الشيخ أحمد السنان.. حامل عمامة يكسب من كدّ يمينه [10] بستان السيحة وسمر في الذاكرة
عدنان السيد محمد العوامي
مدخل
ما كان من هدفي، في هذه السلسلة من المقالات، التعرض لعلماء الدين، اللهم إلا أن تعرض منهم شخصية لهذا دور متمايز عن الدور المعتاد لرجال الدين، وذلك لأسباب منها أن “سمر السيحة” سمرٌ أدبي محض، وإن حضره علماء دين أجلاء، ومنها أن علماء الدين ما يزالون بحمد الله يشرقون في ذاكرة المجتمع، والكتابات عنهم ما زالت تتوالى في كل وسائل الكتابة المعروفة، فلماذا اخترت الشيخ أحمدَ، دون غيره من معاصري ذلك السمر البهيج؟ الجواب مؤجل حتى يكشفه السائل الكريم.
أل السنان
هذه الأسرة الكريمة لها معي، أو لي معها أكثر من حكاية، أولاها بدأت بحصولي على وثيقة بحوزة ابن عمي السيد حسن ابن السيد باقر العوامي (رحمه الله)، وهي عبارة عن دِرْجٌ مؤرَّخ في يوم الخميس 29 ربيع الأول سنة 937هـ، مضمونه وقفية لأحد موقوفاتها في جزيرة تاروت، وهو بستان اسمه “زَدَّدان” ، هذا الدرج لم يكشف عراقة هذه الأسرة وما تركته من أعمال البرِّ وحسب، وإنما أسهم في تحقيق حِقبة من تاريخ الخليج لم تكن معروفة من ذي قبل([1])، بحملها ختم ملك هرمز محمد شاه، مما يعني تبعية المنطقة لجزيرة هرمز آنذاك.
وأثناء عملي على جمع شتات شاعر الخليج في عصره؛ الشيخ جعفر بن محمد الخطي، استمطرت دموعي بكائيته في رثاء أحد فتيان هذه الأسرة، وهو الشاب السعيد حسن بن محمد بن جعفر بن علي ابن أبي سنان، وكان أبوه جعفر في سفر فاعترضهم قوم من الأعراب فعاثوا فيهم نهبًا وسلبًا وقتلاً، فأصابته جراحات قاتلة، وبقي في البرِّ ملقىً بين الأحساء والقطيف، فنقل بعد يومين وبه رمق فعولج، لكن شُلَّت يداه، وسقط بعضُ أنامله، وزاد الطين بِلَّة مصادرات حاكم القطيف لبعض أمواله، ولم ينجِّه من بطش ذلك الظالم إلا هروبه إلى أوال “البحرين اليوم”، تاركًا أملاكه وضياعه لقمة سائغة في فك ذلك الحاكم الغشوم.
شيء من القصيدة
ألا تستوقف الدِّمنَ الخوالي
فتسألها عن الحيِّ الحِلال؟
عواطل بعد ما كانت زمانًا
بأنس القاطنين بها حوالي
دعاهم ريبُ دهرهمُ فبانوا
سراعًا، والمقيمُ إلى ارتحال
فعدِّ عن الديار فإن خطبًا
توخَّانا به صرفُ الليالي
أطار كرى العيون فخِيط جفنٌ
على سهر وقلْبٍ باشتعال
أوالده ولست تلام عندي
سوى شيء على وجه السؤال
علامَ غسلته من كل عيب
فجاء كقطرة الماء الزلال
ألا قولوا لحِمْيرَ حيث كانت
أولي العزمات والهمم العوالي
هذه إشارة إلى أنَّ هذه الأسرة معرقة في الشرف ضاربة الجذور في اليمن.
أصابكم الحمامُ فلم يهبكم
بأشرف أول فيكم وتال
فتى عظماء بلدته عيالٌ
عليه في المهابة والجلال([2])
سبحان الله! قرون خمسة تصرَّمت على أول ظهور لهذه الأسرة الحميرية، وما تزال تنجب فتيانًا يَمِيرون من علمهم، ويُنهِلون من معارفهم، كمن وضعنا اسمه تاجًا لهذه المقالة.
ترجمته
أنقل فيما يلي نصَّ ترجمة الشيخ فرج العمران (رحمه الله) له: (وفي الشهر المؤرَّخ حررت هذه الترجمة قضاءً لبعض ما لصاحبها من الحقِّ عليَّ؛ إذ هو أحد أستاذتي “أدام الله توفيقه”
1 – نسبه:
هو الأستاذ الفاضل الشيخ أحمد ابن المقدس الحاج عبد الله “بن عبد الله”؟ بن علي بن عبد الله بن راشد بن سنان.
2 – أسرته:
آل سنان أسرة كريمة من مشاهير أسر الوطن المحبوب (“القطيف”، قد فازوا بجميل الذكر، وحسن التاريخ، ولهم مكانة سامية، وصيت طائر في المجتمع المادِّي والأدبي، لا يزالون منذ عدة قرون أهل بيت ثروة وجلالة، ملحوظين بكل احترام وتقدير، كما تشهد به بعض الصكوك والسجلات المحررة فيها أوقاف هذه الأسرة، في كثير من أنواع الخير، ولقد بلغني أن تاريخ بعض تلك الصكوك يقرب من أربعمائة سنة([3]).
وبالجملة إن هذه الأسرة أهل بيت راسخ القدم في البلاد، مبسوط اليد من جهة المادة، معروف بعلو الجاه، ورفعة الشأن وحسن الأحدوثة.
3 – ميلاده:
ولد به في الليلة الثالثة من شهر رجب المعظم، سنة 1313هـ.
4 – سيره العلمي وأساتذته:
ابتدأ في الدرس يوم الأربعاء التاسع من شهر شوال المبارك سنة 1335هـ، فقرأ شرح الأجرومية، وشطرًا من القطر، على الفاضل الشيخ محمد حسين آل عبد الجبار([4])، وباقي شطر القطر على الفاضل الشيخ حسين بن الشيخ علي القديحي، والألفية، والنظام، والحاشية الفاضل الشيخ محمد علي ابن الحاج علي النهاش، وشرح الشمسية على الفاضل الشيخ أحمد بن الحاج علي بن عطية، والمطول، والشرائع، واللمعة على الفاضل الشيخ محمد علي بن الحاج حسن علي الخنيزي، والمعالم وشطرًا من كتاب القوانين على الفاضل الشيخ محمد صالح ابن الشيخ علي آل مبارك، وشطرًا منه على حجة الإسلام الشيخ علي أبي الحسن الخنيزي “مُدَّ ظله”، وشطرًا وافيًا على رسائل الشيخ مرتضى الأنصاري على حجة الإسلام الشيخ علي بن حسن علي الخنيزي).
هجرته إلى العراق
هاجر إلى العراق في حدود سنة 1375هـ، وأقام في النجف ملازمًا بحث المرجع الأعلى للشيعة السيد أبي القاسم الخوئي عليه رحمة الله، كما تتلمذ عليه الشيخ فرَج العمران “رحمه الله”، وولده الشيخ حسين مد الله في عمره.
في الفقرة (5) من الترجمة أرخ الشيخ العمران وفاة والده في شهر 4 سنة 1350هـ، مبينًا أنها السبب الوحيد في تركه الدراسة والنزول إلى ميدان العمل والكسب على العيال، بسبب ضيق المعيشة، ثم يبدي الأسف على ذلك محدِّدا اليوم 9 من الشهر السادس تاريخًا لبدئه العمل في حرفة أبيه وهي إصلاح آلات السلاح بأنواعه. ثم يتم حديثه ببيان العلوم التي تلقَّاها أثناء انقطاعه عن دراسة العلوم الدينية وهي: (بعض العلوم الرياضية، والقواعد النافعة في علوم شتى من بعض علماء القطيف وغيرهم، ممن اجتمع معهم في أسفاره إلى العراق أو خراسان أو غير ذلك كما يظهر لمن راجع مؤلفاته) ([5]).
مؤلفاته:
1 – تاج الجمال لأهل الكمال، ضمنه شطرًا من علم الجفر الجامع الأصلي وغيره.
2 – علم المساحة والأوفاق، ذكره العلامة آغا برزﮔ في كتابه الذريعة إلى تصانيف الشيعة بما لفظه: تاج الجمال لأهل الكمال في الزايرجات والأوفاق والقواعد الحسابية وغيرها في عشر كراريس، للشيخ أحمد ابن الحاج عبد الله بن سنان القطيفي، ساكن القلعة، المعاصر، المولود في سنة 1313هـ).
3 – منية الطالب في نيل المطالب، في معرفة الحجر والزجاج، وجملة من أصباغه.
4 – مقتبس علم الرمل، يشتمل على مقدمة، وأحد عشر مقتبسًا، وخاتمة.
5 – سُلَّم الوصل، إلى علم الرمل.
6 – رسالة مختصرة في علم الحساب ([6]).
وفاته:
توفي رحمه الله ليلة الخميس الأولى من شهر رجب سنة 1390هـ، في كربلاء، ودفن في النجف الأشرف. وقد أرخ وفاته الشيخ فرج العمران بحساب الجُمَّل المنظوم شعرًا، فقال:
ليلةٌ شٌرِّفت من الأزمان
وعلى شأنها على كِيوان
هي أولى الشهر المرجَّب ذي الفضـ
ـل، عظيم الآلا، عظيم الشان
ليلةٌ شرفت فأرِّخ بها قد
نوديَ الشيخ أحمد بن سنان
سنة 1390هـ([7]).
شهادة أحد تلاميذه
الصديق العزيز الأخ عبد المجيد سعيد الجامد، ممن تتلمذ على هذا الشيخ الجليل وافاني بشهادة تلمذة ومعايشة: (كان “رحمه الله” رجلاً متواضعًا جدًّا، يتسم بالطيبة والخلاق العالية. متدين في غير تزمت، ذكي جدًّا، محب للمعرفة، والاستزادة من العلم حتى ممن هو أقل منه تعليمًا، متعدد المواهب، اخترع بعض الأشياء منها الاستفادة من الضغط المتولد من الجاذبية، فصنع خزًّانًا للكيروسين يوضع في السطح ذا أنبوبة تربط بالدافور البريموس Primus (في الأردية: ﭼـولة)، وتنور الخباز، وما شابه، بدلاً من المضخة المستعملة في هذه الأشياء. ومسدسًا يطلق الرصاص بواسطة الزنبرك Spring، واللولب النباطي، (الرقاص)، وفي أثناء الحرب العالمية الثانية حدث نقص في المواد الغذائية المستوردة من الخارج، اخترع السكر الأحمر بتجفيف الدبس وسحقه، وصنع نوعًا من المعكرونة، بتحضير العجين وتقطيعه، إلى أطوال وأحجام مختلفة، وكان يصلح الأسلحة، مثل البنادق والمسدسات، وكان يحشو خراطيش قذائف البنادق الفارغة بالبارود، بعد استعمالها، ويصقل السيوف والخناجر، ويصلحها، ويصنع مفاتيح الخزائن الكبيرة المعروفة محليًّا بـ”الصناديق التجورية”، وباختصار كان سمحًا كريمًا، يكسب قوت معاشه بعمل يديه وعرق جبينه، بسيطًا في مظهره، ولم يعتمر العمامة إلا أثناء دراسته في العراق.
معلومات شخصية عن الشيخ
ليس لدي ما أضيفه إلى معلومات الأخ المجيد سوى أنني كنت أجالسه في صغري في بيته في حي “الزريب”، في القلعة، بحكم أن له مصاهرةً بعمي السيد حسين “رحمه الله”، وأزوره في دكانه الذي يمارس فيه حرفه آنف الذكر، فأعرف أنه بسبب تعبئته رصاص للمسدسات انفجرت – في إحدى المرات – في يده رصاصة، فبترت منه إصبعين.
أما إشارته إلى تكليف الشيخ علي بن حسن علي الخنيزي “أبو عبد الكريم” له بإمامة الجماعة، فمكانها بلدة الجارودية، وزمانها الرابع عشر شوال سنة 1345هـ، كما يفهم من رسالة الشيخ منصور آل سيف إلى أخيه الحاج سلمان آل سيف يخبره بما انتهى إليه اتفاق مراجع التقليد في القطيف على توزيع أئمة الجماعة على القرى.
——–
([1]) انظر: شيء عن الوثائق، مجلة الواحة، العدد الثاني، ربيع الأول 1416هـ، سبتمبر 1995م، ص: 16 – 22.
([2]) ديوان أبي البحر الخطي، تحقي عدنان السيد محمد العوامي، نشر مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2005م، جـ1/313 – 315.
([3]) تاريخ وقفية زدادان شهر ربيع الأول 937، وتاريخ الترجمة شهر ذي القعدة 1363هـ، فيكون عمرها آنذاك 426 سنة.
([4])في الأصل: الشيخ حسين ابن الشيخ حسين آل عبد الجبار والتصويب من أضواء على أعلام القطيف في القرن الرابع عشر الهجري، كرَّاس. إصدار مهرجان الإيمان الثقافي بحملة الإيمان، راجعه ودققه الشيخ عبد الله آل سنبل، الطبعة الأولى، 1429هـ، 2008م، ص: 14.
([5])الأزهار الأرَجية في الآثار الفرَجيَّة، الشيخ فرج بن حسن العمران، منشورات دار هجر، بيروت، الطبعة الأولى، 1429هـ، 2008م، جـ2/206 – 208.
([6])الأزهار الأرَجية في الآثار الفرَجيَّة، مر ذكره، جـ2/ 208، وجـ13/557 –
([7])الأزهار الأرَجية في الآثار الفرَجيَّة، مر ذكره، جـ13/557 – 558.
بارك الله فيك
يشكر السيد الأديب على هذا التعريف الجميل
ولكن بنظري أنّ العنوان غير موفق ، فالشيخ السنان – رحمه الله – إنما تفرغ للعمل بين مرحلتين دراسيتين من حياته – بمقتضى الظروف المشار إليها في المقال – وفي الثانية منهما اعتمر العمامة ، أي : بعد أن أمنّ حياته المعيشية وتفرغ للدراسة الدينية مجدداً .