الحال والمآل الثقافي في القطيف مجتمع مستهلِك لمنتجات الآخر

محمد العباس

ما إن يُفتح الحديث حول واقع ومآل الثقافة في القطيف حتى تُستدعى زيارة عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطىء) إلى المنطقة مطلع الخمسينيات من القرن الماضي كدليل على نهضة ثقافية مبكرة. وقد ظلت وما زالت زيارتها التاريخية تلك تُستذكر بشيء من التباهي والاعتداد بالمكان ورموزه الثقافية والروحية خصوصًا عندما كتبت “وقد رجعت الى مصر، أرى حقًا عليّ أن أنقل إلى قومي بعض أصداء ذلك اللقاء ليعلموا أن على ساحل الخليج في أقصى الشرق من جزيرة العرب علماء مجتهدين وأدباء موهوبين”. وهو ما أعطى لتلك الكتابة مفعول السحر في الأوساط الثقافية القطيفية، فهي شهادة من كاتبة شهيرة آنذاك. وهذا هو ما يفسر استمرار مفاعيلها إلى اليوم في مجتمع يعاني من إحساسه بأقلويته وهامشيته، ويبحث في التاريخ ما يقاتل به لإثبات جدارته الثقافية.

كتبتْ بنت الشاطئ أيضًا “كم تألمتُ وأنا أصغي إلى حديث أدباء القطيف عن معاركنا النقدية ومذاهبنا الفنية.. وكم خجلتُ وأنا أرى في أيديهم كتبنا ومجلاتنا نحن الذين لا نشعر بهم أو نلقي اليهم بالًا”. وهذه المقولة الذهبية بمنظور مثقفي القطيف بقدر ما تشير إلى عصرانيتهم في تلك اللحظة ومحايثتهم لما يُنشر عربيًا، تستبطن بُعدًا لا يخلو من السلبية حد التبعية، إذ تحيل المقولة إلى مجتمع ثقافي مستهلك لمنتجات الآخر، تمامًا كما كان يحدث في الحجاز الذي انقسم في مرحلة من المراحل إلى عقاديين وطه حسينيين. بمعنى أن المجتمع الثقافي القطيفي آنذاك لم يكن في طور الإنتاج المعرفي، بقدر ما كان صدى لما يُكتب في بغداد والقاهرة. وهذه جدلية تحتاج إلى فحص مجمل المنتج النصي والمعرفي للوقوف على جدلية التأثر في مجتمع ما زال يتكرس وجوده كهامش في كل مناحي الحياة، وليس كمركز لإنتاج الثقافة. فمنذ تلك الزيارة التي أرّخ بها أدباء القطيف مجدهم الثقافي لم يراكموا أي منتج معرفي أدبي يذكر، ولم يُسهموا بما يميزهم عن أدباء الوطن الذين كانوا يتقدمون في كل حقول المعرفة والأدب.

لكل مجتمع نصوصه الأدبية والسياسية والاجتماعية والدينية التي يبدعها أبناؤه لا تلك النصوص التي يستعيرها ويضعها في حيز الاستعمال. ومن يبحث في المجتمع القطيفي بمسح أفقي، أو بشكلٍ حفري عمودي، سيرتطم حتمًا بفراغ موحش، إذ لا ذات قيمة نوعية خلال مرحلة ما قبل الألفين الميلادية، بدليل الغياب شبه التام لمثقفي القطيف عن معركة الحداثة التي أشعلت الساحة الثقافية إبان الثمانينيات والتسعينيات، وتأخر صدور الروايات أيضًا مقارنة مع كان يحدث من انفجار روائي في مختلف أرجاء الوطن، وهو ما يؤشر إلى مجتمع بارد غير قادر على سرد نفسه مكانًا وإنسانًا، بتحليل كلود ليفي شتراوس. وكذلك التردد حد الامتناع عن اقتراف قصيدة النثر، التي تشكل فضاءً تعبيريًا على درجة من التلازم البنيوي مع نثرية الحياة وحداثتها. وكل هذه الارتباكات وغيرها صور التلكؤ، بقدر ما هي مظاهر لنكوصات أدبية هي أعراض لاعتقادات وأداءات ثقافية راكسة في التقليدية والمحافظة تحيل إلى وعي قروي يحكم مجمل عملية إنتاج النصوص.

منذ مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، حيث الإعلان عن الصحوة الشيعية، دخل المجتمع القطيفي مرحلة انكفاء هوياتي داخلي. وعليه، تراجع الكُتّاب والأدباء إلى الوراء لصالح رجال الدين والوعاظ، وبهذا تم الاستحواذ على الخطاب الثقافي وصودرت كل أدوات الإنتاج المعرفي الأدبي لصالح المنابر الدينية. وفي ظل ذلك الطقس الكهنوتي القاتم لم يعد بمقدور أي كاتب أن يحظى بمكانة أدبية أو اجتماعية ما لم يكرّس خطابه للولائيات، وعلى أقل تقدير الرومانسيات. كذلك كان المجتمع الثقافي القطيفي بشكل شبه تام يبني استراتيجياته الثقافية وفق رؤية أقليمية ضيقة لا تتقاطع مع الرؤى الوطنية ولا تتسق مع ما كان يُطرح من قضايا ثقافية منفتحة على كافة الخطابات، بسبب سطوة الطائفة وارتباط الثقافي بالاجتماعي والسياسي. وهذا هو ما يفسر غياب هاجس الحداثة الأدبية، ومراوحة المثقف القطيفي في المربع الأول لكل ما هو تقليدي ومحافظ من الوجهة الثقافية.

ومن جانب آخر كان المجتمع القطيفي يزدري العلوم الإنسانية كتخصصات أكاديمية مقابل حالات نبوغ صريحة في مختلف التخصصات العلمية. وهذا بطبيعة الحال ناتج عن منظومة عوامل يأتي في مقدمتها الخوف الأقلوي من المستقبل والرغبة في تأمين الضمان المهني. وهو منحى أفقد المجتمع القدرة على إنتاج النصوص والمعارف، حيث أوكلت المهمة لمنابر الوعظ والخطابة. وهذا هو ما يفسر وجود كوكبة لافتة من المصرفيين والأطباء والمهندسين والإداريين، مقابل وجود لا يكاد يُذكر من المسرحيين والإعلاميين والنقاد والفنانين. الأمر الذي أسبغ على المجتمع هوية مظهرية محافظة، وهي هوية مزيفة بطبيعة الحال لأن مفاعيل المجتمع الثقافية والمهنية كانت متوارية وراء حجاب كثيف لا يسمح إلا بظهور الذوات التقليدية. حيث لم يكن المسرح يتسع لبروز التكنوقراط في ظل سطوة رجال الدين.

خلال فترة الغياب تلك لم يكن المجتمع الثقافي القطيفي صامتًا تمامًا، فقد كُتبت الروايات والنصوص المفتوحة وقصائد النثر ورُسمت اللوحات المنفتحة على الأساليب الحديثة، وظهرت بعض النصوص المسرحية المتجاوزة، إلى أن انفتح المشهد باتساعه مع بداية الألفين الميلادية، مع طرقات ومهبات العولمة، حيث تكثّرت النصوص بمختلف الاتجاهات، واحتلت اللوحة الحديثة مكانة متقدمة، وتفجرت قدرات الشباب المسرحية والسينمائية، وبذلك انمسحت الحدود ما بين مثقفي القطيف ومثقفي الوطن، حيث سقط رهاب (الآخر) من خلال جيل جديد قادر على الإنتاج والتجديد. وإن كان كل ذلك لا يعني هزيمة كل التحديات، فما زال معظم مثقفي القطيف يئنون تحت وطأة طقس المحافظة وديننة الوعي، ويعانون أكثر من عدم القدرة على تحقيق نصاب أدبي يلفت نظر الآخر ويحقق معادلة إنتاج وتوطين الرموز الثقافية على الرغم من وفرة الإنتاج التي لم تتحول بعد إلى قيمة نوعية.

‫7 تعليقات

  1. العباس متميز كحصيلة ثقافية ولكنه تابع للغرب من حيث المحتوى الذي يقدمه ومكرر لمقولاته فما هو الجديد في ذلك يا أستاذ عبد الباري ؟ كيف ينتقد القطيف بالتبعية للمراكز العربية وهو تابع للمراكز الغربية ؟ ما الفرق ؟ وأين هو المنتج الذي يعبر عن ذاتك وإبداعك الخاص وبصمتك في ما تقدمه يا أستاذ عباس؟ إنه نتاج غربي مترجم، جميل أنك تواضعت وكتبت عن القطيف

  2. آن الأوان لنفكّر في إبراز العمل المغاير تماماً، في شتى المناطق.
    فتحديد المشكلة هو بداية حل، في مجتمع متقوقع ومهوس في قالب مموّج بالتشابه والتكرار المقزز الذي أنتج لنا ثقافة خانقة، خائفة من الانفتاح الفكري والاختلاف والتنوع، وكأن اللغة غير ولّادة!!

  3. سهل ان نلقي اللوم على شريحة من المجتمع.. وهي تستحق اللوم!
    ولكن!
    نحن كمجتمع (المثقف تحديدا) سهلنا المهمة بسبب الغياب شبه التام عن الساحة..

    السؤال للكاتب الكريم: لماذا المجتمعات الشيعة الأخرى حافظة على التوازن؟
    وهل الكفاءة كانت شبه منحصرة بمن ذهب للنجف، او درس عند من قدمو من هناك؟

  4. من الجميل ان تكون لنا القدرة على تفهم النقد الايجابي البعيد عن تمجيد الذات او جلدها، والافضل ان يقدم الناقد تحليله مقرونا بمقترحات قابلة للنطبيق، و التي تأخذ في عين الاعتبار جميع الظروف المحيطة بموضوع النقد.

  5. أتصور أن إثارة كتابة هذا المنشور هو ما نشره محمد رضا نصر الله مع الشاعر أبي قطيف عبد الله الجشي على قناته في اليوتيوب أمس، وهو ذكر زيارة بنت الشاطئ.. ولا مجال هنا لتوضيح درجة الازدراء الذي يعيشه محمد العباس تجاه مجتمعه القطيفي؛ ولربما توسع ليطال المملكة بأكملها وهذا محط نكتة بين أصدقائي والله العظيم، محمد العباس ومن سانخه من الذين لا يعجبهم العجب ههههههه وهذا ما يجده ويتكمن من اكتشافه الجميع إذا سمعوه متحدثا بهذه القسوة ولربما ذلك لسقفه العالي ولا ننكر الحق نعم فهو مكثر في كتابته من تعداد أسماء مغنين وروايات وكلها قشرية ولا تعرف إلى اللباب طريقا وهذا رأس ماله الثقافي. كرر العباس في هذا المنشور تحقير وتحجيم الحركة الأدبية في القطيف ولا أدري من كان يضارع القطيف آنذاك.. ولو كان منصفا لوضع وقارن ليجد ان القطيف الموغلة في الحضارة بحسب الاحافير كانت محلا قبل الميلاد لمن أسس لحضارات العراق والشام وهي إبان الخمسينات مكان تقصده مثل بنت الشاطئ وتكتب عنه بهكذا دهشة وإجلال وكانت الكهرباء غير متوفرة والشوارع غير مسفلتة.. بل حتى أن العلامة حمد الجاسر كان يقصد القطيف لكي يقرأ وينهل من مكتباتها كما هو معروف ومذكور ذلك في غير موقف.. نبرة تحقير ونسبة ان التخلف الذي يريد العباس إثباته ثم يريد أن يضع له مسببات نبرة واضحة ومكشوفة السوأة، وهو صرح بها ان التدين هو المانع من الحضور على المستوى الثقافي ويستمر في تحقيره للشعراء بنعتهم شعراء الولاء، والواقع هذه عنصرية مقيتة من محمد العباس، ولا أدري كيف يجرؤ على الكتابة بهكذا نبرة وهو ممن يُنظر إليه كحداثي..
    موضوعة الدين والطائفة لا شغل لها بالمنتج الأدبي فمثلا نجد من الشعراء النصارى وكذلك الخوارج الفجاءة بن القطري أو مثلا الأخطل و ميخائيل نعيمة والكثير الكثير وش علينا من مذهبهم وديانتهم المهم ألا يختلف اثنان على إبداعهم

    يكفي ان القطيف كانت تسمى النجف الصغرى وفيها نبغ مراجع دين وأما اليوم فلو أنصف الدهر وقورنت مع غيرها فإن لم تتجاوز فهي مضارعة و منافسة لا مستوى المملكة بل حتى العالم العربي والشعراء القطيفيون أكثر مما يتوقع ولا يصح مقارنة المبدعين في التخصصات العلمية والطبيعية رغم ان تلك التخصصات هي بطبيعتها مهنية بمجال الملهمين و المبدعين في الأدب والشعر والمسرح والتمثيل إلا أن الحراك الذي لا يعرفه العباس أو لا يريد أن يعرفه يفرض نفسه ففي كل قرية من قرى القطيف منتدى أدبي وثقافي قد لا يكون لهذه الكثرة والوفرة مثيلا لا سابقا ولا حاليا في المحافظات الأخرى، وفي النهاية نقول برغم كل ذلك يظل العباس احد الأسماء التي بزغت في القطيف التي لا يرى فيها أحدا مبدعا قط هههههه

  6. ملاحظة جميلة من قارئ واعي وناقد ملم
    للاسف الشديد فان المثقف القطيفي لم يكن مقداما امام الحالة الدينية او المناطقية او الطائفية وقد سبب هذا الوجوم خلو الساحة للوعاظ وغيرهم
    ومن كان مقداما مثل الصديق الكاتب فانه وجد له منبرا بل منابر لطرح افكاره

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×