منازل خولة.. أبعاد المكان في شعر السيد عدنان العوامي
ياسر غريب
منذ امرئ القيس في العصر الجاهلي، والشعر العربي يحتفي بالمكان باعتباره موضع الكينونة ومنطلق الهوية. ولطالما حفلت الدراسات النقدية في الشعر والرواية بعنصر المكان الذي يكشف شبكة العلاقات في العمل الأدبي.
عندما يصور الشاعر المكان فإنه سيجمع مزيجا مكونا من الجغرافيا والتاريخ والفلسفة والفيزياء والهندسة حتى يشكل أيقونته الخاصة به.
رقة الشاعر ودقة المؤرخ اجتمعتا معا عند الشاعر عدنان العوامي الذي أصدر ديوانين: (شاطئ اليباب) 1412هـ و (ينابيع الظمأ) 1438هـ، وهذان العملان مكتنزان بالأمكنة بدءا من عنوانيهما اللذين يشيران إلي حيز المكابدة.
ما إن تقرأ نتاجه إلا وتشعر بالحس الوطني العميق الذي يجعلك تعي مقولة ابن عربي: “المكان إذا لم يكن مكانة لايعول عليه”.
في هذه المساحة القرائية أتامل في أبعاد المكان في هذين الديوانين معتمدا على آلية تحليل المحتوى:
1- البعد التاريخي:
حاضرة القطيف القديمة (القلعة) أزيلت تدريجياً، أولى مراحل الإزالة كانت في بداية الستينيات. ولكنّ الإزالة التي حرّكت مشاعر الشاعر وألهمته قصيدته (وقفة على أطلال خولة) هي ما حدث في بداية الثمانينيات، في لحظة التحولات المصاحبة للتطور العمراني والزحف نحو المدنية الحديثة. كان مشهدا مرعبا كما وصفه الشاعر حين بدأت الكاسحات برفع الأبنية التي تحتوي على تراكمات التاريخ وتعبق بذكريات الحضارة الإنسانية.
إننا أمام طرفة بن العبد من جديد وهو يقف علي أطلال حبيبته، وكأن القصيدة العربية تعود بنفس الروح وبظرف مقارب:
سلاما سلاما منازل خولة
سلام الخليل تذكَّرَ خله
تذكر مدرج أحبابه
ضفافاً ومشتلَ ضوءٍ ونخلة
إن هذا المشهد المأساوي الذي رآه الشاعر جعله يستدعي الرمز التاريخي (خولة) استدعاء شموليا يتمدد في النص من عتبته الأولى إلى الخاتمة، يقول الشاعر علي مكي الشيخ في دراسة له عن هذه القصيدة: “وجاء بكلمة منازل على صيغة الجمع ولم يقل منزل لأنه ليس أمام خولة المفردة وإنما أمام خولة التي تعني له الأرض/الخصوبة وخولة الحضارة والتراث”.
إن التعبير الجمالي الذي اشتغل به الشاعر بتوحيد ملامح الأرض وملامح الأنثى في قالب واحد، والاستبطان التاريخي الذي تفرد به لم يجعلاه ينفصل عن واقعه فها هو يحذر بحس نقدي جريء من طغيان الجانب المادي على الجانب الروحي والقيمي في منطقته:
كفاك أذى من عوادي الزمان
كفاك هوانا وغبنا وذلة
بأن تتحول عنك القلوب
فيهجر إلف وتغدر خلة
ويفتك بالعشق والوجد يوما
رصيد وكشف حساب وغلة
2- البعد الاجتماعي:
تحضر عدة أماكن في الوطن مثل جدة وعنيزة وأبها والأحساء ضمن سياق اجتماعي، إيمانا بأهمية التواصل مع الآخرين، في هذه القصائد تطغى مشاعر الحب والألفة على الجغرافيا الطبيعية.
مثل قصيدته التي قالها بمناسبة تكريمه بإثنينية الشيخ عبدالمقصود خوجة بجدة 2007م
من جدة الخير، أعلى ذروة الرتب
تحث هادي الخطى للشمس والشهب
وتمتطي صهوات المجد سامقة
موسوقة بروايا العلم والأدب
وحتى لا تكون قصيدة مناسباتية فقد استثمرها بتسجيل موقف يدعو إلى التلاحم مع مكونات البلاد، ونبذ التعصب والفرقة.
وفي قصيدة أخرى في نفس الجهة يبين العلاقة التي تربط بين الساحل الشرقي والساحل الغربي بسيمائية إنسانية تجاوز الموقع الجغرافي:
ما بين جدة والقطيف مدى
أو لا فأين الهُدْبُ والهُدْبُ؟
كلتاهما جفنان بينهما
عينٌ وقلبٌ ضمَّهُ خِلبُ
3- البعد السياسي:
يفرِّق أدونيس في كتابه (زمن الشعر) بين السياسة والشعر بقوله: “السياسة تعنى بالعمل والتنظيم والتخطيط والتطبيق على شكل معادلة أو صيغة أو وعد، والشعر يعنى بالكشف وتهديم الأطر الجامدة والتطلع إلى مجال أرحب بالحرية المطلقة”.
تتغلل الإشارات السياسية عند العوامي طواعية، ربما من تأثير المناسبة التي يكتب عنها مثل قصيدته (بكائية الزمن) التي قالها في حفيد السيد مصطفى جمال الدين (يقظان) الذي ولد في رفحاء التي ضمت مخيماتها اللاجئين العراقيين بعد حرب الخليج والانتفاضة الشعبانية:
كيف جن الزمان وانفجر التار
يخُ يعوي وجلل البركان؟
فاستدرات خريطة الأرض ليلا
فإذا الزور غربها ميسان
كيف هبت جحافل القدس شرقا
وبـ (يافا) تبدلت طهران
وإذا كربلاء والنجف الأشـ
رف صارت مكانها بيسان
هكذا يستعرض عدة أماكن ضمن التحولات السياسية بصورة غرائبية، كيف للمتلقي أن يفهمها دفعة واحدة وهي شبكة معقدة من الأحداث المتوترة ؟، وتتسع قوافي قصيدته لـلمزيد من النونيات المكانية (لبنان، دايان، لوزان، خيطان،… )
4- البعد العاطفي:
تتضاعف أهمية المكان عند الشاعر بوجود الحبيبة التي تحل ملامحها في كل جزء من الأرض، إن (حب من سكن الديار) عقيدة شعرية تبناها مجنون ليلى، وها هي تتجلى أمثالها في قصيدته (صفوى) التي كشف فيها سر هذا الحب بعدما تجوَّل في الطفوف وبرزان أو (بارزان) – كما ينطقها أهلها – وجاوان المنطقة الأثرية وعين داروش المشهورة بتدفق مياهها:
فرفقا إذا قبلت رمل طفوفها
وعانقت في أحضانها النخل والسروا
ولامست كثبانا بها مشرئبة
تهدهد فيه العطر والدفء والصحوا
فإن بها ظلا لطيف حبيبتي
وأخشى عليها الضوء يوقظها سهوا
ألم ترها يوما تسرح شعرها
بـ (داروش) كالموال مسترسلا حلوا
ربما نقرأ هذه الحبيبة كامرأة بقراءة مباشرة، وربما وقع تأويلنا على أنها النخلة مثلا.. لكن علي أية حال فإن شاعرنا العوامي لديه مهارة فائقة في إلغاء الفوارق بين الأنثى والمكان، ويتضح ذلك أيضا في قصائده عن تاروت، وفي قصيدته (حبيبتي والأرض) التي تطرق إلى هذه الثنائية التي تسيطر فكرتها على شعره عموما.
كانت الأرض إطارا مرجعيا في تجربة السيد عدنان العوامي الشعرية، ومن جزيئات التراب تشكلت سيرته الذاتية، يرى غاستون باشلار في كتابه (جماليات المكان) أن “الشاعرية المكانية تتوجه من الألفة العميقة إلى المدى اللانهائي”.
لك أن تتخيل مدى الانتماء وحقيقة العشق، ومعنى التوحد الجسدي والروحي عندما يقول في لحظة وجودية مقاومة للعدم والزوال:
فبعْ ترابك، لا تشغلك معضلتي
دعني هنا مُطبقا صدري على وطني
يعطيك العافيه على الموضوع الرائع والمميز
احسنت بارك الله فيك وجزاك الله خيرا