في تاروت.. ما زال “الزفر” قبل “المهر”.. والأفضل “كاش”..! "قسّموا سَمچْها" إشهار الخطبة.. والعادة تتأرجح بين الاستمرار والتراجع
تاروت: فيء السنونة
في مدينة صفاقس التونسية؛ تُمر العروس بالقفز فوق السمك مرّاتٍ عديدة. وفي مدينة بنزرت ـ التونسية أيضاً ـ تُربط سمكة كبيرة في قدم العرويس، فتجرّها مسافة قصيرة، ثم تقفز فوقها 7 مرات لإبعاد الشر والحسد..!
أما في مدينة تاروت السعودية؛ فإن السمك يُعامل معاملة أخرى، وذلك عبر وضع شرط خاص في عقد الزواج، هو تسليم كمية من السمك، ليتمّ توزيعها على أقرب المقربين من عائلة العروس.
وعلى وقع المقولة الشعبية “قدموا الحوت للعروس لتزيد البركة”، لا تزال عادة تقديم السمك لإشهار الزواج في جزيرة تاروت تتأرجح ما بين إعادة إحيائها بكل تفاصيلها المتوارثة أباً عن جد، وبين رفضها بكل ما جاءت به.
وجزيرة تاروت -إحدى جزر المملكة العربية السعودية- الواقعة في الخليج العربي ورابع أكبر جزره تختص بعادات وتقاليد يرجع عمرها إلى مئات السنين؛ حيث يؤمن الكثير من قاطنيها بمقولة (قدموا الحوت)؛ وتطبق هذه المقولة عند الخطبة؛ حيث يقدم المتقدم للخطبة سمكاً لخطيبته بعد الرد عليه بالإيجاب وقبل عقد النكاح؛ اعتقاداً منهم بأن السمك مصدر خير وبركة لهذا المشروع المقدس، ثم تقوم أم الفتاة بتوزيع ما قدمه خاطب ابنتها من سمك على الأهل والجيران المقربين إشهاراً لخطوبة ابنتها.
عادة قديمة
المؤرخ والمشغول بتوثيق التراث عبد الله العبد المحسن، يقول إنها عادةً قديمة جداً. وربما يكون سببها أن السمك كان متوفراً بكثرةٍ ورخيص الثمن آنذاك، مشيراً إلى أن الناس اعتادوا تقديم سمك “الصافي” بالرغم من أن اختيار نوع السمك ليس شيئاً إجبارياً بل جرت العادة على اختياره.
ولفت إلى أن المتعارف عليه قديماً أن تُوزّع سمكتان لكل عائلة من الأهل والجيران وثلاث سمكات إن كان العريس ثرياً وما قدمه كان كثيراً.
لا معلومات عنها
ويؤكد الباحث سلمان الرامس أنها من العادات والتقاليد الضاربة في القدم، ولكن لا نملك بين أيدينا أي معلومات كافية عن أصلها التاريخي الحقيقي التي منه بدأت وانتشرت على امتداد ساحل جزيرة تاروت، ولكن ما زال بعض المؤرخين المهتمين قائمين على البحث.
عُرف ملزم
ويبدو أن أهل الجزيرة لا يتفقون جميعاً على إحياء هذه العادة، فعضو مجلس التنمية السياحية في المحافظة حسن آل طلاق -الذي كان مشرفاً على إدارة مهرجان الدوخلة لعدة سنوات- لا يقرُّ بهذه العادة لاعتبارها عرفاً ملزماً للمجتمع ولها قدسية عند البعض.
منّان صافي
ويقول على الرغم من كل ذلك فهي كانت تعتمد قديماً على إمكانيات العريس المادية؛ حيث يقدم البعض السمك وبعض العصير، والسكر، والماء، والتتن، والفحم، والقهوة والشاي، بينما يكتفي البعض الآخر بتقديم السمك فقط؛ وغالباً ما كان (منّين) من السمك الصافي فقط.
يضيف: قبل المهر؛ يُرسل السمك مع إحدى نسوة الخاطب لمنزل أهل العروس، أو تحضره والدته.
مهنة الصيد
أما الفنان التشكيلي محمد المصلي الذي بدأ سعيداً بالتحدث عن هذه العادة التي توارثتها الجزيرة منذ مئات السنين، يوضح أن أهل تاروت اشتهروا بها لامتهانهم مهنة صيد السمك ، حيثُ كانت تكثر (الحظور: أي مصائد السمك) في أماكن كثيرة. ويرغبون في تناوله أكثر من اللحم والدجاج بسبب توفره بكثرة ولمنافعه الغذائية.
رجل الأعمال المهندس عبدالشهيد، تزوج من عراقية، ودخل بزوجته في وطنها، سنة 1979، ومع ذلك أصرت والدته، رحمها الله، على توزيع السمك إشهاراً للخطبة في تاروت.
كما أن جميع أولاده وبناته “خضعوا” للتقليد نفسه في زيجاتهم.
المهندس السني قال لـ “صُبرة” إنها عادة مستحسنة، ولها ارتباط بهوية المكان والبيئة المحلية، كما أنها فعل رمزي.
ومثله عبدالباري الدخيل الذي أهداه صديقه الصياد السنابسي منير العبيدي منين (32 كليو) من سمك الصافي، ليقدمه ضمن المهر لأهل خطيبته.
الحوت بركة
الحاجة زينب الأسود التي في جعبتها الكثير من الحكايات عن هذه العادة تقول: اعتاد أهالي الجزيرة تقديم السمك قبل المهر، منّ واحد أو منّين من أجود أنواع السمك كالصافي أو الشعري، وتحضره نساء عائلة الخاطب في (مرحلة) مع مبلغ ألف ريال، ويقدم عادة لوالدة الفتاة مع ترديد الصلاة على محمد وآل محمد وإظهار البهجة بـ (الولوال).
لماذا السمك؟
وتنوه بأن السمك يُقدم على وجه الخصوص، ولا يقدم اللحم أو الدجاج؛ لاعتقادهم ببركة السمك، وأن اللحم والدجاج أقل بركة وربما كان مصدراً للتشاؤم عند البعض. إلى جانب اعتقادهم بأن كل أفراد المجتمع يحبون السمك ويرغبون بتناوله بينما البعض لا يرغب بتناول اللحم أو الدجاج.
انقال..!
والحاجة الأسود التي كان زواجها قبل أكثر من ٥٠ سنة؛ عبرت بضحكة عن تعجبها وأمها مما قدمه زوجها -رحمه الله- لها عند خطبتها؛ حيث قدم لها نصف خيشة (نقال) لأنه ليس من أهالي جزيرة تاروت وهذا يدل على اختلاف العادات والتقاليد بالرغم من القرب الجغرافي بين المناطق.
قليل للعائلة .. كثير للجيران
أما الحاجة نعيمة آل حسين التي تحدثت عن توارث هذه العادة ووصولها لهذا الوقت باعتزاز تقول بعد تحديد موعد العقد والاتفاق على المهر والأمور الأخرى، وظهور نتيجة التحاليل وقبل العقد ببضعة أيام يُقدم السمك للعروس، ولكن بالاتفاق المسبق بين عائلتي الخاطب وخطيبته على كمية السمك المرغوب توزيعه، فالقليل لنطاق العائلة، والكثير لخارج نطاق العائلة.
وتشير إلى أن بعض العوائل تفضل أن يحضره الرجال فقط، بينما العوائل الأخرى تحضره النساء والرجال معاً، مع مبلغ من المال وذلك حسب الاتفاق المسبق.
إشهار للخطبة
وتوضح أن توزيع السمك يعدُّ نوعاً من الإشهار للخطبة لجميع الأهل والأحباب، يقال عادة (فلانة انخطبت وقسّموا سمكها) وتختص جزيرة تاروت بكل مناطقها وسواحلها بهذه العادة على خلاف المناطق الأخرى خارج الجزيرة.
فلوس بدل السمك
وتلفت إلى أن بعض العوائل لا ترغب في توزيع السمك وتطلب بدلاً عنه مبلغ ألف أو ألفين ريال، وبعض العوائل لا تطلب مالاً ولا سمكاً باعتبارها من الأعراف غير الملزمة للفرد كما يقال.
خيشة بيدان
الحاجة فاطمة سعيد التي قدم مع السمك الخاص بإشهار خطبتها خيشة بيدان تقول: قدم أهل زوجي لأهلي قبل ٤٤ عاماً خيشة بيدان، وسمك صافي مع مبلغ ٣٠٠ ريال كهديةٍ، ووزع السمك على الأهل والجيران.
مقلي لا مشوي
ويبدو أن سمك الاشهار بالخطبة دخلت عليه بعض المعتقدات كذلك، فهو لا يؤكل مقلياً بل مشوياً لخرافةٍ تناقلت أن شيهِ يؤثر سلباً على الزواج وربما يصحبه مشاكل وعراقيل كثيرة أو ينتهي بطلاقٍ بحسب الحاجة فاطمة.
من عادةٍ إلى نذر
العادة في إشهار الخطبة انتقلت من جزيرة تاروت إلى بعض قرى محافظة القطيف، ولكن مع بعض التعديل في العادة فبدلاً أن يكون سمكاً ومبلغاً من المال كان ربياناً وملحاً خشناً، وبدل أن يكون عرفاً كان نذراً نذرته والدة العروس مسبقاً إن خُطبت ابنتها أن تقدم لجيرانها طبق ربيان وتُلزم العريس بتوفيره خارج مال المهر.
إضافات .. مشمر وبيدان
فيما تفننت بعض النسوة وأضافت على هذه العادة ربيان وبعض من البيدان والحلويات أو النقال والحلويات بدلاً من الملح أو مشامر زاهية الألوان تلبس في الأعراس فقط، وحلويات وبيدان توضع جميعها في قفة كبيرة وتطوف بها أم العروس بيوت جيرانها وأهلها معلنة خطبة ابنتها.
توزيع السمك لإشهار خطوبة كان في القطيف أيضا وقد شاهدت وانا صغير قبل ٦٠ سنة تقريبا في حي الشويكة يوزع السمك على بيوت الجيران ويوزعون السمك من سيارة مليئة بالسمك )قد يكون منوع حسب المتوفر في السوق( ويقوم الموزع بوضع اي عدد من السمك في صحن ويطرق باب البيوت بيتا بعد الآخر فيسلمهم السمك ويقول خطبة فلانة……فيدعون لها بالبركة. وهذه العادة انقطعت تماما بعد ذلك. واتمنى ان توثق هذه العادة من خلال مسرحيات او اعمال درامية لأن الجيل الجديد لم يعايشها بل ولم يسمع بها.
ومن العادات الجميلة أيضا والتي تستحق الذكر الإحتفال عن طريق توزيع الحلويات مع ما يشبه الزفة الصغيرة لمن يصل في تعلمه القرأن الكريم الى سورة المائدة. يطوفون به في أزقة الحي.