اصرمْ وحطْ على البَدُوْ*!
القطيف: صُبرة
موقع الأحساء والقطيف من محطيهما الصحراوي؛ جعل من أطرافهما الزراعية نُهزةً لغزوات البدو الصغيرة. ذلك النوع من الغزوات الذي كان يقوم على الكرّ والاستيلاء على ما يُمكن الاستيلاء عليه، ثم الفر.
قبل أن يبني الملك عبدالعزيز الدولة السعودية الثالثة ويضمَّ الحاضرتين عام 1331هـ؛ حُكم شرقيُّ الجزيرة العربية ـ كما هو حال الجزيرة عامةً ـ بحقائق أمنية لم ينجح الباب العالي في ضبطها.
العدوُّ الأشدُّ وضوحاً لسكّان الحواضر؛ هو البدو، بما كان نمط حياتهم يتطلّبه ويفرضه. حياة البدوي قائمة على الغزو والسلب والنهب. إن لم يجتحْ حاضرةً بجيشٍ من القبيلة؛ اكتفى ومجموعةً من “خُويَاهْ” بسرقة ما تيسّر لهم من البساتين المحاذية للصحراء. سرقات ليلية سريعة، وقليلة الجهد، ومن دون مقاومة.
وما إن يُصبح الصباح؛ حتى يكتشف الفلّاح ـ أو المالك ـ سرقة عذوق النخيل. لصٌّ ما تستَّر بالعتمة، وصرم** قدر ما استطاع من العذوق.
التهمة جاهزةٌ، ومبنيّة على سرقاتٍ مُشابهة. والمُتَّهمُ معروفٌ بلا شاهدٍ.. إنه لصٌّ خارجيٌّ.. لصوصٌ خارجيون.. البدو..!
هذا المناخ المُتشكِّل من حقائق عامة؛ ساعد اللصوص الداخليين على طمر حقائق خاصة. قد يكون اللصُّ من القرية، أو من قرية مجاورة، وقد يكون مستأجر البستان نفسه، أو جاره، أو أحد أبنائه. إلا أن أُسلوب السرقة يُشير إلى بصمات البدو.
دخول البستان والهروب من جهة الصحراء، اختيار النخيل القصيرة القريبة من الأطراف، قطع العذوق عشوائياً، إحداث نوع من التخريب والعبث. هذه هي البصمات التي يتركها البدوي حين يسرق. وإلا فإن الفلّاح المحترف يعرف أيّ عذقٍ يصرم، ومن أين يصرم، وكيف يصرم. وعليه أن يتخلّى عن كلِّ خبرته؛ إذا أراد سرقةً لا يمُكن محاسبة حاملِ جريرتها..!
بعد اكتشاف السرقة، وتعذُّر كشف السارق؛ تُوجَّهُ التُّهمة ضدّ.. ضدَّ البدو. ولذلك سهُل على السارق أن يقول “اصرمْ وحط*** على البدو”. وهذه الصيغة شديدة البلاغة من الناحية التقنية. فيها ما يسمّيه البلاغيون “إيجاز الحذف”، أي اختصار المعنى بحذف كلمات أساسية فيه، ومع ذلك؛ سيكون مفهوماً تماماً كما أراده القائل. ولو أعدنا بناء العبارة لكانت كالتالي:
اصرم وحط على البدو = اصرم [العذوق واسرقها] وحط [التهمة] على البدو، [والناس يصدُّقون]. فيما بين القوسين […] ليس موجوداً في متن المثل، بل في ذهن المتلقّي.
:
هذه التقنية البلاغية لها تأثيرٌ أخطر. محتوى المثل يتوسّل نوعاً من توظيف التفكير الجمعي في تمرير معلوماتٍ وهميةٍ. وهذا التفكير جاهزٌ ـ دائماً وأبداً ـ للوقوع في هذا النوع من الشِّراك.
والخليجيون يعرفون المثل المثشابه القائل:
الكِلْ يبوگ، وما فيه (أو مامن) إلا مرزوگ..!
ومعناه أن الجميع يسرقون، ولكنّ المتهم الوحيد، في كلّ السرقات، هو “مرزوق”. ذلك أن هذا الـ “مرزوق” سيءُ حظ، سبق أن سرق فعلاً، وأُدين، وعُرفت جريرته بين الناس. فصار كلّما وقعت سرقة؛ جيءَ به متهماً.
—————-
* شاع هذا المثل في الأحساء والقطيف، وحكايات الحاضرتين تربطه بحوادث عامة تخصُّ العلاقات التي كانت متأزمة بين الحاضرتين وبين بعض القبائل المحيطة بهما. ومن جهتي؛ لا يمكنني حسم مصدر المثل تحديداً، فهو ينطبق على حال الحاضرتين، كما أن صيغته اللهجية متطابقة أيضاً.
** الصرم: هو القطع، والصرام قطع عذوق النخيل في آخر الموسم.
* حط: وضَع، وهي فصيحة تماماً.