خاتون العوامي.. قصة بغدادية حولتها إلى معلمة في القطيف غيرت بوصلة الوظيفة من أرامكو وتقاعدت دون رغبتها

القطيف : ليلى العوامي

تندرج خاتون السيد حسين السيد حسن العوامي، ضمن جيل كبير من المعلمين والمعلمات السعوديين، الذين تعلموا في جامعات العراق، قبل أن يعودا إلى الوطن، ويقمن بدور لا يُستهان به في العمليتين التعليمية والتربوية داخل مدارس المملكة. قضت خاتون أكثر من ثلاثة عقود في مهنة التدريس، قبل أن تتقاعد دون رغبتها، وخلال هذه السنوات، كان لخاتون أسلوبها الخاص في التدريس والتعامل مع الطالبات.

وخاتون، وهي من مواليد القلعة بالقطيف، تنتمي لأسرة أحبت العلم والتعليم، وتوارثته، فجدتها لابيها هي “بيبي محمد أبو زهيرة” (أم سيد حسين)، معلمة قرآن كريم، علّمت أجيالاً في الكتاتيب، وذاع صيتها في منطقة  القلعة، ومن قبلها كانت والدتها (أم الخير بنت الحوري) معلمة جليلة، ذات مكانة عالية بين نساء منطقتها، حتى بات مجلسها يُعرف بـ”مجلس بيت الحوري”. وفي مبادرة “ما نسيناكم”، التي أقامها مجلس الشرقية للمسؤولية الاجتماعية عام 2015، تم تكريم عدد من الشخصيات المعطاءة  في المجتمع، وكانت من بينهم الجدة أم سيد حسين، وذلك في حفل بهيج، برعاية الأميرة عبير بنت فيصل بن تركي، حرم أمير المنطقة الشرقية الامير سعود بن نايف ـ حفظه الله ـ.

تلقي العلم

درست خاتون المرحلة الإبتدائية في منطقة باب الشمال في مبنى القطري، بعد خروج نادي الشاطئ الرياضي المسمى الآن بـ”نادي الترجي” منه.

ثم أكملت المتوسطة في منطقة “السطر”، وأنهت الثانوية بالمدرسة الثانوية الاولى للبنات بالقطيف، عند إمارة القطيف “سابقاً”، أو الثانوية الرابعة في “حالياً”، وكانت تدرس في القسم الأدبي فقط، أما من تريد أن تدرس في القسم العلمي، فعليها الذهاب للدمام.

وتقول خاتون متذكرة أيام الدراسة: “معلماتنا كن من الجنسيتين المصرية والعراقية، أما المديرة فكانت فلسطينية، وكان الصف مكتظاً بالطالبات من فئة أعمارنا، مع طالبات أكبر منا سناً، ممن توقفن عن الدراسة في المراحل الدراسية السابقة، لعدم وجود فصول دراسية أعلى في وقتها”. وتضيف “أتذكر مبنى المدرسة الحكومي ورحابته، إذ لم يكن المبنى مستأجراً، كما هي الحال في بعض المدارس الان، فكنا نلعب الكرة و”الخطة” و”النط على الحبل” في فترة الفسحة، ونتمشى في فناء المدرسة الداخلي جماعات جماعات وشلل صغيرة، نضحك ونلهو ونساند بعضنا في السراء والضراء، كان مستقبلي الدراسي واضحاً في ذهني منذ البداية، فلقد عشقت دراسة علم النفس، ولا أجد نفسي في تخصص غيره، وهذا ما تم بالفعل”.

في بغداد

وتعتبر خاتون  من أوائل بنات القطيف ممن توجهن إلى العراق فيما بعد، للمتابعة والتسجيل في جامعاتها مع خمس فتيات من العائلة والاصحاب. وتتذكر خاتون فترة الالتحاق بالجامعة، وتقول: “‎التحقت بجامعة بغداد عام 1975-1976 (قسم الاداب) فرع علم النفس، لمدة سنتين، فقد كان والدي ـ يرحمه الله ـ محباً للعلم وداعماً ومشجعاً قوياً لنا لإكمال دراستنا الجامعية، فقد طلب من أخي الكبير التوجه لبغداد، وتسجيل اسمي في جامعة بغداد، بعد البحث والمقارنة بين جامعات عدة دول عربية، تمت زيارتها والإطلاع عليها وعلى متطلبات القبول فيها”.

 ‎وعاشت خاتون في السكن الداخلي للجامعة، الذي كان قريباً جداً من الجامعة، التي كانت تتوجه إليها يومياً مشياً على الأقدام، وتقول خاتون: “مع تنوع الجنسيات داخل السكن، ازدادت آفاق معارفنا بالناس وأحوال معايشهم وأفكارهم وتوجهاتهم الاجتماعية، وكونّا صلات ود ومحبة وصداقات استمرت مع البعض حتى اليوم”.

بعد الزواج

بعد زواجها، أكملت خاتون دراستها الجامعية في كلية “شابمان”، التي تحولت فيما بعد الى جامعة “شابمان” في مدينه اورنج وفي التخصص نفسه. إذ كان زوجها طالباً في الكلية نفسها، فكانت مناسبة أيضاً لحضورهما المحاضرات سوياً، وتخرجت خاتون عام ١٩٨٠م ودرست سنة ماجستير في علم نفس التطوري، حتى أنهى زوجها دراسته، ورجعا للبلاد عام ١٩٨١م .

‎بعد عودتها من الولايات المتحدة الأمريكية، توظفت خاتون في أرامكو السعودية لمدة سنة ونصف السنة، واثناء ذلك، أنجبت أول أطفالها، ولعدة أسباب، قررت تغيير وظيفتها، وبمشورة من اختها، التي كانت تصغرها، التحقت بقطاع التعليم بعد ستة أشهر، إذ كان الطلب متزايداً آنذاك على المعلمات، فتم قبولها سريعاً.

‎وتقول خاتون: “من الطريف انني في أول سنة دراسة، درسّت طالبة فلسطينية، اكتشفت فيما بعد أن أمها كانت مربية فصلي في الصف الأول الابتدائي، وكانت محبوبتي وقريبة من قلبي، رغم قساوتها علينا في بعض الاحيان”.

حياة المعلمة

تواصل خاتون حديثها: “في السابق، كنا نحتفي بيوم المعلم، أثناء الطابور الصباحي، ومع تعاقب الكثير من المديرات، كان بعضهن ينظمن حفلات صغيرة أثناء الفسحة، يتم فيها توزيع الورد على المعلمات وشهادات شكر للمتميزات منهن،  وكان أغلبنا يحصل عليها، فقد كانت مدرستنا الثانوية الثانية بالقطيف في طليعة المدارس التي تميزت  بوجود كوكبة كبيرة من المعلمات المخلصات المتفانيات والمتميزات في تخصصاتهن، يساندهن مجموعة من الاداريات الرائعات”.

وتتابع خاتون: “كان نصابي في البداية قليل، لا يتعدى ٦ حصص في الأسبوع، حتى زاد العدد إلى ١٥ حصة والسبب، كثرة اقبال بنات القطيف على الدراسة العلمية أكثر من الادبية في حينها، وقلة نصاب التدريس عرضني للقيام بأعمال إدارية كثيرة داخل المدرسة، مثل أعمال الكتابة والمراقبة والنشاط والارشاد الطلابي في بعض الاحيان، وأيضاً لقلة مدرسات المادة في حينها، كنت أتعرض سنوياً للانتداب لمدارس اخرى، درسّت فيها مادة علم النفس للصف الثاني الثانوي، ومادة علم الاجتماع للصف الثالث الثانوي (القسم الادبي).

طابور الصباح

وتتابع: “‎كنا نبدأ يومنا الدراسي بطابور الصباح في الساعة ٦:٤٥ ولمدة ربع ساعة، بصفوف تملأ الساحة الداخلية المفتوحة على الفضاء، تتقدم كل صف معلمة الحصة الأولى، وهي على أهبة الاستعداد، لتبدأ يوماً جميلاً ملؤه العطاء والمحبة، فتصدح فيه أصوات الطالبات الجميلة المبدعة بتلاوة قرآنية، بعدها نبدأ في مواضيع  ثقافية متنوعة، باشراف المرشدة الطلابية، وبعض مدرسات اللغة العربية،  لقد كانت المواضيع متنوعة تُوزع مسؤولياتها على الفصول تارة، وعلى الجمعيات (فرق النشاط ) تارة اخرى، وتشارك فيها المسؤولة عن المكتبة ومصادر التعلم في بعض أيامها. وينتهي الدوام الدراسي الساعة ١٢:١٥ في بعض السنوات، والواحدة في سنوات أخرى، حسب رؤية المديرة والتعاميم الواردة الينا”.

مساعدة المعلمات الجدد

وتقول خاتون: “قررت ومعي  4 مدرسات علم نفس، والاجتماع، وضع جهود مكثفة لتحليل المادة واستخراج أهدافها وعناصرها، وتم ذلك بصورة دورية في نهاية كل أسبوع، مع فسح مجال لتفرد كل واحدة منا في الشكل النهائي للدروس، وبذلك حققنا المساندة الجماعية اللازمة التي تحتاجها كل واحدة منا”. وتتابع “يجب أن أنوه بأن هذه الفكرة استحسنتها وتبنتها إحدى موجهات المادة لمساعدة المعلمات الجدد على تحسين أدائهن وامدادهن باللبنات الاولى المؤسسة لتعليم أفضل، وتم من خلالها عقد اجتماعات دورية لتحقيق ذلك”.

موجهة المادة

وتتذكر خاتون قصصاً مع زميلاتها الوافدات، وتقول: “صادفت موجهتين من الجنسية المصرية في السنوات الاولى من عملي، وحوالي ثلاث سعوديات، حتى تقاعدي، كانت موجهتي الأولى (مرشدة المادة) استاذة مصرية ذات هيبة ووقار سناً وشكلاً، قد تنبأت لي بمستقبل مشرق في مجال التعليم، والطريف فعلاً انني لم أكن اتخيل نفسي في يومٍ من الايام أن امتهن التدريس، فضلاً عن أن أبرع فيه”.

مسؤوليات لا تنتهي

وتقول خاتون العوامي: “كثرة مسؤوليات المعلمة من تحضير الدروس وكتابتها يدوياً في سجل التحضير في السنوات الاولى للتدريس أو الاستعاضة عنها بالتحضير الالكتروني، واستخدام الكمبيوتر في السنوات الاخيرة، وكذلك التخطيط لعمل وسائل تعليمية ومتابعة كراسات الطالبات، ووضع الامتحانات وتصحيحها ورصدها، كل هذه الأعمال وغيرها، كانت تنفذ داخل المدرسة وللمنزل نصيب منها، ما يزيد العبء على المعلمة، فهي تشتغل أثناء الدوام وخارجه، وتضاف اليها أعباء ومسؤوليات الام والزوجة، وأهم ما كنت أركز عليه لدى بناتي الطالبات، هو الحصول على الشهادة، والتطلع للشهادات الجامعية العليا، لأنها سلاح المرأة في زمن لايرحم الضعيف، كنت أركز على أهمية استقلال بناتي مادياً، لانه يعطيهن مكانتهن اللائقة بهن في البيت والمجتمع، ويجعل منهن عضواً فعالاً ومؤثراً  في المجتمع، حتى تلعب المرأة دورها الطبيعي فيه، ويبعد عنها غدر الزمان”.

شدة المعلمة

التعليم يتحقق ويثمر بين مطرقة الترهيب وسنديان الترغيب، بين الشد والجذب، وهذا ما يستدل عليه من القرآن الكريم ، واستخدام هذين السلاحين فن لابد للمعلمة من اتقانه حسب طبيعة الشخص والموقف والظرف. ومدى تأثيرهما الايجابي، يتضح في سلوك الطالبة وتغيرها المطلوب، وأنا لا أدعي الكمال والتمس العذر في حالات التقصير، فأنا كبرت بين طالباتي ومعهن وبهن، فشكراً لكل طالبة منحتني الفرصة لأكون إنساناً أفضل، ومعلمة أكفأ، وشكراً لكل طالبة منحتني ثقتها، وسمحت لي أن أُشعل شمعة بداخلها أنارت عتمة دربها في يوم من الايام”.

العمل والأسرة

وتقول خاتون: ‎”قضيت ٣٢ سنة في صفوف التدريس، قبل التقاعد، ولو خُيرت بين التقاعد والبقاء في التعليم، لاخترت البقاء، فالعمل عندي عبادة، وأصبح التعليم هو رئتي التي أتنفس بها الحياة، فصناعتي هي بناء الانسان القويم، وأكثر ما يجذبني في التدريس هو رؤية الطالبات (بناتي) كما كان يحلو لي أن أسميهن، ينضجن أمامي في الفكر والنظر للمستقبل بجدية، فهن كالورود النضرة المتطلعة للتفتح على عالم لا يرحم الضعيف والمتكاسل”.

وتضيف “‎بحكم تخصصي، فقد كنتُ كالممرضة التي تمسح آلام بعض أجساد المتعبين، إلا انها كانت آلام النفس وضبابية معرفتها، انها كانت في سن من أشد سنوات العمر حيرة وحساسية، وهي مرحلة المراهقة”.

‎وتتحدث خاتون العوامي عن عائلتها قائلة: “عائلتي تفهمت ثقل مسؤولياتي، وزوجي مدني بالعون اللازم من خلال مساهمته في تحمل بعض الشؤون والاعباء المنزلية ورعاية اطفالنا.

 إلغاء علم النفس والاجتماع

وتقول خاتون: “تم الغاء تدريس مادتي علم النفس والاجتماع، بعد تقاعدي واستعيض عنهما، بمنهج المهارات الحياتية، الذي يركز أكثر على جهود الطالبات، وأصبح دور المعلمة توجيهياً فقط، والطالبة هي من تبحث وتستقصي المعلومة، وتقوم بأعمال ميدانية وبحوث، وهذه خطوة ممتازة، وأسلوب جيد في التعليم”.

كلمة للمعلمات والطالبات

وتوجه خاتون كلمة لزميلاتها المعلمات قائلة: “اختي المعلمة، مهنة التدريس من أشرف المهن، فهي تربي الانسان، وترتقي به، وربما كلمة طيبة منك تعطي الأمل لنفوس مليئة بالاحباط والتخبط، فلا تبخلي بكلمات التشجيع والمؤازرة والتوجية لمن تحتاجه من طالباتك، فأنت رسول سلام، وقنديل يضييء عتمة الطريق، وبلسم لنفوس جريحة، لا يعلم بألمها الا الله. ‎وكلمة أخرى للطالبات: “ابنتي الطالبة، أنت الأمل بعد الله في رفعة مجتمعك، وخلق جيل فاعل مُدرك لهدف وجوده في الحياة، وهو استخلاف الارض وتعميرها بالعبادة والعلم، فكوني على قدر تحمل تلك المسؤولية الكبيرة أينما كنت، وفي أي مجال اخترتيه، فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته”

‎وتنهي خاتون العوامي الحوار معها بشعر لكل معلم ومعلمة:

‎قف شامخاً         عانق هناك الانجما

‎يكفيك فخراً         ان تكون معلما

‫4 تعليقات

  1. معلمتي الغالية .. درستني علم النفس ثم علم الإجتماع … و كنت مميزة في شرحك و عطائك و كذلك تعاملك معنا في الحصص .. لا أنسى مذاكرة الدروس أول بأول و لا أنسى اسئلة التطبيق و الواجب التي تجفز على البحث و الاستقصاء .. في ثاني ثانوي حصلت على اعلى درجة في فصلي و قمت بتكريمي على ذلك … لك كل الشكر و لك التقدير و الامتنان …

  2. استاذتنا الغالية منك تعلمنا أن للنجاح قيمة ومعنى ،ومنك تعلمنا كيف يكون التفاني والأخلاص في العمل،ومعك آمنا ان لا مستحيل في سبيل الابداع والرقي
    كنت لنا استاذة وام واخت فجازاك الله على جهودك المبذولة جنة الفردوس يا غاليتي .

  3. استاذة رائعة وشخصية متميزة كانت أنموذجا طيبا للأخلاق والأدب والاحترام وقد كان لها أثرا كببرا على شخصياتنتا تشرفنا بتدريسعا لمدة سنتين في الثانوية الثانية بالقطيف وفقها الله وجزاها عن العلم خير الجزاء

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×