باقر الزاهر مرة أخرى.. ثقة الناس والحكومة في سنة المجاعة [11] السيحة وسمر في الذاكرة

عدنان السيد محمد العوامي

تلاحقني مآثر هذا الرجل التقي حتى يومي هذا، وأنا أكتب عنه، فبعد ظهور الحلقة (11) السابقة، تتابعت عليَّ الرسائل الإلكترونية، بين مطالب بالمزيد، وبين متفضل بإضافات نافعة، وكان من بين المتفضلين الأخ الأستاذ سعود عبد الكريم الفرج، هذا الشهم الوفي لترابه وأهله، أبى إلا أن يتجشَّم حر الظهير مصرًّا على أن يوصل لي، بنفسه، كتابه النفيس (العوامية – بين عراقة الأمس وإبداع اليوم) ([1])، طالعته فرأيت فيه ما لا يجمل أن يغفل؛ فأصبح من  حقه أن أنقل إليك منه – سيدي القارئ – ما يلي:

(باقر بن أحمد بن علي بن أحمد بن علي بن محسن بن زاهر بن نمر. يعدُّ شخصية اجتماعية معروفة على مستوى بلدة العوامية، ومحافظة القطيف، وقد كان مجلسُه مفتوحًا، وأصبح عمدة للعوامية لفترة طويلة، وعندما  حدثت المجاعة سنة 1358هـ كان من ضمن اللُّجنة التي شكلت لمراقبة أسعار السلع، وتوزيع المواد الغذائية على المحتاجين، حيث ضمت اللجنة كلاًّ من فضيلة الشيخ علي ابن الشيخ جعفر أبو المكارم، والحاج أحمد بن علي الفرج، والحاج باقر بن أحمد بن زاهر. ويتميز “رحمه الله” بالتواضع والأخلاق الحسنة، وله علاقة قوية برجال الدين؛ أمثال فضيلة الشيخ فرج العمران، والعلامة الشيخ علي الجشي “رحمهم الله”، وغيرهم، وهو من أحفاد حاكم العوامية القوي علي بن محسن في زمن حكم بني خالد([2])، وبوفاة الحاج باقر “رحمه الله” في سنة 1416هـ تنتهي آخر الزعامات المعروفة في عائلة الزاهر التي كان لها دور مشهود في الحياة الاجتماعية) ([3]).

ثم أتى ببعض أبيات من قصيدة الأستاذ الشاعر جعفر ابن الشيخ سعيد أبو المكارم، فرأيت أنَّ من حق الحاج باقر أن أنقل منها قدر ما يتسع له إمكان النشر الإلكتروني، مع تقديم واجب الشكر لناظمها:

العميد الزاهر

خرسنا وإن الدمع في جفننا جمر

نناجيك والأشجان ضاق بها الصدر

فقدناك فذًّا في العبادة والتقى

فأنت عماد الخير، بل والدٌ بَرُّ

فقدناك تأسو للجراح مواسيًا

وفي مُدلَهِمَّات الحياة لنا ذخر

(فقدناك فقدان الربيع زهورَه)

ذا أمحلت أرضٌ وبارحها القَطْرُ

فقدنا محبًّا للحسين وراثيًا

وقد نهبت أحشاءه البيض والسمر

فقدنا عميد الزاهر الخير (باقرًا)

فلا النبع فيَّاضٌ، ولا النبت مخضرُّ

فقدنا عمادًا يستنار برأيه

إذا جفَّ في أفنانه الدوح والزهر

فقدناك في عوَّام قُطبَ رَحى الندى

(وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر)

(أباقرُ)، يا خالي، رحلت وجُرحنا

لَجِدُّ عميقٍ لا يُنال له سَبْرُ

فقدنا ابن (موسى)، نجل أختك، إنه

نقيب لآل الربح إذ ضمه قبر ([4])

أيا (باقرٌ) يا زاكيَ الأصل والولا

وآخر فرد في الزعامة، يا نسر

ويا ابن عميدٍ في الزعامة والتقى

ويا شيخ أخلاق بها يبسم الثغر

نماك إلى العلياء (أحمد)  زاهرٌ

وغذَّتك حبَّ المصطفى أمُّك الطُّهر

سنة المجاعة

سنة المجاعة التي حدد الأستاذ سعود، سنة 1358هـ تاريخًا لحدوثها، ما هي؟

لقد عرضت لها في الحلقة 20 من سلسة (ميناء القطيف مسيرة شعر وتاريخ، ولا يبعد أن بعضًا من الناشئة لم يطلع عليها هناك، ويتوق إلى معرفتها، فها هي كما قصصهتا هناك:

طيارات في سماء الميناء تسبب البطاقة

لم تكن القطيف في أيامها الخوالي كما هي اليوم، عالةً على غيرها حتى في غذائها، بل كانت – لأهميَّتها وثرائها – نافذةَ البادية على العالم، وفر لها ذلك غزارةَ في المياه، وخصوبة في الأرض، ومغاصات اللؤلؤ، وصيد الأسماك، والتجارة، حاجتها من الغذاء مؤمنة ذاتيًّا، قمن مزروعاتها الحنطة والرز الأحمر (الهندية)، لا تستورد إلا اليسير من السلع؛ كالرز الأبيض والسكر، وتصدر ما فاض عن حاجتها من منتجات النخلة: التمر والسلوق والدبس، والجريد والحصر، ومراوح الخوص، والحصر والسميم (مفارش كبيرة من الخوص)، والليمون، والصلصال ومنتجاته، الأواني الفخارية، وكذلك المنتجات الحيوانية كالجلود، والصوف والسمن، ولا تستورد إلا السكر، والمنسوجات، وكانت بها مختلِف الصناعات، كالحدادة والنجارة والقلافة (صناعة السفن)، والصياغة، والخرازة، والحياكة، وصباغة الملابس، وصناعة الجص، والحجر يتسخرج من بحرها لبناء المنازل، وغير ذلك كثر، حتى المسامير كانت تصنع فيها. ودونك ألقاب سكانها: الصائغ، الحائك، الحداد، القلاَّف، النجار، الصباغ، البناي، الروَّاي. كلها ألقاب أعطيت لحملتها من حرفهم.

إذن ما هو سبب هذه  الأزْمة التي سماها الأخ الأستاذ سعود (المجاعة؟).

أنا أسميها أزمة لا مجاعة، وأهل القطيف أرَّخوها بـ(سنة البطاقة)، وفي البحرين سموها بـ(سنة الجريش)، على عادتهم في تأريخ بأعظم الحوادث التي جرت فيها، حدث ذلك إبَّان الحرب العالمية الثانية التي نشبت بين الحلفاء ودول المحور عام 1939م، 1358هـ، ومعروف أن المملكة لم تشارك في تلك الحرب، والخليج ناء عن مجالها، لكن الطليان قرروا تعطيل آلة حرب الحلفاء، ولن يتمَّ ذلك إلا بقطع إمدادات النفط عنها، وكانت للحلفاء  مصفاة في البحرين، فطير الطليان عصر الجمعة، السابع عشر من رمضان، 1359هـ، 18 أكتوبر 1940م، أربع طائرات محمَّلةً بالقنابل ، من جزيرة (رودس) في البحر الأبيض المتوسط وهدفها تدمير مصافي البترول في بلدة المعامير، بجزيرة سترة في البحرين، وفي فجر 18رمضان، 19 أكتوبر – تشرين الثاني، اجتازت تلك الطائرات خايج القطيف متَّجهة إلى البحرين، فبلغت ثلاثٌ منها هدفها ودمَّرت مِصفاة النفط فيه، أما الرابعة فضلَّت الطريق، وانفصلت عن السرب، وعبرت أجواء الظهران، وحين شاهد قائدها الأضواء ظنَّها منشآت نفط، فألقى عليها ما تحمل طائرته من قنابل، لكنها سقطت في البر([5]).

أدَّى هذا الحادث إلى اعتبار الخليج منطقةَ حرب، فأحجمت السفن التجارية عن دخوله، ورفعت شركات التأمين ما تتقاضه على السفن وأحمالها، ولأن ما تنتجه القطيف آنذاك من الرز والحنطة لا يسدُّ حاجة السكان، اضطرت الحكومة إلى سد النقص باستيراد الحنطة والطحين والسكر الأحمر، وتقنين الأغذية، فأعطت الأسر بطاقات تموين تحدد ما تستحقه الأسرة من الرز والسكر، فأرخوا تلك الحادثة بسنة البطاقة، ويبدو أن الأزمة قد استمرت إلى ما بعد سنوات الحرب، تثبت ذلك مذكرة موجهة من هيئة توزيع الأغذية إلى الزعيم علي بن حسن أبو السعود بشأن اختياره للتوقيع على تحاويل الأغذية.  مؤرخة في 3/12/1364هـ.

ومن الطريف أن الطحين الذي استوردته الحكومة كان في أكياس من قماش الأبيض، فصار الناس يغسلونه ويمحون الكتابة منه ويخيطونه ثيابًا أطلفوا عليها: (كل والبس).

{كُلُّ يَوْمٍ هُوَ فِيْ شَأْنٍ ﮛ}. الرحمن: ٢٩.

———–

([1])مطابع الشركة الشرقية، الدمام، الطبعة الأولى، 1429م، 2008م.  

([2])قبيلة عربية كبيرة، من القبائل التي استوطنت المنطقة منذ ابدايات القرن العاشر الهجري تقريبًا، لهم وقائع مستمرة مع العثمانيين، لم تنته إلا بحكمهم لها منذ مطلع القرن الحادي عشر تقريبًا، واستمروا في حكمها إلى أن أزاحهم السعوديون عنها سنة 1208هـ. وبعد استيلاء إبراهيم باشا على الدرعية عام 1233هـ، وإنهاء الدور الأول للدولة السعودية أوكل العثمانيون الحكم إليهم، ثم استردها السعوديون منهم. انظر: بنو خالد وعلاقتهم بنجد،  عبد الكريم بن عبد الله المنيف الوهبي، دار ثقيف للنشر والتأليف، الرياض، الطبعة الأولى، 1410هـ، 1989م.

([3])العوامية بين عراقة الأمس وإبداع اليوم، سبق ذكره، ص: 260 – 261. .  

([4])علي بن موسى الربح، من أنبل من عرفت، عمل معي في أيام عملي محاسبًا في بلدية القطيف، توفي رحمه الله يوم الإثنين 12 شوال 1415هـ. رثاه الشاعر الأستاذ محمد رضي الشماسي بقصيدة مطلعها:

شاقك الخلدُ؟ أم قليت البقاء          في حياة لقيت فها عناء؟

ديوانه: عنوان الحب، إصدار مجلة الواحة، نشر دار الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1430هـ، 2009م، ص: 93 – 96.  

([5])انظر: إيتوري ميوتي، أسطورة إيطاليا الفاشية، حمد عبد الله)، الناشر المؤلف، الطبعة الأولى، البحرين،، 2010م.ص: 103 – 117.

 

اقرأ أيضاً

باقر الزاهر.. سيذكرني قومي إذا جدّ جدهم

[تعقيب] الحاج باقر رجل مرحلة

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×