[مناجم الطين 4] دماءٌ في قلب القَليب زجاج الأرض يجرّح أجساد "النجّافين".. ولا تعويض عن إصابات العمل

سالم الأصيل

يستأنف الحاج مكي آل وهيب حديثه من قلب المعاناة في جوف القليب فيقول: بعض “الگِلبان” (جمع بالمحكيّة للقليب)، تُستخرج الطينة المأخوذة منها مشوبة بزجاج أبيض لامع، لكنّ لمعانه لا يكاد يُرى؛ لظلمة القليب ودقة تواريه من التصاقه بين طبقات الطين، نُطْلِق على هذا الزجاج الصغير المتواري “صَچ”. هذا الزجاج “يبهدلنا…يشتّرنا تشتير!” أثناء قصّ الطين. يجرّح الذراع والجنب والكتفين والفخذين والركبتين، يسيل الدمّ من جسم النّجّاف كاملاً. ذلك لأنّ النّجّاف يسلك أثناء عملية قصّه الطين طريقًا أفقيًّا ضيّقًا غير مرتفع، فيؤدي عمله في جوف القليب مستلقيًا على جنبه. لا تراه ولا تحسّه إلا وقد نال مراده منك.

سيه أبوي!

سَيه أبوي! أو: سِيْب، أو “اذكر الله”. تصل ذبذبات واحدة من هذه الإشارات الثلاث اللفظية من قلب القليب، مضافًا لذلك الثقل الذي يبدأ الإحساس بوطأته ما إن يهمّ بتحسّس ثقل الحبل، فيجده ثقيلاً كما لو كان صنارة قد أثقلتها السمكة وقد ابتلعت الطُعم، أو شبكة صيد قد امتلأت بالأسماك المشتهاة. “لا إله إلا الله” يردّ عامل السَيْب مُجيبًا النداء الذي جاءه من جوف الأرض. يبدأ، وقد استعان بذكر الله ثم بقوّة ساعدَيه.

يشرع بجرّ الحبل المتصلة بالمرحلة التي يبلغ وزنها من 10 كيلو غرام إلى 15 كيلو غرام إلى خارج القليب، وما إن يُحمل الطين إلى خارج القليب، حتى يهمّ عامل خامس بنشره على الأرض حتى يجفّ. الجفاف الذي يحتاج إلى ثلاثين يومًا، أقلّ أو أكثر، بحسب حالة الطقس، قبل أن يُطلب إلى صاحب العمل أن يأتي بالبَارْدَان (الأخياش)، ليُوضع الطين في داخلها، جائيًا بها مع خيوط الشّكّ لتكميم الأخياش مع المِيْبَر( 10) (المِجْبَر)، الذي يُستخدم في خياطتها بعد ملئها.

حفرةٌ أخرى صغيرة

سيكون ضغط العمل ثقيلاً على عامل السَّيْب الكفيف (رافع مرحلة الطين إلى أعلى)، لكنه على أية حال أخفّ من ثقل هاجس عدم توفر لقمة عيشه من عرق جبينه بعد أن سافرت عيناه عنه إلى الأبد.

الثقل الذي سيترك بصمته في كفّ يد أحد الأشدّاء، ذلك الرجل الذي عمل طويلاً في جرّ الحبال المصنوعة من الليف موصولة بالمراحل من قلب القليب إلى سطحه، فأثّرت في كفّ يده حتى حفرت فيها ما يشبه البرزخ؛ حدًّا فاصلاً مُنَصِّفًا إياها حتى إذا صُبّ الماء في وسطها حارَ!

هزلٌ بجد

يمازحه أحد الفتيان الذين انغمروا في قلب القليب، متشبّثًا بطوله وعرضه بالحبل الممتدة إلى قاعه: “سِيه ابوي” فيشرع على وقع الكلمة والإشارة في جرّ الحبل الذي سيلحظ ثقله المتضاعف، وعوضًا أن يهلّل فإنه هذه المرة ينفعل بصوتٍ أجشّ: “علي!! فَقِيْل!” لتدويّ ضحكات العمّال من قلب القليب ومحيطه فيبسم وجه البرّ، المُوحشِ دون هزل.

يروي الطرفة الفتى المتدلي على الحبل، هذا الذي أصبح اليوم شيخًا، يرويها وقد لمعت عيناه من بريق روح الفتوّة، ومشاكسة الغلمان، مبددًا بضوء الذكرى والحنين عتمة السنوات التي خيّم عليها الزمان بظلاله، وولاها كشحه من خمسين عامًا انطوت كما يُطوى السجل.

مصاعب ومخاطر

“كنا نخاف العقارب، والذئاب، فقد كانت هذه المنطقة (غَرْب) منطقة تكثر فيها الذئاب، فإذا ما ظهر ذئب عند هذا القليب أو ذاك، هجرناه إلى آخر”. يواصل الحاج آل وهيب سرد مصاعب ومخاطر هذه المهنة وظروف عملها القاسية. العقارب التي ستختبئ تحت قوالب الطين، ولن يُكشف عنها النقاب إلا بعد جفاف الطين وقدوم العمّال لتعبئته في أخياش الطين، بعد أن لاذت به برْدًا وسلامًا من نار الصيف.

كما نترك العمل في القليب بظهور علامات الانهيار آنفة الذكر، وقد شددنا عزائمنا قبل متاعنا نحو آخر، نسارع إلى حفره والكشف عن نقابه ومناقبه.

_______

([1] ) المِيْبَر: اللفظ المَحْكِيّ من كلمة مِجْبَر قُلِبَت جيمه ياءً، وهو اشتقاق عن الكلمة الفصيحة جبر: أي أصلح الكسر أو لأَمَهُ، وهو في هذا الموضع إشارة إلى فعل الخياطة، فالمِجبَر هو أداة؛ إبرة خياطة كبيرة بطول 3 إنشات تقريبًا.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×