ملاحظات على حديث عادل اللبّاد في ليوان المديفر

كامل الخطي*

تذكر الخبيرة الدولية في شؤون مكافحة التطرف وإعادة تأهيل السجناء المنتمين للتنظيمات الإسلامية المتطرفة، الدكتورة ماريسا بورجيس، في تقريرٍ لها نُشِرَ في موقع مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي عام 2010، أن البرنامج السعودي للحد من التطرف ومكافحة الإرهاب، رغم معاناته من بعض الفشل، إِلَّا أنه لا يزال في إمكانه تقديم دروسٍ مهمة لباقي دول العالم.

حديث الدكتورة بورجيس جاء بعد زيارتها المملكة العربية السعودية واجتماعها مع عشرات المسؤولين في برنامج الأمير محمد بن نايف للمناصحة. في عام 2010 لم يكن قد مضى على انطلاق المبادرة السعودية للحد من التطرف ومكافحة الإرهاب سوى ستة أعوام؛ فالمبادرة السعودية قد انطلقت عام 2004 كاستجابة من وزارة الداخلية لسلسلة الهجمات الإرهابية التي شنّها تنظيم القاعدة على الداخل السعودي بين عامي 2003 و2005؛ حيث بدأت السلطاتُ السعودية السير بخطوات كبرى باتجاه تغيير استراتيجيتها القديمة في مكافحة الإرهاب.

إعادة تأهيل

توجهتِ الحكومةُ السعودية نحو الموازنة بين الخيار الأمني التقليدي وبين إمعان النظر في الأسس الأيديولوجية التي تُشَرْعِن التطرفَ العنيف، وكان من بين المناهج التي اعتمدتها الحكومةُ، إعادةُ تأهيل المتطرفين الدينيين داخل السجون من خلال إعادة تثقيفهم دينيًّا، وتقديم الاستشارات النفسية والاجتماعية للخاضعين لبرنامج إعادة التأهيل.

نما البرنامجُ بمرورِ الوقت على مستوى اتساع نطاقه، وعلى مستوى تطوره النوعي، وتخرج في البرنامج عشراتٌ عادوا للاندماج في المجتمع بنجاح. استفاد آلافُ السجناء من البرنامج، منذ نشأته حتى اليوم، وقد مرت تلك الآلافُ من المستفيدين بدوراتِ إعادة تأهيلٍ مدتها ستة أسابيع، وبجلسات استشارة مع متخصصين في عددٍ من المجالات الطبية، والنفسية، والاجتماعية. يحظى المستفيدون أيضًا، برعايةٍ لاحقة تساعد كثيرًا، على إعادةِ دمج السجناء المطلق سراحُهم في المجتمع.

أشرف على هذه المبادرة علماءُ دينٍ، وأخصائيون نفسيون، وضباطُ أمنٍ متخصصون في التعامل مع موضوعات التطرف الديني، والمشكلات النفسية والاجتماعية، والتعقيدات ذات الصلة بالتداول الإعلامي. رَكَّز البرنامجُ في بداياته، على نزلاء السجون الذين لم يثبتْ تورطهم المباشر في الهجمات الإرهابية التي ارتكبت على الترابِ السعودي، ولاحقًا، أصبح توطينُ السعوديين، المطلقِ سراحُهم، من سجن خليج غوانتنامو، وإعادة دمجهم في المجتمع، من ضمن مهام هذه المبادرة السعودية المبتكرة، ثم أُضيف لمهام المبادرة، التعامل مع العائدين من مناطق الفوضى والتوتر والحروب الأهلية؛ مثل أفغانستان، والعراق، وسوريا، وليبيا؛ حيث تولى العاملون في المبادرة إعادة تأهيل العائدين والعمل على دمجهم في المجتمع بعد انقضاء مدد حبسهم، وقد خُصصت مراكز منفصلة لكل نوعٍ من أنواع السجناء والموقوفين الذي استفادوا من برامج المبادرة السعودية للحدّ من التطرف ومكافحة الإرهاب.

نحو تقييم أكثر موضوعية

شَكَّلَتْ برامجُ المبادرة السعودية نموذجًا قابلًا للاستنساخ من باقي دول العالم الساعية إلى العمل على الحد من التطرف ومكافحة الإرهاب، ومما يجدر ذكره أنه حين انطلاق المبادرة السعودية عام 2004، لم يكن هناك نموذج ناجزٌ يمكن الأخذُ به، وتعديلُه بما يتناسبُ والظروف المحلية، لذلك فقد توجَّب على الجهاتِ المعنية في المملكة العربية السعودية، العملُ على تجربة الصواب والخطأ والمراجعة الدائمة لبرامج المبادرة.

بقي مقياسُ تقييم النجاح غير واضح، حيث اعتمدت نسبةُ الانتكاس بين المستفيدين، كمقياسٍ أوحد لتقييم النجاح، ولم يؤدِ هذا المقياس الغرضَ المُراد منه، رغم أنه من المقاييس المهمة؛ فقد ثبت بالبرهان أن هناك ضرورة لاعتمادِ حزمةِ مقاييس لكفالة دقة التقييم؛ ففي عام 2009 أعلنتِ السلطاتُ السعوديةُ أن ما لا يقل عن 11سجينًا سابقًا من سجناء خليج غوانتامو، قد عاودوا مزاولة النشاط الإرهابي، وثبت أيضًا أن بين 10 و20في المئة من مستفيدي برامج المبادرة المطلقي السراح، قد عاودوا مزاولة الأنشطة المُجَرَّمة نظامًا. استدعت هذه الحقائق، السلطاتَ المعنية للقيامِ بمراجعةٍ شاملة ودقيقة لمكونات برامج المبادرة؛ بهدفِ كشف مكامن العيوب. حَدَثَ كلُّ ذلك في ظلّ عدم توفر تجارب سابقة يمكن الأخذ عنها، وقد فرضت هذه الحقيقة حتميةَ خوضَ تجربةِ الصواب والخطأ، والعمل على الارتقاءِ بالمبادرة، كلما تحسن فهم مواطن الخلل فيها.

نجاحات وخيبات

يؤكد العشراتُ من المختصين في هذا المجال أنه رغم بعض الفشل الذي عانته المبادرة السعودية للحد من التطرف ومكافحة الإرهاب، إِلَّا أنه من المؤكد أن المبادرة قد أسهمت بفاعلية كبرى في تحقيق جملة أهداف الحكومة السعودية في الحد من التطرف ومكافحة الإرهاب.

هناك أمثلةٌ قائمة تُثبت أن العملَ على تطوير المبادرة السعودية للحد من الإرهاب ومكافحة التطرف، عمل مستمر لا يتوقف؛ فبعد مضي حوالي ثلاثةِ أعوام على انطلاق المبادرة، أَسَّسَتْ وزارةُ الداخلية عام 2007، مركز الأمير محمد بن نايف للمناصحة. اعْتُمِدَ في تأسيسِ المركز على ركيزة التعاون بين الأجهزة الأمنية، ومؤسسات الخدمات الاجتماعية، سواء الحكومية أو غير الحكومية.

الحديثُ الشامل عن المبادرة وبرامجها، بداية من مرحلتها الجنينية حتى اليوم، حديث أطول من أن يسعَه المقامُ، فهو حديثٌ يحتاج لأوراق بحثٍ متخصصة، من شأنها تقديم إسهامٍ علمي رفيع المستوى، يخدم كلَّ دول العالم التي تسعى إلى العمل على الحد من التطرف ومكافحة الإرهاب من خلال توظيف شتى أنواع الموارد التي من شأنها التكفل بإنجاح هذا النوع من المجهودات، وإنما حديثي هنا هو مقدمة ضرورية تحاول شرحَ منهج تجربة الصواب والخطأ، وتحاول أيضًا، الوقوف على مدى التطور الذي حققته المبادرة السعودية عبر سياق شهد الكثير من التعقيدات وخيبات الأمل، كما شهد نجاحاتٍ عظمى؛ ففي إحدى مراحل المبادرة، أوشك المسؤولون عنها على تبني نهجٍ سطحي، يسعى لتحقيق هدفٍ غير جذري يتلخص في العمل على فكّ ارتباط المستفيدين بتنظيماتهم التى سبق لهم أن نشطوا في صفوفها دون العمل على تغيير طرق التفكير، وهذا الفصل الحركي يعني نأيَ المبادرة عن علاج باقي المشكلات التي تحيط بعالم المستفيدين، لكن الأمر انتهى بإزاحة هذا النهج عن كونه النهجَ الوحيد، واعتماده كنهجٍ مخصص لبعض العناصر التي لم تؤتِ معها جلساتُ المناصحة والاستشارات أُكُلَها، المتمثل في تغيير طريقة فهمهم للإسلام، ومعنى الالتزام بهديه.

دروع بشرية

بعد حوالي تسعةِ أعوام من انطلاق المبادرة، حدث تطور نوعي يستحق الحديث عنه والإشادة به؛ فتحت مظلة برنامج الأمير محمد بن نايف للمناصحة، أُطْلِقَ برنامجٌ فرعي مخصص للسجناء من منطقتي القطيف والأحساء بعنوان “برنامج التأهيل والبناء”، وسجل هذا البرنامج نسبة نجاح بلغت 100٪.

تولدت الحاجة لهذا البرنامج الفرعي بعد أن شهدت محافظة القطيف ظهور جماعة مسلحة مارستِ الإرهابَ على المواطنين، وقاومت محاولاتِ القوات الأمنية الهادفة لتوقيف أفرادها، ورفعت السلاح في وجه القوى الأمنية، ومارست قتل المواطنين الآمنين. أدت تلك الحادثات إلى إدخال مدن وبلدات وقرى محافظة القطيف، في حالة انعدام جزئي للأمن، وكانت بلدة العوامية في محافظة القطيف قد نالت النصيب الأعظم من هذه الحالة غير المسبوقة، وقد شكَّل وسط العوامية المشهور باسم “الْمُسَوَّرَة” معقلًا لأصحابِ السوابق الجنائية؛ من مختلف مدن وبلدات وقرى المحافظة، حيث اتخذ أصحابُ السوابق الجنائية، الموصوفةِ بالعنف المفرط؛ مثل القتل، وتجارة السلاح، والاختطاف، من ذلك الحي حصنًا لهم، واتخذوا من ساكنيه الآمنين دروعًا بشرية، ومازجوا بين عنفهم المتأصل وبين شعارات مناطقية ومذهبية، ومارسوا أعمال القتل متسترين وراء هذه العناوين. استمر هذا الحال لأكثر من ستةِ أعوامٍ حتى تحقق النصر الحاسم لقوات الأمن على الجماعة الإرهابية. على إثر النصر الذي حققته قوات الأمن، عاد الأمانُ لمدن وبلدات وقرى محافظة القطيف.

بعد هذه المقدمة الطويلة نسبيًّا، أودّ الإشادةَ بإسهام عبد الله المديفر في هذا المجهود من خلال برنامج الليوان، لكن الإشادة لا تنفي الحاجةَ إلى التوقف عند الحلقة، وتسجيل بعض الملاحظات عليها.

هذا إن أحسنت الظن!!

أهم ملاحظة على مقدم البرنامج، وفريق إعداده، هي إضاعة دقائق من وقت الحلقة لنقاش موضوعات خارج الثيمة الرئيسية للحلقة، ومنها مثلًا، استرسال الضيف في شرح السياق الذي ظهرت خلاله حركةُ الطلائع الرساليين إلى حيّز الوجود؛ إذ أن الضيفَ أضاع دقائق ثمينةً في شرح سياقٍ لا يفقه فيه، ولا في ملابساته وتعقيداته، هذا إن أحسنتُ الظن! قدّم الضيفُ رأيه القائل أن حركة الطلائع الرساليين قد احتلت جزءًا من المشهد السياسي؛ حالها كحالِ التيارات القومية واليسارية، وبالتزامن مع تلك التيارات، كردة فعل ناتجة عن خيبة أمل الجماهير من النظام السياسي العربي الرسمي.

هذا الرأي لا يمتّ للحقيقة بصلةٍ؛ فحركة الطلائع الرساليين ظهرت للوجود بعد عقود طويلة من ظهور الحركة العربية، ومن ظهور التيارات اليسارية في المجتمعات العربية، وهذه الحقيقة تسقط عامل التزامن الذي قال به عادل اللبّاد. ولو قال عادل اللبّاد إن ظهور التيار الذي انتمى لصفوفه جاء ضمن جهود مواجهة المد العروبي واليساري، لقلت إن اللبّاد أصاب فيما قال، لكن للأسف فقد أُهدرت دقائق ثمينة من وقتِ الحلقة دون فائدة، وواضح أن جهلَ مقدم البرنامج بهذا الشأن أسهم في إهدار الوقت؛ فالأدق القول إن حركة الطلائع الرساليين قد تأسست، بدايةً، ضمن سياق صراع بين الحداثة والتقليدية داخل الوسط الحوزوي الشيعي في العراق وإيران، في حقبة خمسينيات وستينيات القرن العشرين؛ فالأب الروحي للحركة محمد الحسيني الشيرازي، فشل في الحصول على إجازات اجتهاد من المراجع النجفية المعتبرة، حينذاك؛ أمثال السيد محسن الحكيم، والسيد أبو القاسم الخوئي، والسيد محمود الشاهروردي.

فشلُ الشيرازي في انتزاع اعتراف المرجعيات بأحقيته وجدارته للتصدي لأمور المرجعية، دفع به إلى التمرد على المرجعيات النجفية ومناصبتها العداء، ومن رحم هذا التمرد، ولدت ثنائية المرجعية المتحركة، والمرجعية الساكنة، كما ولدت تعابير ازدرائية أخرى مثل مرجعيات الحيض والنفاس، مقابل مرجعية فقه الواقع.

هادي المدرسي.. حامل الرسالة

جاب مُبلّغو ومبشّرو “المرجعية المتحركة” الآفاق منذ النصف الأول من عقد ستينيات القرن العشرين، ومنهم، وربما أهمهم، هادي المدرسي، ابن أخت محمد الحسيني الشيرازي الذي أتى إلى الشارقة أولًا، ثم انتقل إلى البحرين حاملًا ومبلغًا رسالةَ خاله إلى الشيعة العرب في الخليج العربي الذي كان لا يزال تحت الانتداب البريطاني باستثناء المناطق الخليجية التي تشكل جزءًا من المملكة العربية السعودية، وفي ظل الانتداب البريطاني على الشارقة، وعلى البحرين، حصل هادي الشيرازي على المواطنة الشارقية أولًا، ثم المواطنة البحرينية لاحقًا، وقد شكلت صفحات مجلة قوة دفاع البحرين المنصة التي قدمت هادي المدرسي إلى شيعة البحرين وكيلًا عن مرجعية خاله محمد الحسيني الشيرازي، ومبلغًا لخطابٍ مرجعي جديد يستعدي التيارات السياسية الحديثة، وخصوصًا التيارات اليسارية.

جرى ذلك تحت نظرِ السلطات البريطانية في البحرين، وفي سياق الحرب الباردة بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي. ذات السياق تقريبًا، مع اختلاف التفاصيل، هو الذي ظهرت من خلاله حركة المحرومين في لبنان التي كَلّف السيد محسن الحكيم، السيد موسى الصدر بتأسيسها لتشكل سدًا في وجه التيارات القومية واليسارية التي وجدت في الكتلة السكانية الشيعية في لبنان، مخزونها البشري القادر على إمدادها باحتياجاتها من الكوادر الأدنى مستوى، وتلك الكوادر أسهمت بدورها في تعميق البعد الشعبي للتيارات القومية واليسارية إبّان تلك الفترة من الزمن؛ فكان لزامًا على القيادات التقليدية إظهار ردة فعل تحرم بها التيارات السياسية الحديثة من التمدد الشعبي، وهذا ما جعل اليمين المسيحي في لبنان يحتضن السيد موسى الصدر؛ فأول تقديم رفيع المستوى حظي به السيد موسى الصدر في لبنان، كان تقديم فؤاد بطرس (وزير خارجية العهد الشهابي) له في حضور النخبة السياسة اليمينية في النادي الأرثوذكسي. حصل ذات الأمر لهادي المدرسي في البحرين؛ إذ نال هادي المدرسي حظوة في الديوان الأميري وفُتحت له صفحات مجلة قوة دفاع البحرين، تحت سمع وبصر سلطة الانتداب البريطاني.

والإخوان المسلمون أيضا!!

ولفهم أفضل وأعمق لمحركات الصراع على النفوذ وحيازة القدرة على تحريك الجماهير وتوجيه الرأي العام، على الباحث قراءة المخاض الذي أدّى إلى ولادةِ حزب الدعوة في العراق، والعلاقة التي كانت قائمة بين بعض شخصياته المؤسسة وبين تقي الدين النبهاني مؤسس حزب التحرير، ثم العلاقة التي نشأت بين بعض الشخصيات المؤسسة لحزب الدعوة وحركة الإخوان المسلمين (أنصح المهتمين في هذا الشأن بقراءة كتاب أمالي السيد طالب الرفاعي، وهو عبارة عن نص أملاه السيد طالب الرفاعي وحرره رشيد الخيّون، وأنصح أيضًا بمشاهدة سلسلة الحلقات الحوارية التي تحدث فيها السيد طالب الرفاعي عن ذلك المخاض والظروف التي أدّت إلى ولادة حزب الدعوة في العراق).

وكذلك ضرورة قراءة القواسم المشتركة وعلاقات التنسيق والتنظيم التي ربطت حركة فدائيي إسلام الإيرانية بجماعة الإخوان المسلمين؛ فمن خلال رصد كل تلك التفاصيل وتفكيكها داخل سياقاتها، يتضح جليًّا أن الهدف النهائي لجميع التيارات والأحزاب السياسية الإسلامية، هو إقامة الدولة الإسلامية التي يؤمن كل تيار سياسي إسلامي بمفهومه الخاص بمعناها.

والتطرف الطوراني أيضاً!!

ظروف وملابسات نشأة كل تيار سياسي إسلامي تختلف عن ظروف وملابسات نشأة باقي التيارات، لكن اختلاف ظروف وملابسات النشأة الأولى لم تقف حائلًا أمام التقاء مصالح هذه التيارات في فترات زمنية معينة، واختلافها في فتراتٍ أخرى. لعل أهم الفترات التي شهدت التقاء مصالح التيارات الإسلامية هي فترة ذروة الحرب الباردة التي وضعت جلّ التيارات السياسية الإسلامية في خندق واحد مع المعسكر الرأسمالي، فوحدة العدو، ووحدة الهدف، تكفلتا بتوحيد الخندق.

على الجانبِ الآخر، تعودُ نشأةُ الحركة العربية إلى منتصف القرن التاسع عشر، حيث نشأت الحركة العربية في ظل المفاهيم التنويرية الغربية، وشكلّت ردّة فعل مباشرة على التطرف العنصري الطوراني (الحركة القومية التركية المتطرفة)، فاتخذتِ الحركةُ العربية في طورها الأول، المسار الإحيائي للغة العربية وآدابها، ورغم أن التعظيم الذي ناله الإسلام، كدين، في أوساط الحركة العربية باعتبار أن العروبة توجد أينما وجد الإسلام، وأن لغة الإسلام التي حفظت الوحي المنزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، هي اللغة العربية، فإن الحركة العربية اتخذت هويةً علمانية واضحةَ المعالم، واحتفظت بهذه الهوية حتى بعد أن تحولت من المرحلة الإحيائية إلى المرحلة السياسية.

أعود إلى بداية حديثي عن الملاحظات التي لي على مقدّم البرنامج لأقول إن مقدم البرنامج سمح لضيفه بإهدار دقائق ثمينةٍ من وقت الحلقة حين صمت المقدّم، وأنصت للضيف وهو يشرح ظروف نشأة حركة الطلائع الرساليين. صمتُ المقدم وإنصاتُه يعني أن المقدم جاهل في هذا الشأن، وجهله منعه من التدخل لإيقاف الضيف وإعادة الحوار إلى الثيمة الأساسية للحلقة، فالضيف ذاته يجهل الشأن، وأعتقد أن جهل الضيف بهذا الشأن، مردّه إلى التلقين الحزبي الذي مارسته حركة الطلائع الرساليين على كوادرها؛ بغرض تعميم صورةٍ عن ذاتها لا تُطابق الواقع، وهذا تكتيك تتبعه غالبية الجماعات السياسية على اختلاف مشاربها الفكرية والعقدية، ويبقى الكادر الحركي أسير هذه الصورة ومروج لها ما لم تعتقه المعرفة الحرة من هذا الأسر.

الموقف الرجراج

من الملاحظات أيضًا، قول الضيف بسلمية أفكار الأب الروحي للحركة دون أن يقدم القرائن الدالة على صدق قوله؛ فكيف تكون أفكار مرجع الحركة سلمية الطابع، وفي نفس الوقت يقوم مرجع الحركة بتمويل معسكرات التدريب على السلاح، ويبارك تخطيط ومحاولة تنفيذ انقلاب عسكري في البحرين؟!

بدا اللبّاد اعتذاريًا في حديثه عن الحركة الأم، ولا مبرر لاعتذاريته سوى أنه لا يزال يقف بثبات في مكانه، وأن ندمه وتراجعه، أمر لحظي تفرضه ظروفه الحالية، لكن يفضحه لحن القول.

في مقابل الموقف الرجراج الذي أظهره اللبّاد حول ماضيه، وحول علاقته بنمر النمر، واعتذاريته للمسار العنفي الذي تبنته الحركة، واعتذاريته لموقف الكتلة الرافضة للنهج التصالحي، أو كما أسماه “إحلال النهج الحسني مكان النهج الحسيني”، نلمس رسوخ واستقرار موقف علي الفقعسي الذي استضافته الحلقة السابعة من ذات البرنامج، حيث شرح علي الفقعسي بوضوح كيف كان ضالًا غاليًا، وكيف عرف طريق المراجعة الذي سلكه حتى منتهاه مستندًا إلى قناعاتٍ جديدة نمَت لديه عبر الاطّلاع والمعرفة الحرّة؛ لهذا بدت مراجعةُ الفقعسي لأفكاره السابقة، وتراجعه عنها، أمرًا مُؤهَلًا للاستدامة، وعدم النكوص.

مراجعة الفقعسي لذاته، ورجوعه عمّا كان عليه من غُلُّوٍ وتطرف، حينما كان أحد الكوادر القيادية لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، من شأنه أن يساعد الأجهزة المعنية على تحقيق أحد أهم أهداف برامج الإصلاح وإعادة تأهيل السجناء، وهو هدف “نزع التطرف”، فتراجع الكوادر القيادية المؤثرة يُعطي دفعة مهمة لتراجع الكوادر الحركية من الدرجات الأدنى، بينما تراجع الكوادر الأدنى مرتبة عن تطرفها السابق، كثيرًا ما يكون مجرد “فك ارتباط” قد يحدث بسهولة، ولكنه لا يضمن عدم معاودة ممارسة التطرف العنفي، وهذا التفصيل محط اهتمام المختصين في المعاهد ومراكز الأبحاث والمؤسسات الأكاديمية المختصصة في دراسات مكافحة التطرف، حيث تَنَصُّ “مذكرة روما الخاصة بالممارسات الجيدة لإعادة تأهيل ودمج المجرمين المتطرفين المستخدمين للعنف” الصادرة عن المنتدى الدولي لمكافحة الإرهاب على أن: “عند صياغة برنامج إعادة التأهيل، من المهم أن يتمّ أولًا وضع تعريف واضحٍ لأهداف وغايات البرنامج وبيان مؤشرات النجاح والفشل”.

الأفراد العاديون.. أم القياديون؟

إن أول سؤالين يتعين الإجابة عنهما لدى وضع برنامج ناجحٍ لإعادة التأهيل؛ هما: ما هي أهداف هذا البرنامج وكيف يمكن تعريف النجاح وقياسه؟ ويمكن صوغ الأهداف القابلة للقياس التي تحدد الجهات المساهمة في هذه المبادرة والنتائج المرجوة، وسبل قياس التقدم، والنتائج المحددة المتوقعة نتيجة لمثل هذا التدخل. ويمكن للدول أن تقوم أولًا بعمل تقييم شامل للمخاطر والتهديدات قبل تحديد أغراض وأهداف برنامج إعادة التأهيل. ولعل الأمر الأكثر أهمية هو القيام منذ البداية بتحديد ما إذا كان هدف البرنامج هو تغيير تفكير وآراء السجناء أم أنه مجرد إحداث تغيير في سلوك السجناء (نزع التطرف أم فك الارتباط). ومن المرجح أن تكون إعادة التأهيل التي تهدف إلى تحقيق فك الارتباط أكثر نجاحًا في تحقيق أهدافها، لكن هذا النهج قد يكون أقلَّ فعالية على المدى البعيد في الحد من جاذبية الأيديولوجيات المتطرفة العنيفة، وفي تقليص احتمال القيام بمزيد من أعمال العنف والإرهاب.

والسؤال الثاني الذي يجب على الدول النظر فيه، حسب الاقتضاء، هو ما إن كان البرنامج سيركز على المتطرفين الذين يمارسون أعمال العنف ممن هم في المستوى المنخفض أو المتوسط في التنظيم أم على من هم في مراكز القيادة (أي فك الارتباط الفردي أو الجماعي) أم سيركز على كليهما.

إن التركيز على القياديين قد يكون له تأثير أكبر على المدى الطويل، إلا أن تحقيقه قد يكون أصعب. وحسب الاقتضاء، يمكن للدول أن تنظر في وضع مجموعة واسعة من معايير قياس النجاح، خاصة تلك التي تساعد على تحديد مدى فاعلية البرنامج على المدى الطويل. وتشكل العودة إلى الإجرام أكثر الإحصائيات المستخدمة في الحكم على مدى نجاح البرامج. وإذا كان هذا المقياس مهمًا بلا شك، إلا أنه يعاني من العديد من القيود. فلن يتم القبض على كل الذين يعودون إلى ارتكاب الجرائم مجددًا ومحاكمتهم، كما أن هناك العديد من الحالات التي تفقد فيها البلدان أثر الأفراد الذين شاركوا في هذه البرامج. وحسب الاقتضاء، يمكن للدول أن تنظر في وضع مجموعة أكبر من المقاييس التي لا تحصى فقط ما إذا كان قد تم القبض مجددًا على المشاركين في البرنامج بسبب عودتهم إلى ارتكاب الجرائم، بل أيضًا ما إذا كانوا يشكلون تأثيرًا سلبيًّا على الآخرين لينضموا إلى القضية الإرهابية، ومدى نجاح إعادة اندماجهم في المجتمع”.

على المستوى الشخصي، تمنيتُ لو أنّ عادل اللبّاد قد راجع نفسه مراجعةً عميقة شاملة أدَّت به إلى العودةِ الراسخة عن أفكاره التي دعَت إلى العنف ومجَّدَته، وحرّضت على أشخاص بأسمائهم وصفاتهم، وأسهمت في إدامة التوتر الأمني وتهديد السلامة العامة في منطقة القطيف.

هذه ليست كلَّ ملاحظاتي، فما زال لديّ المزيد من الملاحظاتِ حول القيمة المعرفية لمقدم البرنامج ولضيفه، وكيف أن بعض لحظات البرنامج بدت كشهادة كفيفين على ظهور الهلال!

على العموم، سأكتفي بهذا القدر من الملاحظات حاليًّا، وربما أعود لمناقشة ذات الموضوع في وقتٍ لاحق.

——

*كاتب وباحث مختص في رصد ودراسة الحركات والتيارات اليسارية والقومية في الجزيرة العربية، وزميل مشارك بمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية.

تنويه:

نُشرت هذه المادة تنسيقاً مع الكاتب، وبإذن من الموقع الناشر عين أوروبية على التطرف.

اضغط هنا لقراءة المادة من الموقع الأصل

 

تعليق واحد

  1. انا قرأت في جريدة الشرق الأوسط في بداية التسعينات “بالفونت العريض” فتوة للسيد الشيرازي قدس سره ضد مستخدمي العنف في البحرين
    بل هو يستشكل على الفلسطينيين استخدامهم العنف لنيل حقوقهم
    وعنده ٤ مجلدات في نظرية “اللاعنف”
    وعنده مركز حوار دائم بواشنطن عن اللاعنف
    وجيه هذا الشخص يقول انه بارك العنف في البحرين

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×