابر في المواسم الأخيرة.
ففي هذه المحاضرة، استعرض الخباز مفهوم الدولة المدنية الحديثة و تطوره مع فلاسفة التنوير الاوربيين من خلال الاقتباس من دراسة للدكتور أحمد بوعشرين، انطلاقاً من جون يودان في منتصف القرن السادس عشر حتى روسو في منتصف القرن الثامن عشر.
و بعد ذلك انتقل إلى ايجاد المشتركات بين الدولة المدنية، بوصفها المنتج الغربي، و دولة الأمة التي أنتجتها سلطة الإسلام في عهد النبي، ثم تطورّت في عهد الإمام علي.
لست هنا بصدد نقد شامل لكامل أطروحة السيد الخباز، التي لم أجدها متماسكة لأسباب كثيرة سأكتفي بأبرزها:
أولاً: لم يفرّق السيد منير بين مفهوم الدولة في زمن النبي و دولة المدينة، و مفهوم الدولة الحديثة. فهو و إن استعرض التطور التاريخي للدولة الحديثة، إلا أنه لسبب أو لآخر لم يتطرق للتغيّر الكبير الذي طرأ على وظيفة الدولة و مجالات اختصاصاتها و الذي تأسس على مبدأ السيادة الذي دشّن عام ١٦٤٨ في صلح ويستفاليا و أصبح يرتكز على حصر مفهوم الدولة ضمن أرض و شعب و سلطة، لها سيادة ضمن نطاق حدود و وظيفة منحصرة في تلك الأرض و إدارة مقدراتها و تدبير شؤون سكانها. و ما حصل من تطوّر في مفهوم السلطة بعد ذلك و منظومة الحقوق و الواجبات، إنما تولّد في سياق ظهور هذه الدولة الحديثة التي لم تعد امبراطوريات ممتدة و تمتلك مشروعية التمدد الدائم و الإدارة المطلقة و سن التشريعات دون قيد.
هذه الدولة و منظومتها كانت ظاهرة جديدة على الاجتماع البشري، و لا تشترك مع الدولة التي يناقشها السيد الخباز إلا في مساحات ضيقة، ربما أهمها الإشتراك اللفظي في المسمى.
ثانياً: رهانات الخباز كانت على توظيف مناقب الإمام علي و عدالته و حرصه على تدبير الشأن العام، ليقوم بتقديم صورة معيارية للحكم الرشيد. و هنا لن نختلف معه على مناقبية النبي و الإمام، و لكن سحب إدارة اجتماع بشري له وظيفة دينية في عهد النبي من خلال بناء الدعوة و تعميمه على دولة حديثة له وظائف إدارية متعلقة بتنظيم المجتمع و السياسة و الاقتصاد، فهذا أمر مربك.
تداخل المجال الديني و المجال السياسي في زمن النص، فتح الباب أمام منظّري الإسلام السياسي ليخلصوا إلى نتيجة مفادها أن ارتباط الإسلام بتأسيس دولة، هو ارتباط مفهومي من صميم و جوهر الدين. و أن هذه الدولة تمثل المعيار الذي ينبغي على أساسه إقامة الدول الحديثة و القديمة و في كل زمن. و لعل هذا ما دفع السيد الخباز للاعتراف بأن دولة السماء هي الدولة التي تحقق “ليظهره على الدين كله”، في إشارة واضحة بأن الدولة هي دولة دعوة في نظره، بينما كما بيّنا فإن الدولة الحديثة مختلفة الوظائف تماماً.
و استمرّ السيد في الحديث عن كون ارتباط الإسلام بالدولة ارتباطاً مفهومياً لا موضوعياً متعلقاً بالوضع السياسي في الحجاز في القرن السابع الميلادي و ظروف الدعوة التي انتقلت من طورها المكي إلى المدني. لا يحبّذ دعاة الإسلام السياسي الحديث عن الفترة المكية و الدعوة النبوية التي تركّزت على التصور الديني القائم على رؤية روحية تجديدية تقدّم تصوراً وجودياً جديداً، و لأسباب موضوعية اضطر النبي إلى الهجرة لإنجاح دعوته هناك من خلال المواثيق و التفاهمات و التحالفات و ترتيب الكيان الجديد وفقاً لذلك. كل هذا في تصورّهم من جوهر الدين و لا يمكن نقاش البعد السياسي و التدبير الموضوعي الذي حمل الدعوة على العمل السياسي. و هم بذلك يرون أن متطلبات الدعوة التي دفعت التنظيم السياسي في عهد النبي، لا يزال مطلباً دينياً في إطار الدول الحديثة.
ثالثاً: بيّن السيد منير أن المراقبة و المحاسبة حق في الدولة الحديثة و لكنها واجب في دولة الأمة، و أن الفصل بين السلطات موجود في الدولة الدينية المعيارية. و لا أعلم ما هي دولة الأمة التي يتحدّث عنها الآن، هل هي نفسها دولة الفقهاء التي نظّر لها على المنبر عام ١٤٣٤ و قال بأن الفقيه له ثلاثة أدوار: الإفتاء و القضاء و الولاية، و الولاية هي إدارة البلاد دون فرق كبير بين القائلين بولاية الفقيه المطلقة أو فقط في الأمور الحسبية ” فكلاهما متفقان على أن للفقيه الولاية في إدارة نظام البلاد والدفاع عنها إذن الموقع القيادي للفقيه ليس موقع محصور بكتابة الرسالة العملية”. فأين فصل السلطات هنا و الفقيه يطّلع بدور التشريع الديني، و القضاء، و الولاية أي السلطة التنفيذية! و أي محاسبة و مراقبة تعد واجباً في تلك الدولة التي ينظر لها الخباز و لكنه يرى حكم الفقيه نافذ في القضاء و الراد عليه في حكم من أشرك بالله و أورد في هذا السياق مقبولة عمر بن حنظلة!
و لكن يبقى الإشكال الأكبر في مقاربة السيد الخباز، هو عقد المقارنة لغرض تفضيل الصورة المعيارية بتوظيف مناقبية النبي و الإمام، و محاولة تعميم وظائف دولتهم على الكيان الحديث الذي يعبّر عن اجتماع سياسي و هيئة قانونية حديثة، لها وظائف و أركان مختلفة.
الاستاذ محمد
مقال نقدي جميل و رائع ، و الاهم من ذلك كونه موضوعي بامتياز ،، استشهادك بفكرة الدولة في فكر السيد الخباز عام ١٤٣٤ ،، التفاته بارعه لتوضيح الصورة الحقيقية المنشوده من قبل السيد ،، خصوصا انطلاقه من قاعدة وجود ارتباط جوهري بين الدين و الدوله لا يمكن الانفكاك منه
شكرا جزيلا لك