نحنّ إليها.. ولا نرضاها لأبنائنا

حبيب محمود

في بداية الثمانينيات؛ تحوّلنا من بيتنا البسيط في “فريق لـِفتية” في العوامية؛ إلى منزلٍ مسلّحٍ وحديثٍ في الحي المعروف بـ “المزروع أ”. المنزل الجديد بناه أخي، عبر برنامج تملّك البيوت الذي ترعى فيه أرامكو موظفيها.

فرقٌ شاسعٌ بين بيت “صنادق” وآخر مبنيٌّ على شروط أرامكو وموافقتها على تفاصيله منذ مرحلة التخطيط إلى السكن الفعلي.

لم نفهم، وقتها، تمنُّع جدتي لأمي ـ السنابسية ـ في الانتقال معنا. أصرّت على بيت “الصنادق”، وعلى التمسك بالعوامية التي عاشت فيها منذ زواجها. أما نحن؛ فقد فرحنا بـ “الزوالي” ومجلى مطبخ الرخام، وحمام السراميك والبانيو، والغرف التي تحتفظ بـ “براد” التكييف، وبـ “تهوية” يمكننا زراعتها كما نشاء..!

ولا مقارنة، ولا قياس. ومع أن بيت “الصنادق” كان تطوُّراً عن بيت “عشيش” في ذلك الحيّ الواقع شرقي مسوّرة العوامية مباشرة؛ فإنه لا يمكن وضع مقارنة.

وحين وصلت إليه الكهرباء، أواخر السبعينيات، لم تنجح المكيفات في تخفيف الحرّ والرطوبة كثيراً. وعند المطر؛ نخوض في مستنقع مُوحل، وننقل “دواشقنا” من مكان إلى آخر بعيداً عن الأماكن التي “تخرّ” من سقف الخشب بعازله “المشمّع” الأسود..!

رفضت جدتي “التحوال”، ونزلنا عند رغبتها.

ولأن “المزروع أ”؛ كان قليل المنازل المتباعدة، ولا حياة اجتماعية فيه؛ كلّفني أخي ـ في دوامه المتقلب ـ أن أكون سائقاً لأمنا.. ولزوجته..!

آخذ أمنا إلى العوامية، وزوجته إلى سنابس.. وبالطبع؛ كنتُ سعيداً سعادة المراهق الذي يُعطى سيارة، فيقدّم ـ لقاء هذه المنحة ـ خدمات التوصيل. حتى لو طًلب إليه نقل أكياس إسمنت على ظهره، أو إيصال عامل سباكة “عرقان”، من أجل تركيب “كابلينج” في شبكة الماء..!

المهم أن يتمكن من سيارة يقودها كما يشاء.

وذات زورة لجدتي في منزلنا القديم “الصنادق”؛ قرّرت الاستحمام في الـ “بُرْچه” المحاطة بـ “شيتات” خشب تشلّخت بفعل الزمن، وفي تلك البركة “رشّاش ـ دُش” من “بيب نص إنچ” يصبّ مباشرة على رأس المستحم.

وفي اللحظة التي بدأ الماء يسقط على رأسي؛ شعرتُ بشيء يُشبه البكاء..!

إنه الإحساس الذي لم تكن جدتي تريد حمله. إنه إحساسُ كلٍّ منّا حين تتحوّل حياته، حتى وإن كان إلى حالٍ أفضل. لا مقارنة بين بيتنا القديم وبيتنا الجديد؛ حين يتعلق الأمر بالشعور. السعة لذيذة، والرفاهية مطمعٌ ومطمحٌ، ولكنّ هناك ما نفقده أيضاً، ثمناً لذلك.

والأشدُّ أثراً؛ هو أننا لا نريد أن نعود إلى ما كنا عليه. بالتأكيد لا أحد يريد أن يعود إلى الحر والرطوبة ووحل المطر، وتماس المطر والكهرباء والخوف من الحريق. لا أحد يضحّي بجودة حياته من أجل “حنين” أو “تذكار” أو شعورٍ..!

حين نشاهد صور ماضي قرانا ومدننا؛ يتلبّسنا حنينٌ، نظنّ أنها كانت حياة طيبة. هي لم تكن كذلك تماماً. ولو عُرض علينا أن نستعيدها ليعيشها أبناؤنا؛ لتأبّينا رفضاً وترفُّعاً. نحن عشناها؛ لأنها كانت واقعاً لا يمكننا تغييره، وحين يتغيّر ما حولنا كله؛ يخالطنا حنين.. أما وضع أبنائنا فيها؛ فلا..!

التحوُّل مؤثرٌ شعورياً، لكن الحياة يجب أن تستمرّ وتتحوّل وتتطور. ومستوى الحياة لا بدّ من تحسينه.

الحمد لله على نعمة العافية والكفاية.

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×