[1] عبدالكريم آل زرع.. الشاعر الإنسان
علي مكي الشيخ
للأرض التي أنجبتْهُ حكايةُ موالٍ ونكهةُ زعفران برائحة الأبد.. كانت تعي أنها على موعدٍ لساعةِ مخاضٍ يتخلقُ من خلالها روحٌ شاعرة، لذلك كانت تُعمِّدُ أرجاءها بأصوات الصلوات المخزونةِ بكبرياءِ النجوم الأرض تاروت مخطُّ قلادةٍ على جيد الزمن.
والتي تعني آلهة الإخصاب والجمال عند الفينيقين، وهي أقدم موقع استيطاني بشري[1]، فهي عشتاروت واهبةُ الأبد لكلِّ منْ تعالق بأرجائها وصار جزءًا مِنْ حضارتها الضاربةِ في القدم..
مِنْ رحمها بزغ طالع الشعر الشيخ عبد الكريم آل زرع في20/8 / 1381هـ وقد أرخ مولده قائلاً:
بشهر شعبان ازدهى
بالنور برج الحوتِ
فاسطع به أرخ (أيا
كريمنا التاروتي)
أول عناقٍ للأرض ولعبق تاريخها الحافل بالأحداث والمزدحم بالعبقرية يشق الوليد الجديد عن ضحى إصباحه ليبدأ مسيرة إشراقةِ جديدة وليضيف لها رقمًا مميزًا وليكون أيقونةً على خارطتها الواسعة.
تتفتح عينا هذا الفتى على حياةِ القرية الآمن أهلها وفي جلوات المحبة والسلام في رهافة المشاعر وطيبة أناسيها.
الطرقات المجالس، الحارات كلها تتنفس كائن الشعر بكل تفاصيل الحياة مِنْ مواويل البحَّارة إلى عادات الأمهات وأهازيجهن لأطفالهن وحداء الخطباء على منبر الحسين (ع) ففي كلّ مفاصل الحياة كان الشعر حاضرًا وبفاعليةٍ كونية وكأنه مِنْ نسيج هذه الأرض وأحد عناصرها الوجودية
أتذكر هنا ماوقّعَهُ الشاعرُ السيد عدنان العوامي في “أغنية تاروت”:
عفو الصبا تاروت عفو الصبا
ما أجمل الذكرى وما أعذبا
ماذا تصبِّى فيك رَبُّ الهوى
فاختار دنياكِ له ملعبا
حسانك اللائي يرشن البها
سهمًا لذيذ الجرح مستعذبا
على روابيك ترفُّ الرؤى
سكرى ويستلقي الندى متعبا
وفي سواقيك يهيم الشذا
ويسرح الضوء وتلهو الصَّبا
ما طاف باخوس بأكوابه
في موطن أصبى ولا أخلبا
ولا احتوى كيبوس في صدره
لؤلؤة أعلى ولا أطيبا
تاروت مَنْ بعثر هذا السَّنا
على روابيك ومَنْ ذَوّبا
هذا أدونيس وذي قوسه
عطشى وهذي سانحات الظبا
وتلك عشتاروت في مجدها
تختالُ في الحسنِ وزهو الصِّبا
كل هذه المشاهد كانت تختزلُ إِيقاعها لتشكل مرجعيةً موروثية لتتعالق في تكوين هذا القادمِ مِنْ أكاليل الضوءِ متمثلةً في رسم موهبةٍ شاعرة.. نما حيث مدارج الطفولة بين أترابه الذين يلونون التراب فرحًا ومرحًا وبساطة أنهى تعليمه فيها حتى التحق بمعهد الإدارة وهو يحملُ آمال مستقبلٍ يشي بالأمل رغم جشوبة الحياة آنذاك لم تكن الطريق ممهدة ووثيرة إنما حاول أنْ ينقش على الصخر ليشبع نهمه المعرفي وشبقه الإبداعي والشعري وما أرق ما كتبه الشيخ تعبيرًا عن عصاميته في خلق شخصيته وتكوينها:
عرفت خبيء الدهر ثم هَزَمتُهُ
فلان لآمالٍ وساعدني الصبرُ
أتيتُ إلى الدنيا ولم أكُ شاعرًا
ونقطة سيري في الحياة هي الصِّفرُ
ولكنني سابقتُ عمري فَجُزْتُهُ
ومَزَّقْتُ ثوب الجهل وانكشف الغَمْزُ
تسنمت هام المجد بعد مشقةٍ
يلينُ لي القاسي ويُستَعْذَبُ المرُّ
فإني بحقل العز والفخر رائعٌ
وإني جوادٌ مِنْ بَدَيَّ همى القطر
فيا حاسدي لا تخشَ مني مذمةً
ولا يلجن في قلبك الخوف والذُّعرُ
راوده الشعر وهو لم يتجاوز العاشرة مِنْ عمره.. فكانت البدايات تختمرُ في مرجل ميعة الطفولة اليقظة حتى استفاض على لسانه ينابيع عذوبةٍ تجري مِنْ تحتها أنهار الشعر لذة للسامعين والعاشقين حيث استقامت قريحته في عام 1398هـ وبدأ يتسلق مدارج الكمال حتى نضجت موهبته في عام 1405هـ وهي السنة التي التحق بشركة أرامكو السعودية موظفًا يزاول مهنته المعيشية وفي داخل كلِّ وظيفة حكايات لا تنسى مع أعضاء الشركة مِنْ زملاء ورؤساء ومهام إدراية هي بالطبع لا دخالة لها بموهبته ومسيرته الشعرية ولكنها جزءٌ مهم مِنْ سيرته الإنسانية وأعماله اليومية لا مكان هنا لذكرها.. كانت مدة عمله في أرامكو قرابة الثلاثين سنة..
وأما قبل مشواره الوظيفي.. كانت له محطة مهمة في طلب العلم الحوزوي حيث التحق في عام 1400هـ بالدرس ويمم حاضرة مدينة قم ومكث فيها سنتين تقريبًا ثم عاد لظروفٍ قاهرة ليكمل مشوار الدرس والتحصيل عند أساتذة الحوزة في القطيف أنهى المقدمات ومرحلة السطوح إلى أنْ دخل مرحلة البحث الخارج، وكان مِنْ أبرز أساتذته الشيخ مهدي المصلي التاروتي والشيخ نزار آل سنبل الجشي والشيخ مهدي العوازم القديحي.. وما يزال يواصل نهم التحصيل مستثمرًا سانحات الفرص التي تمكنه مِنْ الاستزادة والرّفد مِنْ علوم آل محمد ” ص “.
لم تثنه الوظيفة عن التحصيل العلمي ولم يثنه التحصيل العلمي عن مشواره الأدبي فقد أسس في عام 1404 / 1405هـ منتدى الغدير الأدبي هو ونخبة مِنْ شعراء القطيف آنذاك.. كان المنتدى يشكل عملاً مفصليًا في تاريخ الحركة الشعرية الشبابية في القطيف وقتها كان الوسيلة الوحيدة التي تجمع الشعراء في حلقات نقاش وأماسي صاخبة بالجمال والإبداع أذكر مِنْ أعضاء المنتدى:
شفيق العبادي ـ حبيب محمود ـ محمد الماجد ـ عبد الخالق الجنبي ـ حسين الجامع ـ أحمد نصر حمود ـ جمال رسول ـ حسن الطويل ـ حسين آل رقيه ـ عبدالله البيك.. وآخرين كانوا نواة هذا الكيان المتحرك بفاعليةٍ فارعة.. ولا بأس هنا أن أضع بعض شهادات رفقاء الشعر والمنتدى حول شخصية الشيخ عبد الكريم آل زرع..
“شيخنا الوقور، وحكيمنا الملهم، الذي اختصر نجومنا طيورًا في مداراته وَحريٌّ به.. الشاعر الكبير الذي تراه في ظِلِّ مرايا الشعر ماثلاً وإن رهن أجنحته لفضاءات آل البيت وياله مِنْ شرف.
الناشط الاجتماعي، والمثقف الكبير، وصديق الجميع”.
أما الصحفي حبيب محمود فيصف انبهاره في شخصية الشيخ قائلاً:
” فيا لله، ولمنتدى الغدير، كيف برع هذا الرجل المتنوع في منح المنتدى جزءًا مهما مِنْ قلبه، وكيف فرش له ترحابه وبيته، وكيف استوعب الحداثة والتراث في مجلسِ والده في ” الديرة ” ومجلس والده الآخر في ” الحوامي “.
كلُّ ذلك ودوام ” الشفت ” يقلبه في معامل رأس تنورة، والتزامه دراسة مناهج الحوزة، وعضوية مجلس إدارة خيرية تاروت تنتهب اجتماعاته وتوقيعه ومتابعته..!
ثم ماذا..؟
ثم إنه يدْرُس ويدَرِّس
ثم لا أدري كيف قُيض له أن يكون ملهمًا وكأنَّ ” عبد الكريم” مَعْفيٌّ من التركيز شاعرًا، وكأن عقب إبداعه تنوع في منحه وعطائه واشتغاله ومساندته ودعم الآخر “
بعد هاتين الشهادتين يحار الكلام عن تعداد محطات الشيخ في مسيرته الاجتماعية والأدبية كان مِلء السمع والبصر قلبًا نابضًا بالحب والجمال ومقصدًا للكثير مِنْ أصحاب التخصصات العلمية والأدبية والرواديد والمنشدين وهكذا تتعدد عطاءات هذا الرجل العظيم الذي يعد أمةً في رجلٍ حقًا.. يذكرك بقول أبي تمام:
تراه إذا ما جئته متهللاً
كأنك تعطيه الذي أنت سائله
هو البحر مِنْ أيّ النواحي أتيته
فلجته المعروف والجود ساحله
ولو لم تكن في كفِّهِ غير روحه
لجاد بها فبليتقِ الله سائله
لهذا كانت محبته تدخل القلوب دون استئذان وتأنسه النفوس مِنْ أول وهلةٍ تلتقيه.. وتنجذب له الآذان حين يحرك شفتيه بشعر أو رأيٍ مغلفٍ بالحكمة والوعي.
شخصيةٌ نادرة في زماننا أقولها وبكلِّ ثقةٍ وإيمان بأن الشيخ دائرة معارفٍ متنوعة حيث أخذ مِنْ كلِّ علم وفنٍ بطرف كما يقال.. سريع البديهة، مملوءٌ بصفحات الثقافة فهو وإن كان مهتمًا بدروس الحوزة وعلومها إلا أنه قرأ تاريخ الأدب واستوعبه وتأمل في اللغة وأسرارها فسبر أغوارها كنا نرجع إليه في أي إشكال صرفيٍّ أو بلاغي أو نحوي وما يدهشك في مقدرته المعرفية أنه على اطلاع واسعٍ وكبير على ما لم يخطر على بال منْ عاصره وجالسه لأول وهلة..
يمتلك خزينًا كبيرًا مِنْ ذاكرة التاريخ وَعُرِفَ عنه بموهبة الحفظ حيث يحفظ لكثير مِنَ الشعراء مِنَ العصر الجاهلي إلى عصرنا هذا وكما أنه يحفظ الكثير مِنْ نصونه التي تتجاوز الستين بيتًا.
أعود للحديث عن بعض منجزاته ونشاطه الأدبي فقد حصل على جائزة راشد بن حميد عام 1414هـ بقصيدته ” أعذب الشعر ” ومطلعها القائل:
كتب الشعرُ والهوى والولاء
في فؤادي ما تعشق الشعراءُ
– أسس منتدى الكوثر الأدبي عام 1426هـ مع شعراء من القطيف والأحساء.
– شارك في مهرجان الغدير العالمي الأول بالنجف الأشرف عام 1431هـ
– كان رئيس لجنة التحكيم في مهرجان ترانيم للإنشاد بالقطيف والذي استمر لخمس سنواتٍ متتالية.
– استضيف في الكثير من الفعاليات الأدبية داخل وخارج المملكة.
– تُرْجِمَ له في بعض كتب التراجم والتاريخ على سبيل المثال.
– كتاب الأمل الموعود – للأستاذ لؤي سنبل.
– أهل البيت في الشعر القطيفي – للشيخ نزار سنبل.
– مجلة الموسم ( 9-10 ) 1411هـ
الشيخ آل زرع يكتب الفصيح والشعر الشعبي ببراعة فائقة، كما تميز أيضًا بالقدرة على الكتابة باللغة الفارسية وقد وجدت له بعض الأبيات التي خطها وألفها ما يدل على تنوع وتوسع طاقته الشعرية.
وهناك الكثير مِنَ المحطات التي تحتاج إلى تفصيل وسبر لمعرفة جماليات هذا الشيخ المعطاء نتركها للحلقة الثانية.. وأختم هذه الجولة السريعة ببعض أبياتٍ مِنْ قصيدة للشاعر ياسر آل غريب:
وما الشعر إلاَّ نفح أنفاسك التي
تموسقها طيرًا، وتطلقها سربا
سلامًا على (تاروت)يوم تمخضتْ
وأهدتك للأكوان موالها العذبا
نحبك يا( عبد الكريم) تَجِلَّةً
وأروع مافي الحبِّ أن نجهل الحبا
وما أنت إلا نحن في كلِّ حالةٍ
فإن كنت فينا العين كنا لك الهُدْبا
تشعثعت أيام ( الغدير ) بنخبةٍ
ومازلت تسقي منتدى (الكوثر)النخبا
[1] – انظر القطيف واحة على ضفاف الخليج – سعيد المسلم ص49.
الشيخ عبدالكريم يعجز القلم ويكلٌ اللسان عن الحديث عنه وعن أخلاقه وكرمه وعطائه
وإذا كان لبعض الناس من اسمهم نصيب فإنه نال من اسمه أعلى نصيب ، فهو عبدٌ للكريم ، وهو مثال للكرم .. الكرم المادي والكرم المعنوي فهو جواد بما يفيضه من علم وأدب يجود بما لديه ولا يبخل على من سأله أو استرشده
فاض أدبه على الساحة الأدبية عشرات السنين ونال من علمه وأدبه عشرات الشعراء والأدباء … والحديث عنه طويل
وكل الشكر للشاعر المبدع علي الشيخ على هذا الحديث الجميل
حفظ الله الشيخ الفاضل، والأستاذ الرائد، عبد الكريم الزرع، ومَدَّ في عمره المبارك، ووفقه لخدمة دينه ومجتمعه ، وشكراً جزيلاً للكاتب ولجريدة صُبرة على هذه الإلتفاتة الطيبة وهذا التقديم الجميل لشيخنا الجليل.