[مقال] محمد الحميدي: أيها الشاعر.. هيتَ لك
محمد الحميدي
ببطءٍ اقتربْ، لا تعبث مع أحد سواي، أنت الآن في حضرة الذات، ولا قبلك من أمم، ولا بعدك من قبائل، انسَ حياتك السابقة، لحظة الكشف، أمامك، فالتقطها، ولا تعجل، ببطءٍ شديدٍ، حد التوقف، التقطها، لا تخف، سندعوها “الفكرة”.
أ تساءلتَ يا صديق الروح؛ عن العلاقة التي تجمعك بالقصيدة، ما هي؟ من أين تنبعُ؟ كيف تتشكلُ؟ ما المشتركات بينك وبينها؟ لماذا تنغمس في كتابتها وكأنك إلى الأبدية تسعى؟ أ ليس لديك سيطرةٌ على حواسك ومشاعرك؟ إذن؛ اكتب حتى أتهيأ لك!
التساؤل الأثير لديّ حاليا، ينحو تجاه العلاقة بين الشاعر والقصيدة، كيف يمكن وصف هذه العلاقة وبأيِّ أدوات تُقارب؟ الشكوكية منهج ديكارت، وبه اصطدم طه حسين بالمجتمع المصري، بل العربي، فمصر حاميةُ الثقافة وحاملة مشعلها ذاك الزمان، ولا تزال، لكن، للسؤال إجابة، ككل الأسئلة، فليس معقولا أن يبقى مفتوحا على العدم!
الشاعر هش، رقيق، خفيف، ريحٌ لا تأتي عاصفةً، بل غربيةً ماطرةً، تستهلك قوتها في إنتاج المطر ونثره على أرض الناس الجدباء، وهنا مكمن سرها، فالقصيدة التي لا تلامس الأرض، لن تصل إلى محبة الجمهور، وهنا أيضا مقتلها، فالجمهور قوةٌ لا يستهان بها في عالم الشعر.
لحظة البَدء، اللحظة التي ينتشي شاعر بفكرةٍ، تستولي على شاعريته وتملأ كفها من الإناء، تغمسُ ذُبالة الريشة في المحبرة، حينها لن يحيد عن الطريق المرسوم، وسيكتبُ القصيدة، أمَّا مِن أيِّ نوعٍ أو بأيِّ كيفيةٍ، ولمن وما أهدافها، فتلك أسئلة مؤجلة!
القصيدة أنثى، تاء التأنيث تعطيها الحقَّ في التلاعب والعبث، غنجها ودلالها يلهمانِ الشاعر، ويدفعان به إلى الكتابة، لا تُتصوَّر القصيدة كذكر، أبداً، سيصيبها النسيان، وستغدو خارج الزمان، إذا ما تجرأت وأبدلت ملابسها، أو قامت بتغيير جنوستها، فلتبقَ القصيدة كما هي؛ أنثى شامخة، وليستعدَّ الشاعر للولوج داخل أعماقها!
لنرى؛ القصيدة أنثى جميلة، وفي داخلها جنينٌ يتكون، الجنين فكرة أزلية اختلطت بماءِ الشاعر، تعهدها بالرعاية والاهتمام، لتنمو بداخل الجسد الجميل، حتى تكبرَ وتتعملقَ، وتحين ساعة الولادة، فلا بد للجنين من قطع حبل سُرَّته عن أمه القصيدة، والشاعر وحده من يمتلك السكين!
انفصال الجنين؛ إنجابٌ للمعنى، وخروجٌ عن سيطرة الأب الشاعر والأم القصيدة، حياةٌ أخرى يمارسها، إنما في عقول الجماهير، لن يطيع المعنى أباهُ، أو أمَّهُ، فلكل ابنٍ استقلال بذاته، عن غيره من الذوات، والمعنى ليس شاذاً عن قاعدة الحياة، يستقل المعنى ويحيا، داخل الجمهور!
أنت أيها الجمهور، حين تستمع إلى قصيدةٍ من القصائد، لن تحمل معك إلا معنى؛ طفلاً، وليداً، الشكلُ يتغير، يكبر الأطفال مع الزمن، ولكنهم يستمرون في الحياة، ويزدادون تألقاً بمرور الوقت، المعنىْ يزداد تألقاً واتِّساعاً، كلما تقادم الزمن، وأنت وحدك من يمتلكه!
العجينةُ الطيِّعة، سهلةُ التَّشَكُّل، مع الزمن صارت أقسى، والمعنى الواحد، بات متعدداً، فما قَصَدهُ الشاعر ليس حتميَّ البقاء والاستمرار، أنت أيها القارئ، لك الحقُّ في إعادة تشكيله وصياغته، فالابنُ ضالٌ، وعليك هدايته، قبل فوات الأوان!
أن تَهدي القصيدة معنى؛ أي تعيد إنجابها مرة تلو مرة، ولا لومَ عليك، فالآباء الجدد، يقتلون المعنى القديم، يتصوَّرونه لا يناسب زمنهم / حياتهم، يتصوَّرونه عالما موحشا، جزيرة جرداء من الحياة، وعليهم أن يملؤوها بالمعنى، وحدَه الشاعرُ مَن ظنَّها تعيش الأبدية، دونَ أن تتأثر، هل أخطأ؟ ربما، ولكنه أنجبها وهذا يكفي!