كَدَرُ العَمَل

منتظر الشيخ
العملُ لا يخلو من عناءٍ، حقيقةً لا مفرَّ منها، سواء أكنتَ تحرثُ الأرضَ بيديكَ أو تجلسُ خلفَ منضدةٍ تزحفُ عليها الأوراق، موظفًا صغيرًا في دوائرِ الحكومةِ أو عاملًا عندَ تاجرٍ يطالبُك بالجهدِ ويبخلُ عليك بالثواب. حتى لو كنتَ سيدَ نفسك، تُنشئُ عملكَ بيديكَ، فستعرفُ أن الحريةَ شقيقتان: جوعٌ ينهشُ أيامَكَ أحيانًا، وشبعٌ يثقلُ كاهلكَ أحيانًا أخرى.
فالموظفُ في دائرتِه، وإنْ تزيَّنتْ كتفاهُ بأوسمةِ الرتبةِ اللامعةِ، يبقى أسيرَ نظامٍ قد يبدو جامدًا لا يرحم، يُحاسبهُ بدقةِ الساعات الرملية على دقيقةِ تأخيرٍ غيرِ مقصودة، ويُكافئهُ بمكيالٍ ضيق على ساعةِ طاعةٍ والتزام، كالفرسِ المُدجَّنِ الأصيل الذي يُربَطُ إلى الحلبةِ بزمام حديديٍّ، يُطعَم من خيرِ الكلأِ إنْ أجادَ القفزَ فوقَ الحواجزِ، ويُجلَدُ بسوط لا يرحم إنْ أعياهُ التعب وأرادَ الاستراحةَ قليلًا. أما صاحبُ العملِ الحرِّ، فظنَّهُ الناسُ سيدَ نفسهِ، يملكُ زمامَ أمرهِ، وهو لا يملكُ منها إلا الاسمَ اللامعَ؛ فربحُهُ متقلب بتقلبِ الفصول، وعملاؤهُ أشدُّ نزقًا وتقلبًا من الأطفال في طورِ النموِّ، يُرضيهم اليومَ أدنى إحسان، ويُسخطهم غدًا أيسرُ تقصير.
وقلَّما ينامُ ليلتَه قريرَ العين إلا وفي صدرهِ قلقٌ مُضنٍ، كالزرعِ الغضِّ الذي يخافُ الجفافَ في عزِّ الصيفِ أو الصقيعَ القارسَ في ليالي الشتاءِ الطويلة.
وحتى أولئكَ النخبةُ الذينَ وهبوا زهرةَ شبابِهم وحياتَهم لفنِّهم الساحرِ أو علمِهم الغزير، ظانينَ بصفاء النيةِ أن الشغفَ وحدهُ سيُذهبُ عنهم كدرَ الكدحِ وأنينَ المشقة، سرعانَ ما يكتشفونَ بمرارةِ التجربة أن الحبَّ النبيلَ وحدهُ لا يُشبعُ الجوعَ الماديَّ، ولا يُنيرُ الطريقَ المليءَ بالعقباتِ المادية والمعنويةِ.
فالشاعرُ المرهفُ الحسِّ الذي ينسابُ الكلام العذب على لسانِه كالنهرِ الرقراقِ أو النسيمِ العليلِ، يعرفُ تمامَ المعرفةِ أن القصيدةَ الخالدةَ لا تولدُ كاملةً مُتكاملة، بل تُستخرجُ بجهدٍ مضنٍ كاللؤلؤةِ الثمينةِ من أعماقِ البحرِ، قطرةً قطرة من وحيِ الإلهامِ وعصارةِ الفكرِ.
والعالمُ الجليلُ الذي يغوصُ بشغفٍ في بحورِ المعرفةِ الواسعة، يجدُ نفسَهُ في كثيرٍ من الأحيانِ غريقًا في أوراقٍ لا تنتهي، وبحوثٍ متشعبةِ التفاصيلِ تَفتُّ في عضدِهِ وتُنهكُ قواهُ كالسوسِ الخفيِّ الذي ينخرُ في جذوعِ الشجرِ.
فلا تظننَّ أيها الإنسان أن أحدًا يُعطَى النجاحَ على طبقٍ من ذهب هِبة بلا عناء، أو أن السعادةَ الحقيقيةَ في العمل تُقطفُ كثمرةٍ يانعة بلا ثمنٍ يُدفعُ من الوقتِ والجهدِ. حتى العظماءُ الذينَ سطعتْ أسماؤهم كالكواكبِ الدريةِ في سماءِ المجد، ما وصلوا إلى تلكَ القممِ الشاهقة إلا على سلالمَ صعبةِ المرتقى مرصوفة بالأشواكِ الحادةِ والتضحياتِ الجسام.
فالكدحُ والاجتهادُ هما القاعدةُ الصلبة التي يقومُ عليها كلُّ إنجاز، والراحةُ والسكينة هما الاستثناءُ النادرُ الذي يأتي بعد طولِ العناءِ. والفرقُ الجوهري بينَ من يحبُّ عملَه ويستمتعُ بهِ وبينَ من يكرهه ويئنُّ من وطأتِهِ، ليسَ في وجودِ العناء أو غيابِه المطلق، بل في اختيارِكَ الواعيِ للعناء الذي تستطيعُ أن تتحملَهُ بكرامةٍ ورضا، وتصنعَ منهُ جسرًا متينًا تعبرُ بهِ بثباتٍ إلى ما تصبو إليهِ نفسكُ وتُريد.
فيا من تئنُّ تحتَ ثقلِ الوظيفةِ، وتشكو من قيودِ الراتبِ والرئيسِ، ويا من تضيقُ ذرعًا بصمتِ المكاتبِ وضوضائها، ويا من تسألُ نفسك كلَّ صباحٍ: “إلى متى؟”…اعلمْ أن كلَّ عملٍ له كدرُه، وكلَّ طريقٍ له وعثاؤه.
فاخترْ كدركَ إذن، واقبلْ به، فقد يكونُ في اختيارِكَ هذا بعضُ الراحةِ، وفي قبولِكَ إيّاهُ بعضُ السلام، واعلمْ يقينًا أن ما يُسمى في عالمِ الأحلام “حلمًا ورديًا” هو في الحقيقة عملٌ دؤوبٌ طويلٌ وشاق، تتخللُهُ حتمًا لحظاتُ يأسٍ وإحباط كالغيومِ الداكنةِ التي تحجبُ ضوءَ الشمسِ، لكنها بقدرةِ الصبرِ والمثابرة لا تلبثُ أن تنجلي وتنقشعَ لتُشرقَ شمسُ الأملِ من جديد. فاصبرْ وثابر، فإنَّ وراءَ كلِّ جبلٍ شامخ واديًا خصبًا، ووراءَ كلِّ تعبٍ ولذعةِ جهدٍ راحةً وهناء، ووراءَ كلِّ كدرٍ وضيق صفاء وانشراحًا.