انتصار العوامي.. حلم تاروتي تحقق نصفه في الخرج .. واكتمل في الدمام والدها أول مرضاها .. وتفوق طالبات صفها حفّزها

سيهات: معصومة المقرقش
شأنها شأن اي طفلةٍ كانت تلهو بحقيبة الطبيبة البلاستيكية، وبين أحلامها الصغيرة، تمنت أن تكون طبيبة حقيقية، تفك شيفرة الأمراض لتحصل على دّعوات الأمهات، ولكن واقعها فرض عليها عكس ما تمنت فدرست التمريض في منطقة بعيدة عن مدينتها بمسافات بعيدة، ومارسته 7 سنوات بحبٍّ..
حلمُ انتصار العوامي، لم يقف على الإبر، وقياس الضغط، والسكر؛ فحسب فراحت تصول وتجول بين الجامعات السعودية، وغيرها حتى نالت ما تتمناه، وكانت طبيبة.
هذا الواقع لم يتحقق بين ليلة وضحاها؛ بل بعد رحلة مليئة بالانكسارات والتحديات الكبيرة، وعن قصتها، تقول الطبيبة انتصار ل صبرة “نشأت في عائلة محبة للعلم والتعلم؛ فوالدي خضر بن هاشم العوامي- رحمه الله تعالى- كان رجلا عصاميا، كافح وشجع أسرته على العلم وشجعني لأكون طبيبة ابتداء من تمثيلية كنت أجسد دورها على مسرح الروضة، مرورا بشرائه ألعابا عبارة عن حقيبة الطبيبة ومنها السماعة، وانتهاء بكونه مريضي الأول الذي مارست عليه الطبابة بكل فنونها، وهو مطمئن لي كل الاطمئنان، ناظرا إلي بعين حب واهتمام.”
حزم في الدراسة
أما عن والدتها؛ فتقول انتصار “على الرغم من أنها لا تقرأ ولا تكتب، ولا تعرف محتوى الكتب الدراسية من رياضيات، وعلوم، ودين، وقواعد لا نهاية لها، إلا أنها كانت حريصة على أن تكتب ابنتها التي هي أنا جميع فروضها وواجباتها المنزلية دون تهاون أو تكاسل، فتجلسني بجوارها يوميا بعد المدرسة؛ لتتابع معي إنهاء دراستها، وكأن القدر يوصيها بي خيرا.”
تحديات واخفاقات
تأثرت انتصار بوالدها، الأمر الذي دفعها إلى النجاح في حياتها العلمية، وكان قدوتها لتكون كما أرادت رغم العقبات والتحديات، وحول ذلك قالت انتصار: “واجهتني الكثير من الصعوبات خلال مسيرتي الدراسية، أولها تعثري في المواد الدراسية في المرحلة الثانوية، حينها شعرت بأني أمشي في ظلام، وعلي أن أصل إلى النور واجتهدت كثيرا في مذاكرتي؛ لأصل إلى حلمي.
تفوق صعب جداً
وتضيف” كان في المدرسة الثانوية الأولى بجزيرة تاروت صفاً واحداً فقط لثالث ثانوي علمي، وجميع طالباته على مستوى عالٍ من الذكاء؛ بل أن أحلام اغلبهنّ تتطلع لكلية الطب، وهذا ما كان يقلقني كثيراً ورحت أسال نفسي وأنا اتصفح وجه كل واحدة منهنّ وأقول: ” كيف انافسهنّ! وأظفر بمهنة طبيبة”، ظل السؤال يراودني كثيراً؛ وفي ظل هذا الوضع التنافسي، نقصت درجات معدلي نصف درجة نهاية العام الدراسي، ولم تجبر ولم يتم قبولي في جامعة الطب وفقاً لذلك”.
التمريض .. الحل
سجلت انتصار فورا ودون تردد في قسم التمريض التابع لكلية الخرج، ومع 5 فتيات وشهاداتهن الثانوية سارت معهن في سيارة صغيرة بالكاد تكفيهن لمنطقة الخرج، وشاء القدر أن تقبل انتصار دون الخمس.
مرتبة شرف
وتابعت انتصار “فعلا درست بكل جد واجتهاد في قسم التمريض، وتخرجت بامتياز مع مرتبة الشرف، وكل هذا الاجتهاد كان هدفه الأول والأخير وصولي إلى كلية الطب مهما كانت الوسيلة، حتى أني مارست مهنة التمريض سبع سنوات، وخلال هذه السنوات كنت أبحث عن أي طريق يوصلني إلى بوابة كلية الطب.”
البحث عن كليات طب
انتصار التي لم تتنازل عن حُلمها لحظة واحدة، مستمدة من أسمها قوته في النصر؛ ذهبت تطرق أبواب كليات طب خارج المملكة؛ فسجلت أولاً في جامعة إربد للعلوم والتكنولوجيا بالأردن، ودرست 3 أشهر، ولكن لم تواصل دراستها؛ لأنها لم تتحمل الغربة كثيراً، وعادت مجدداً إلى أحضان مهنتها التمريض، وسجلت مرة أخرى في جامعة الطب الإيرلندية بمملكة البحرين كونها أقرب إلى وطنها وعائلتها، ووافقت الجامعة على طلب تسجيلها، ولكن لم تكمل دراستها فيها كون الجامعة غير معترف بها لدى السعودية، وعادت لأدراجها مجدداً للتمريض.”
الحلمُ كاد يتحقق
ظلت الأفكار تراود انتصار بين فينة والأخرى، ولكن هذه المرة ليست عن طريقها بل عن طريق زميل عمل تواصل معها ليبشرها أن بإمكانها دراسة الطب في إحدى الجامعات بالرياض، وأن القبول فوري فيها، وعن هذه التجربة الثالثة قالت “ذهبتُ للتسجيل فعلاً، وقُبلت، واستقلت من التمريض، وتحولت على المنحة، وبعد الدراسة بعامٍ أغلقت الجامعة لأنها غير مؤهلة لدراسة الطب.”
بأمر من الملك عبد الله
باتت انتصار تجر خيبات الأمل؛ فلا طب ولا تمريض، وكادت تفقده؛ لولا رحمة الله بعباده أولاً، وبأمر من الملك عبد الله – رحمه الله تعالى- أن يُنقل كل طالب من الجامعة المنكوبة إلى أقرب جامعة طب قريبة منه؛ وفعلاً نقلت انتصار إلى جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل، ودرست الطب بجميع مراحله حتى نالت شهادة البكالوريوس، وتوظفت بها في إحدى مستشفيات الشرقية.
ممنونة للتمريض
انتصار الطبيبة، التي مارست مهنتها دون خوف وقلق من المرضى، وكانت الفتاة الأولى التي دخلت كلية الطب من بين متفوقات صفها، تقول إنّ مهنة التمريض السابقة علمتها وصقلتها وشدت عودها، وكانت باباً لتدخل منه إلى فن التعامل مع المرضى بشتى أنواعهم، فضلاً عن أن التمريض أكسبها خبرة وتعود على أروقة المستشفيات، وخفف عنها الكثير من أعباء دراسة الطب.
من العام للتخصص
يبدو أن انتصار هدفها ليس فقط البكالوريوس في الطب العام فقط؛ بل لها طموح أكبر من ذلك بكثير، فعينيها موجهتان بشكل ثابت نحو تخصص طب أطفال، وتتمنى من الله العلي القدير أن تواصل مسيرتها الطبيبة، ونيل الدرجات العالية لتكون بروفيسورة في هذا المجال.
وعن سبب اختيارها لطب الأطفال قالت “اخترتُ تخصص طب أطفال لأنه يجمع بين التحدي العلمي والجانب الإنساني؛ فالأطفال ليسوا مجرد بالغين صغار، وتشخيص الأمراض لديهم يتطلب مهارة ودقة عالية، إضافة إلى فهم مراحل النمو والتطور، كما أن التدخلات الطبية المبكرة في هذه المرحلة العمرية يمكن أن تُحدث فرقًا كبيرًا في مستقبل الطفل الصحي، أؤمن أن طب الأطفال مجال يمنحني الفرصة لتقديم رعاية شاملة تؤثر إيجابيًا على الفرد والأسرة والمجتمع.”
محاولات كسر
ولأن حياة انتصار العملية لم تكن سهلة ولا مفروشة بالورود كما يُظن، تخللتها عقبات وتحديات، تخللها أيضاً محاولات تثبيط للعزيمة وقتل للأحلام، فكانت تلقى على مسامعها من المحيطين بها كلمات قاسية يشككونها في قدرتها على مواصلة دراستها للطب، كونه من التخصصات الصعبة التي تحتاج إلى المذاكرة اليومية الجيدة، ولكنها كانت أهلاً لهذا التحدي والسهر، وجديرة بتحقيق ما كانت تصبوّ إليه منذ نعومة أظافرها.
سرقة الوقت
وعن حياتها الاجتماعية خلال فترة دراستها للطب، لفتت انتصار إلى أن دراسة الطب أخذت منها حياتها الاجتماعية، ووقتها وراحتها، وكانت مقصرة تجاه عائلتها، فلم تستطع الموازنة بين الدراسة والحياة الاجتماعية وهي تلتمس العذر منهم.
وقفة شكر
واليوم، وبعد جني ثمار طموحها الكبير وملاحقتها له ليل نهار، تذكر انتصار أختها زلال التي كانت تقف معها في كل صغيرة وكبيرة تشجعها وتشد من أزرها، ومواقفها الكبيرة معها لإتمام دراستها، إلى جانب تشجيع صديقاتها فترة استقالتها من التمريض؛ للاستمرار في طلب العلم والمواصلة لتحقيق الهدف، ناهيك عن الطبيبات اللاتي لهن مواقف لا تنسى، حيث عرضن المساعدة لها أثناء دراستها الجامعية للطب، كما قدم لها كلا من الاستشاري يوسف الهوساوي، والاستشارية اسماء الغنيم كل آيات التشجيع لمواصلة تعليمها ونيل درجة التخصص.
طموح يحتفى بهن
وفي ختام حديثها، وجهت الطبيبة انتصار العوامي الحاصلة أيضاً على الحزام الأزرق للعبة التايكوندو، توجهت إلى زميلاتها الطبيبات والممرضات برسالة قالت فيها “فخورة بكوني بين نساء قويات مثلكنّ، جمعنا الطب والتمريض، وربطتنا رسالة إنسانية عظيمة، كل تعبكن اليوم هو خطوة نحو حلم أجمل وغدٍ أرقى، فلا تفقدن الشغف، ولا تسمحن للعقبات أن توقفكنّ، أؤمن أن المستقبل بانتظاركن، فطموحكن يستحق أن يُحتفى به دائمًا”.