[النقد والإبداع 2] لنتخيل: الناقد

محمد الحميدي

   والآن لنتخيل ثانية.. وهذه المرة ليس اختفاء الفنانين والأدباء بل النقاد وقارئي الإبداع، أولئك الذين يحملون عينا ثالثة قادرة على اكتشاف أماكن الجمال أينما تواجدت.

   لا يستطيع الناقد تغيير العالم لوحده بل يتكامل دوره مع دور المبدع، وبدون الناقد لا وجود للإبداع الحقيقي؛ لأنه الأقدر على رؤية الاختلافات بين الإبداعات والتمييز بينها وإعطاء القيمة الحقيقية لكل مبدع على انفراد.

   إن أول مهمة يقوم بها الناقد هي اكتشاف المبدع والإشادة بإبداعه وهنا ينبغي التمييز بين نوعين من النقد؛ الأول: موجه ناحية السلب فقط والثاني: عكسه إذ يتوجه ناحية الإيجابيات ويترك السلبيات، وفي تاريخنا الطويل اشتهر النوع الأول وتوارى الثاني لأسباب تتعلق بالفئوية والجماعاتية والخصوصية وهذا موضوع لا يندرج ضمن حديثنا، لكن نستطيع القول إن الناقد الحقيقي هو الذي يجمع النوعين السالفين من النقد، يجمع السلب والإيجاب ولا يعمد إلى تغليب أحدهما على الآخر، بل يوازن بينهما؛ لأن تغليب السلب جريمة في حق المبدع وإعطائه أقل مما يستحق، وتغليب الإيجاب جريمة في حق الإبداع؛ لأنها تعطي من لا يستحق أكثر مما ينبغي، فيجب الانتباه إلى خطورة الانحياز ناحية نوع من النوعين، والناقد الحقيقي يرى الإبداع ويكتشف المبدع ومهمته الأولى تقضي بأن يوجهه إلى الطريق الصحيح الذي يمارس عبره إبداعه.

   كثيرون هم الشعراء ولكن القلة يتميزون بالإبداع، وكثيرون هم الرسامون والنحاتون والقصاصون والمسرحيون ولكن القلة متميزة، بل يمكن أن نتوسع أكثر ونقول بأن العديد من المبدعين حينما نشأوا مارسوا نوعا من الإبداع يختلف عن إبداعهم الحالي والذي يتفوقون عبره على غيرهم، ومهمة الناقد هي اكتشاف الفروقات بين المبدعين وتوجيههم، وهي مهمة عسيرة بل غاية في العسر وكثير منهم يرفضون استماع الصوت الآخر الذي يشير إلى إمكانياتهم الحقيقية، وأسباب ذلك عديدة كالعادة أو المدح الزائد عن الحد أو غيرها من الأمور.

   أما المهمة الثانية للناقد فتتمثل في إبراز الوجه الحقيقي للإبداع، وإعطائه حجمه الفعلي حين المقاربة فلا إعلاء لإبداع إلا وفق أسس واشتراطات معينة، وهنا الصعوبة تزداد ويغدو عمل الناقد أكثر مشقة؛ لأن أي خطأ قد يؤدي إلى نتائج كارثية على المبدع وعلى الإبداع، ولهذا فهو بحاجة إلى الاطلاع الدائم على أبرز وآخر النظريات في مجموعة من العلوم والمعارف يستفيد منها ويستثمرها في بناء نتائجه التي يتوصل إليها، ويمكن تعداد مجموعة من العلوم كتمثيل فقط وليس كتحديد نهائي، فالناقد يحتاج إلى: الفلسفة والمنطق والنحو والبلاغة وعلم اللغة والتاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع واللسانيات والتداوليات أو التداولية والحجاج والقواعد الناظمة للسلوك والأخلاق والأسس التي تعتمدها الفنون والمدارس أو الاتجاهات الفنية وعلم التأويل ونظريات التلقي وعلم الجمال وآراء المختصين في قضية من القضايا الخلافية… وحين نسأل عن سبب الحاجة إلى معرفة الناقد بكل هذه العلوم ستكون الإجابة هي: لأن الإبداع يتلامس معها جميعها ولا يمكن للناقد أن يمارس عمله بدون معرفتها، وإلا سيأتي حكمه في غير محله ومجانبا للصواب.

   وبخصوص الأسئلة من قبيل: كيف يقوم الناقد بأداء عمله؟ أو ما هي الأسس التي يعتمد عليها لقراءة واستنتاج الأفكار والجماليات من الإبداع؟ فستكون الإجابة كالآتي: إن جميع الإبداعات تشترك في ميزة هامة هي ميزة الصورة (وقد سبق وأشرت إليها وسأعمل هنا على توسيع الحديث قليلا)، فالصورة لا تعني الجمود والثبات ولا تعني كذلك الحركة والنماء، الجميع يندرج ضمن الصورة وأنواعها وطرق تشكيلها وتكونها، فالمقصود ليس هذا، بل إن المقصود هو الصورة التي تنطبع في الذاكرة وتتكون في المخيلة من خلال مقارنتها بالواقع الحالي والمأمول المستقبلي، فالمبدع يحصل على الصور جاهزة من الواقع أو عبر القراءة أو من خلال التأمل، أو نقلا من بلد آخر، وثقافة مختلفة، تتنوع أشكال حصوله على الصورة، ولكنها تلتقي في النهاية بداخل ذاكرته، حيث يقارن بينها وبين الصورة المنطبعة في داخله، ومن ثم حينما يجد اختلافات بينها (الصورة الذهنية والصورة الفعلية)، سيعمد إلى إعادة تركيبها من جديد بعد تفكيك أجزائها، لكي ينتج الصورة الخاصة به، ولو أردنا ضرب مثال على ما نقول: سوف نستحضر صورة المرأة في مخيلة كل منا وكيف تعامل معها المبدعون، فالفنان ليوناردو دافنشي تعامل معها بصورة مختلفة في رسوماته عن مايكل أنجلو، وكذلك نزار قباني تعامل معها بصورة مختلفة عن أدونيس ومحمود درويش، والجميع اختلفت صورة المرأة لديهم عن صورتها لدى نجيب محفوظ أو محمد شكري، هذا التنوع في صورة المرأة لا يعود فقط إلى الاختلافات الثقافية والبيئية، بل يعود أساسا إلى الصورة المثالية في ذهن المبدع وكيف ينظر إليها.

   والناقد أمام الصورة التي يرسمها المبدع لا يمتلك إلا أن يقوم بعمله، الذي يتمثل في تحليل أجزاء الصورة ومكوناتها إلى عناصرها الأولية واستخراج الأفكار منها والتأكيد على عناصر التفوق والإشادة بداخلها أو على العكس الإشارة إلى عوامل الضعف في بنائها وتركيبها، وبهذا المعنى يصبح عمل الناقد مكملا ومتمما لعمل المبدع ومشاركا له في عملية الخلق الفني، فالمبدع أولا والناقد ثانيا، والاثنان يتشاركان مهمة جعل العالم مكانا أفضل وأجمل وإن كان لكل واحد منهما طريقته وأسلوبه.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×