كارت أحمر هدية السماء والحكم رشيد

حسن دعبل
الحكم..
لا أحد يركض أكثر منه. فهو الوحيد المضطرّ إلى أن يجري طوال الوقت. طوال الوقت يعدو خَبباً، مقصوم الظهر كالحصان، هذا الدخيل الذي يلهث بدون راحةٍ بين الاثنين وعشرين لاعباً؛ وكتعويضٍ عن كلّ هذه التضحية، تعوي الحشود مطالبةً برأسه.
الأستاد..
هل دخلت يومًا إلى استاد مقفر؟ جرب ذلك. توقف في منتصف الملعب وأنصت. ليس هناك ما هو فارغ أكثر من استاد فارغ، ليس هناك ما هو أكثر بُكمًا من المدرجاتالخاوية.
ادواردو غاليانو، كرة القدم في الشمس والظل
قليلة هي الكتب التي تعصف بك ممروداً بذاتك، قبل ذهنك. وقليلة هي اللّحظات، أو المنعطفات المصيرية في مساراتك الدنيوية، أو تحولاتك البدنية والنفسية في آنٍ معاً. ولا أعتقد أن كتاب ” كرة القدم في الشمس والظل» لـ إدواردو غاليانو”؛ مرّ عابراً بين أيدي قراءه، أو رقماً كمياً للتباهي يُضاف إلى مقتنيات المثقف، ومباهاته في الكم، وعلو سقف مكتبته المترامية الكتب من غير تصفحٍ، ومسح غبار الأغلفة. فالكتاب يُعلّق كتميمةٍ لمن ركض في الملاعب المتربة حافياً، أو بزيه الرياضي مُتبختراً. فالكاتب غاليانو مفردته عالية، ونبرته حادة المعاني، مغلفّة بقدسيةٍ، وجماهيرية غاضبة؛ في الأسطر والحروف قبل المدرجات، وفي المعاني قبل الحماسة، وهي تلهث الأنفاس.
هل هناك اصطياد لأكثر من هذا الحماس:
نادراً ما يقول المشجّع: «اليوم سيلعب ناديَّ». إنّه عادةً ما يقول: «اليوم سنلعب نحن».
وكأنه يغوص بين الحشود الطائشة بالحماس، الفائزة والمهزومة. وهو بين هذا وذاك ، يراقب الأنفاس الحبيسة، وهي تجر أجسادها، الراقصة والباكية. لحظة تنطفىء الشرارة والإضاءة ، والأصوات ؛ ويبقى الملعب خاوياً مستوحشاً.
الكتاب عنوانه مُظلّل للمثقف المتبرج والعاجي، الذي يبغض مُستنقصاً في الوعي والمنزلة، الرياضة والملاعب، قبل الرياضي الحسير بمفرداته وعباراته الفقيرة، الغير محفورة في الورق. في الكتاب الذي يرميك بين حشود جماهيرية، وأجساد مُتعرقة، وحكام بزيهم الأسود، وحدّة وجوهٍ متبرمة، حدّ الكراهية، تتغنى بموسيقى صفارة ، تعلو بصرخةٍ وقشعريرة كلّ لحظة وشهقة.
لا أظنك إلا راكضاً، إن أخذت بك الثقافة مقتل، وابتعدت عن سحر الكرة، وصخب الملاعب، وجنون الجماهير. الكتاب نزهة للمُسربل بوعي زائفٍ، وكارهٍ لكل هوسٍ حاشدٍ لأقدامٍ تخبّ في الأرض وتصول. والكتاب سِفر للمثقف العائد بحنينه لمعشوقته الأولى، إن استوحشت به الدروب، وفاض به الزيف، وضاقت به الأوقات.
ولا أظنني مُغالياً حين اقتنيت أكثرمن نُسخة، لأحملها هدية لمن صال وجال معي راكضاً؛ لكنها ظلّت طريقها إلى الآخر المثقف المُتعالق معي بسحر العبارات، والإعجاب لصاحب المعانقات. ولم تكن عنونة طلاسم وتمائم، وحدها من تسحرني، لكنها تأخذني إلى زمني الكروي، وخذلاني ومغادرتي الأبدية، حتى وهو يصف بدقة صورة اللاعب: (كثيرٌ من اللّاعبين يدخلون الملعب بقدمهم اليمنى).
فقد دخلت يومها بقدمى اليمنى، لكن قدمي اليسرى لم ترف، ولو لقفزةٍ ولمسة. حتى رماني الحكم رشيد بتلويحة كارتٍ أحمر، وصرخة مدوية بصافرته؛ كفيلة بأن ترميني خارج الأخضر المستطيل، مهزوماً، أجر خيباتي قبل ظنوني.
ماذا لو رميت يومها الحكم رشيد بعد عقدين من تلك المنازلة، بكتاب غاليانو، وأن أشير لعبارته ووصفه:
(خلال أكثر من قرنٍ كان الحكم يرتدي لون الحِداد. على من؟ على نفسه؛ أمّا الآن، فإنّه يخفـي حِداده بالألوان).
لا أظنه سيبالي بذاك الوصف، وهو يُرددها مُتباهياً حين تُذكر، أو يتلاطفها بالتذكار:
ظلمت الدعبل بالكارت.
سيطوبني بحميميته، وأنسه في اللقاءات الخاطفة، ومثل كل مرة: لو ما كارت رشيد الأحمر، ماصرت كاتب.
جميل جداً