بين قانون مورفي وحكمة علي.. خذها ولا تخف كيف نعبر حاجز الخوف الى المستقبل..؟
علي الشيخ أحمد
قبل سنوات عديدة، عندما كان أبنائي يخطون خطواتهم الأولى نحو عالم المراهقة، كنت أشعر وكأنني أراقب زهورًا تتفتح في حقل بعيد، تنأى بأنفسها عن جذورها التي طالما اعتادت عليها. كان هناك أصدقاء جدد ينسجون خيوط حياتهم حول أبنائي، خيوطًا لم أكن أعرفها، ولم أكن جزءًا منها.
في البداية، ظننتُ أن هذا التغيير طبيعي، لكن مع مرور الوقت، بدأت أشعر كأنني على شاطئ يذهب إلى بحر بعيد لا أستطيع بلوغه. أبنائي كانوا يبتعدون، يقضون وقتهم مع أصدقائهم أكثر مما يقضونه مع العائلة، وهنا تسلل القلق إلى قلبي كضباب رمادي لا ينقشع. بدأت أشعر بأن خيوط التواصل التي جمعتنا في طفولتهم بدأت تتفكك، وأنني أفقدهم ببطء.
في خضم حياة مرهقة ودوامة يوميات العمل التي لا تتوقف، كان عقلي يلح عليّ بسؤال واحد:
كيف يمكنني إعادة بناء تلك الجسور التي بدأت تتآكل؟
كيف يمكنني أن أظل رفيقًا في رحلتهم دون أن يشعروا بأنني أضغط عليهم أو أفرض عليهم وجودي؟
كنت كبحار يبحث عن بوصلة جديدة بين أمواج الحياة.
ووسط تلك الحيرة، لمعت في رأسي فكرة بدت لي وكأنها المنقذ: جهاز بلايستيشن وشاشة كبيرة. فكرت في أن هذا قد يكون حبلاً يربطني بهم، وسيلة تجمعهم في المنزل وتحت نظري بدلًا عن أن يكونوا بعيدين عني في أماكن لا أعرفها.
ولكن، تلك الفكرة كانت تحمل في طياتها معاناة داخلية. كنت أشعر بأنني أقف عند مفترق طرق، طريق يأخذني نحو ما أعتقد أنه الأفضل لعائلتي، وطريق آخر يقودني نحو قيم نشأت عليها، تلك التي تقول إن الإسراف بشراء شاشة كبيرة خطأ وأنه قد يجلب عليّ سخط الله.
كنت أشعر بأنني أمشي على حبل رفيع مشدود بين العقل والقلب، بين الحكمة والخوف. في النهاية، قررت أن أقفز من هذا الحبل، فاشتريت الشاشة.
مع مرور الزمن، اكتشفت أن هذا التردد لم يكن مجرد قرار متعلق بشاشة أو جهاز. كان جزءًا من صراع داخلي أعمق بكثير، صراع يشبه الأشجار التي تتصارع جذورها مع الأرض القاسية. كل قرار نواجهه يحمل في داخله خوفاً من مجهول، والخروج عن المألوف يضخم تلك المخاوف حتى تبدو لنا أكبر مما هي عليه في الواقع. ما كان يبدو لي عقبة كبرى في تلك اللحظة الغابرة، أصبح الآن ذكرى بعيدة أضحك منها وأنا أتذكرها.
أدركت مع الوقت أن التردد هو رفيقنا الدائم في الحياة. لا يتعلق فقط بالقرارات الصغيرة مثل شراء شاشة، بل يمتد إلى كل قرار كبير وصغير يشق طريقه في حياتنا. إنه الصراع الذي نعيشه جميعًا: بين الحذر الذي يدفعنا للتمسك بالمألوف والشجاعة التي تدعونا لتبني التغيير والدخول في المجهول.
كم مرة نجد أنفسنا أسرى لقناعات قديمة، تحذيرات لا واعية تزرع فينا الخوف من الخروج عن ما نعرفه، حتى وإن كان التغيير هو السبيل الوحيد للتطور؟
تمامًا كما يقول قانون مورفي: “كلما زاد خوفك من أمر ما، زادت احتمالية وقوعه”، نجد أن التردد يزيد من حجم العقبات التي نصنعها بأنفسنا.
لكن، قول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام كان هو الشعلة التي أنارت طريقي: “إذا هبت أمرًا فقع فيه، فإن شدة توقّيه أعظم مما تخاف منه”.
أدركت أن المواجهة هي الحل الأمثل. كلما واجهنا مخاوفنا، وجدنا أنها تتضاءل، مثل ظل طويل ينكمش كلما اقتربنا منه.
واليوم، ما زلت أواجه التردد في بعض القرارات. كأنما يتجدد الصراع نفسه الذي عشته منذ سنوات. لكنني أدركت الآن أن هذه المخاوف، مهما بدت كبيرة، ستصبح يومًا ما ذكرى قد أضحك منها. ربما سيتكرر هذا الضحك في المستقبل، عندما أجد نفسي مرة أخرى أمام قرار جديد يعيد إحياء تلك المشاعر.
الحياة تطالبنا دائمًا بأن نكسر الجدران الوهمية التي نصنعها بأنفسنا. تلك الجدران المصنوعة من خوفنا وترددنا، من الأفكار القديمة التي تجعلنا نتمسك بما نعرفه ونهرب من المجهول. كلما تجاوزنا مخاوفنا، صنعنا مسارات جديدة في حياتنا، مسارات تجعلنا ننظر إلى الوراء بفخر، ونتأمل ما صنعناه بفرح، أو ربما بدرس تعلمناه. المهم ألا تمر السنوات دون أن نحمل معنا ما يستحق أن نرويها لمن سيأتي بعدنا.
ومع كل هذا، نجد أن التكنولوجيا اليوم قد فتحت لنا أبوابًا لم تكن متاحة للأجيال السابقة. لقد جعلت من التغيير ضرورة لا مفر منها، فالإنترنت والتقنيات الحديثة قد جمعت العالم بأسره في شاشة صغيرة بين أيدينا. لم يعد هناك حاجة للانتقال إلى مدينة أخرى أو بلد آخر بحثًا عن فرص جديدة؛ العالم كله بات في متناول اليد. لقد أصبح التغيير أكثر سهولة، وعلينا أن نكون شجعانًا بما يكفي لاستغلال هذه الفرص.
وفي هذا العصر الجديد، يتميز الجيل الحالي بقدرته على استغلال هذه الفرص بطرق مبتكرة. في زمننا السابق، كانت القرارات الكبرى مثل الانتقال إلى مدينة أخرى أو تغيير المسار الوظيفي مليئة بالتردد والخوف من المجهول. أما اليوم، فيمكن للشباب أن يخوضوا تجارب جديدة، ويوسعوا آفاقهم دون الحاجة إلى مغادرة منازلهم. التكنولوجيا لم تعد مجرد وسيلة للتواصل أو الترفيه، بل أصبحت منصة لاكتشاف مسارات جديدة في الحياة، سواء في العمل، التعليم، أو حتى العلاقات الاجتماعية العابرة للحدود.
لكن مع كثرة هذه الفرص، تظهر تحديات جديدة: كيف يمكن للجيل الحالي أن يميز بين الفرص الحقيقية والمشتتات؟ في هذا العصر، يمكن لأي شاب أن يبني مشروعًا عالميًا من غرفة منزله، لكن النجاح الحقيقي يكمن في القدرة على الاختيار الصحيح. الاختيار بين ما يفيد وما يشتت. في النهاية، تبقى الحدود التي يجب أن نبنيها هي تلك الحدود الداخلية التي تحمي عقولنا من الانغماس في دوامة المشتتات، وتحفظ تركيزنا على ما هو مهم حقًا.
وفي الختام، علينا أن نفهم أن الخوف ليس سوى إشارات خفية توجهنا نحو ما قد يكون أفضل لنا. كل تردد نشعر به هو فرصة تنتظر منا أن نلتقطها، وكل خطوة نخشى اتخاذها هي في الحقيقة باب يفتح لنا نحو إمكانيات لا نعرفها. في كل مرة نخاف من التغيير، يجب أن ندرك أن الخوف ليس خارجنا، بل هو داخلنا، يصنع تلك الجدران التي تمنعنا من رؤية النور الذي ينتظرنا في الطرف الآخر. فكل ما علينا فعله هو أن نأخذ نفسًا عميقًا، ونمضي قدمًا.
مقال جميل جدا ورائع ودعوة للاندفاع دون تردد و دخول في التجارب الجديدة من غير قلق.
كنت أتمنى أن يستعرض الكاتب أن الحذر والشك خصلتان جيدتنان أيضا.
لو أني اندفعت للتجربة الجديدة عن طريق اتصال هاتفي أو موقع الكتروني يفتح الأمل لي في فرصة استثمارية قد لا تعود.
هنا قد وقعت فريسة للنصابين. فليس كل مجهول تقتحمه شجاعة وليس كل معلوم تتجنبه جبن.
تحياتي لك أخي الكريم وللصحيفة الهادفة